الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
183 - مالك بن أنس الأصبحي الإمام:
قال الأستاذ (ص 100) عند ذكر الموالي: «حتى إن مالكًا منهم عند الزهري ومحمد بن إسحاق» . وفي الحاشية: «حيث قال البخاري
…
[1/ 382] بسنده إلى ابن شهاب الزهري: حدثني ابن أبي أنس مولى التيميين. وابن أبي أنس [نافع بن]
(1)
مالك هذا عمُّ مالك بن أنس رضي الله عنه».
أقول: كلمة «مولى» تطلق في لسان العرب على معاني مختلفة منها الحليف، وذلك معروف مشهور في كلامهم وأشعارهم، وهو المراد هنا كما بيَّنه مالك وغيره. وابن أبي أنس الذي روى عنه الزهري هو نافع بن مالك بن أبي عامر، وقال البخاري في «تاريخه»
(2)
في ترجمة نافع هذا: «الأصبحي حليف بني تيم من قريش» . وقال في ترجمة أبيه مالك بن أبي عامر: «الأصبحي حليف عثمان بن عبيد الله التيمي»
(3)
. وهكذا قال في ترجمة مالك الإمام
(4)
. فأما ابن إسحاق فيظهر أنه إنما كان يطلق أن مالكًا مولى، يريد أنه حليف، ولكن يُحبّ أن يوهم خلاف ذلك لكدورةٍ كانت بينه وبين مالك.
ولا نلوم الأستاذ في التشبُّث بالشبهات، فإنه أقام نفسه مُقامًا يضطره إلى ذلك. ولكننا كنا نودّ لو أعرض عن الشبهات التي قد سُبِقَ إليها فحُلَّت
(1)
سقطت من (ط)، وهي في «التأنيب» .
(2)
(8/ 86).
(3)
(7/ 305).
(4)
(7/ 310).
وانحلَّت واضمحلَّت، واقتصر على الشبهات الأبكار التي يجد لذّةً في اختراعها، ويجد أهلُ العلم لذةً في افتراعها!
وذكر الأستاذ (ص 116) ما روي عن مالك أنه ذكر أبا حنيفة فقال: «كاد الدينَ، كاد الدينَ» . قال الأستاذ: «لست أدري كيف يرميه من يرميه بكيد الدين مع أنه لم يكن متساهلًا في أمر الطهور، ولا متبرئًا من المسح على الخفين في رواية من الروايات، ولا منقطعًا عن الجمعة والجماعات .... » .
ذكر الأستاذ أمورًا تُنسَب إلى مالك ليس فيها ما يداني ما عِيبَ به غيرُه، بل ليس فيما يصحُّ منها بحمد الله عز وجل ما يسوِّغ لذي علم أن يذكره في معرض العيب. وأشفُّها لزومُ البيت وتركُ حضور الجماعة، وقد روي عن مالك أنه قيل له في ذلك فقال:«ليس كلُّ الناس يقدر أن يتكلم بعذره» . فعرف الناس أن له عذرًا، وعلموا أنه مؤتمن على دينه، ما كان ليمنعه من ذلك إلا عذر شديد. وقد يكون ذلك كراهية الصلاة خلف أمراء الجور، ومثل هذا العذر لو باح به بطشوا به وأفقدوا الأمة علمه وإمامته، وفي ذلك من الضرر على الدين والأمة ما فيه.
وقال الأستاذ (ص 67): «ذكر المبرد في كتاب «اللحنة» عن محمد بن القاسم التمائمي عن [1/ 383] الأصمعي قال: دخلت المدينة على مالك بن أنس، فما هِبتُ أحدًا هيبتي له، فتكلم، فلحن، فقال: مُطرنا البارحةَ مطرًا أيَّ مطرًا. فخفَّ في عيني فقلت .... فقال: فكيف لو رأيتم ربيعة؟ كنا نقول له: كيف أصبحت؟ فيقول: بخيرًا بخيرًا».
أقول: هذه الحكاية منكرة عن الأصمعي، فيُنظر مَن حكاها عن كتاب المبرّد. وعلى فرض ثبوتها عن المبرّد ففيه كلام معروف. ومحمد بن
القاسم التمائمي لم أعرفه، ولعله محمد بن القاسم اليمامي وهو أبو العيناء، أصله من اليمامة، وليس بثقة. قد اعترف بوضع الحديث، فما بالك بالحكايات. ومما يدل على بطلان هذه الحكاية أمور:
الأول: أن الأصمعي كان من أشدِّ الناس توقيرًا لأئمة السنة.
الثاني: أنه كان مبجِّلًا لمالك حتى رُوي عنه أنه كان يفتخر بأن مالكًا روى عنه.
الثالث: أن فيها قَرْنَ مالكٍ بشيخه ربيعة، وهذا يدل على تحري الطعن في علماء المدينة، وليس ذلك دأب الأصمعي، إنما هو دأب أصحاب الرأي.
الرابع: أن اللحن الذي تضمنته الحكاية خارج عن المعتاد؛ فإن العامة فضلًا عن العلماء يقفون بالسكون. وهذا كله يدل أن هذه الحكاية فِرْية قُصِد بها الغضُّ من علماء المدينة.
وقال الأستاذ (ص 106): «ومالك هو القائل في أبي حنيفة
…
عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري
…
وهو الذي كان عنده عن أبي حنيفة فقط نحو ستين ألف مسألة، كما رواه الطحاوي بسنده عن عبد العزيز الدراوردي ونقله مسعود بن شيبة في «كتاب التعليم» ، وكان يستفيد من كتب أبي حنيفة كما ذكره أبو العباس بن أبي العوام بسنده .... وكان يذاكره العلمَ في المسجد النبوي كلما قدم، كما ذكره الموفق الخوارزمي وغيره».
أقول: الحكاية الأولى لم يذكر سندها. والثانية منكرة ولم يذكر سند الطحاوي، ثم إن لم توجد إلا في «كتاب التعليم» فكتاب التعليم حديث
خرافة كما بينته في «الطليعة»
(1)
وغيرها. والثالثة يُعْلَم حالها من حال ابن أبي العوام
(2)
وسنده. والرابعة يراجع ما قد يفيدها في «مناقب أبي حنيفة» للموفق (ج 2 ص 33) ــ ليعرف ما في تلك الأسانيد المظلمة. وليت الأستاذ جاء بخبرٍ واحد قوي يمكنه أن يَثْبت قليلًا أمام الأخبار التي يضج منها الأستاذ!
[1/ 384] وقال الأستاذ (ص 105): «وكان مالك صاحب القِدْح المعلَّى في الرأي .... وما ردَّه من الأحاديث التي رواها هو بأصح الأسانيد عنده في «الموطأ» ولم يعمل هو به يزيد على سبعين حديثًا
…
عن الليث بن سعد قال: أحصيتُ على مالك بن أنس سبعين مسألة كلُّها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم مما قال فيها مالك برأيه
…
وما دوَّنه أبو العباس محمد بن إسحاق السراج الثقفي من مسائله البالغة سبعين ألفًا كما في «طبقات الحفاظ» للذهبي (ج 2 ص 269) صريح في أنه كان من أهل الرأي ...... ».
أقول: أما الأحاديث فقد توقف مالك عن الأخذ ببعضها، وليس ما توقف عنه وقد رواه بأصح الأسانيد عنده في «الموطأ» بكثير كما زعم الأستاذ بدون أن يذكر مستندًا. ومع ذلك فلم يردَّ مالك حديثًا واحدًا بمحض الرأي، ولا ذُكِر له حديثٌ فقال: هذا سجع، أو هذا رجز، أو حُكَّ هذا بذنب خنزير، أو نحو ذلك من الكلمات المروية عن غيره. بل اشتهر عنه قوله:«ما من أحد إلا ويؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر» يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في
(1)
(ص 73 - 74).
(2)
انظر «الطليعة» (ص 18 - 19).
رأيي فما وافق السنة فخذوا به». وكان يأخذ بالرأي عند الضرورة، وجاء عنه من وجوه أنه كان يُسأل عن مسائل فيجيب عن بعضها ويدع سائرها. ولو جاءه رجل فقال: جئتك بمائة مسألة لبادر إلى الأمر بإخراجه، فكيف يقاس إلى من قيل له:«جئتك بمائة ألف مسألة» فقال: «هاتها» !
(1)
.
فأما ما حُكِي عن الليث، فالأفهام في السنة تختلف، يختلف العالمان في فهم الحديث أو في ترجيح أحد الحديثين على الآخر، فيرى كل منهما أن قول صاحبه مخالف للسنة. وقصة سبعين ألف مسألة حكاها الذهبي
(2)
بقوله: «وعن السراج .... » ولا ندري كيف سندها إلى السراج
(3)
. ومع ذلك فقول الأستاذ: «صريح في أنه كان من أهل الرأي» مجازفة. وهذه كتب الظاهرية موجودة فليتصفحها الأستاذ وليحْصِ المسائل التي فيها، ليعلم بطلان ما زعمه من الصراحة. وأوضح من هذا أن الظاهرية وأهل الحديث يجيبون عن كل مسألة حدثت أو تحدث [1/ 385] وذلك يزيد عن سبعين ألفًا
(1)
راجع «تاريخ بغداد» : (13/ 413).
(2)
«تذكرة الحفاظ» : (2/ 732). وقال في «السير» : (4/ 392): «رُوي عن أبي العباس السرّاج
…
».
(3)
ذكر سندها إلى السّراج الخطيب في «تاريخه» : (1/ 250 - 251) فقال: «أخبرنا القاضي أبو العلاء محمد بن علي بن أحمد الواسطي، قال: أنبأنا محمد بن جعفر التميمي الكوفي، قال: سمعتُ أبا حامد أحمد بن محمد الفقيه يقول: سمعت أبا العباس السرّاج به» .
وفيه شيخ الخطيب أبو العلاء محمد بن علي الواسطي ترجمته في «تاريخ بغداد» : (3/ 95 - 99) ذكر عن جماعة أنهم يقدحون فيه ويطعنون عليه فيما يرويه. وذكر له الخطيب أخبارًا تدل على قلة ضبطه وضعف تحريه.
مضروبة في مثلها بدون أن يكونوا من أهل الرأي. وخاصةُ أهل الرأي هي الرغبة عن العناية بالسنة استغناءً بالرأي، وردُّ السنن الصحيحة بمحض الرأي، ومالك رحمه الله تعالى بريء من هذا.
قال أبو مصعب عن مالك: «ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك» . وقال حرملة عن الشافعي: «مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين» . واتفق الشافعي ومحمد بن الحسن على أن مالكًا أعلم من أبي حنيفة بالكتاب والسنة وآثار الصحابة. وقال ابن عيينة وعبد الرزاق في حديث أبي هريرة مرفوعًا: «يوشك أن يَضْرب الناسُ أكبادَ الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أعلم من عالم المدينة»
(1)
: هو مالك. وما روي عن ابن عيينة أنه قال مرة: «هو العمري العابد» لا وجه له، لأن العمري العابد ــ وهو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر ــ لم يشتهر بالعلم بالمعنى المعروف، بل لم يُعرف به. بل قال ابن حبان:«لعل كل شيء حدَّث في الدنيا لا يكون أربعة أحاديث»
(2)
. وليس له في الأمهات الست ولا في الكتب الأخرى لأصحابها التي أخذ رجالها في «التهذيب» إلا حديث واحد مرسل في «مراسيل أبي داود»
(3)
. ولم تُضرب إليه أكباد الإبل، بل لعله لم يرحل إليه بعيرٌ واحد! وإنما كان هو رحمه الله يخرج إلى البراري لتعليم
(1)
أخرجه الترمذي (2680) وحسّنه، والنسائي في «الكبرى» (4277) والحميدي (1147)، وابن حبان (3736) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
«الثقات» : (7/ 19 - 20).
(3)
(392).