الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 ــ فصل
حاول الأستاذ في "الترحيب"
(1)
التبرّؤ مما نُسِب إليه في "الطليعة" من الكلام في أنس رضي الله عنه وفي هشام بن عروة بن الزبير، وفي الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد.
فأما كلامه في أنس، فتراه وما عليه في "الطليعة"(ص 98 - 106)
(2)
ويأتي تمامه في ترجمته إن شاء الله تعالى
(3)
.
وينبغي أن يُعلَم أن منزلة أنس رضي الله عنه عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها، فلسان حال الأستاذ يقول: ومَن أنس؟ وما عسى أن تكون قيمة رواية أنس في مقابلة الإمام الأعظم وعقليته الجبارة؟ كما أشار إلى ذلك في "الترحيب"(ص 24) إذ قال: "وأسماء الصحابة الذين رغب الإمام عما انفردوا به من الروايات مذكورة في "المؤمل" لأبي شامة الحافظ، وليس هذا إلا تحرِّيًا بالغًا في المرويات يدلّ على عقلية أبي حنيفة الجبارة". [1/ 14] فزادنا مع أنس جماعةً من الصحابة رضي الله عنهم، وإلى ما غالط به من الترجيح الذي دفعتُه في "الطليعة"(ص 105 - 106)
(4)
التصريحَ بأنه يكفي في تقديم رأي أبي حنيفة على السنة أن ينفرد برواية السنة بعضُ أولئك الصحابة.
(1)
(ص 315 - 316 و 337 - 338).
(2)
(ص 77 - 83) من طبعتنا.
(3)
من كتابنا هذا رقم (56).
(4)
(ص 83).
هذا مع أن رواية أنس في الرَّضْخ
(1)
تشهد لها أربع آيات من كتاب الله عز وجل، بل أكثر من ذلك كما يأتي في "الفقهيات"
(2)
إن شاء الله تعالى، ومعها القياس الجلي. ولا يعارض ذلك شيء إلّا أن يقال: إن عقلية أبي حنيفة الجبارة كافية لأن يقدَّم قوله على ذلك كله.
وعلى هذا فينبغي للأستاذ أن يتوب عن قوله في "التأنيب"(ص 139) عند كلامه على ما رُوي عن الشافعي من قوله: أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كله عليها. قال الأستاذ هناك: "ولأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل. ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي، وجعله أصلًا، ففرّع عليه المسائل، فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة، حتى ردَّها صاحباه. وهكذا فعل في كتاب المزارعة حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي، فجعله أصلًا ففرَّع عليه الفروع
…
".
إلا أن يقول الأستاذ: إن أبا حنيفة لم يستعمل عقليته الجبارة في تلك الكتب أو الأبواب، وإنما قلّد فيها بعضَ التابعين كشريح وإبْراهيم. فعلى هذا يختصّ تقديم العقلية الجبارة بما قاله من عند نفسه، فعلى هذا نطالب الأستاذ أن يطبق مسألة القَوَد على هذه القاعدة.
أما نحن فلا نعتد على أبي حنيفة بقول الأستاذ، ولا بحكاية أبي شامة الشافعيّ الذي بينه وبين أبي حنيفة نحو خمسمائة سنة، بل نقول: لعل أبا حنيفة لم يرغب عن انفراد أحد من الصحابة، بل هو موافق لغيره في أن
(1)
أخرجه البخاري (5295) ومسلم (1672).
(2)
(2/ 128 - 130).
انفراد الصحابيّ مقبول على كلّ حال؛ وإنما لم يأخذ ببعض الأحاديث، لأنه لم يبلغه من وجهٍ يثبت، أو لأنه عارضه من الأدلة الشرعية ما رآه أرجح منه. وإذا كان يأخذ برأي رجل من التابعين، فيجعله أصلًا لباب عظيم من أبواب الشرع، كشريح في الوقف، وإبْراهيم في المزارعة= فكيف يرغب عن سنة لتفرّد بعض الصحابة بها؟ ثم راجعت "المؤمل"
(1)
فرأيت عبارته تُشعر بأن الكلام فيما تفرّد أنس ومن معه يقوله برأيه، لا في ما كان روايةً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما التحرّي البالغ، فإن كان هو الذي يؤدّي إلى قبول ما حقُّه أن يُقبَل ورَدِّ ما حقُّه أن يُرَدَّ، [1/ 15] فلا موضع له هنا. وإن كان هو الذي يؤدّي إلى قبول ما حقُّه الردُّ، كرأي شريح في الوقف، ورأي إبْراهيم في المزارعة؛ وإلى ردِّ ما حقُّه القبول، كما يتفرّد به بعض الصحابة ولا يعارضه من الأدلة الشرعية ما هو أقوى منه، أو كردِّ حديث الرّضْخ مع شهادة القرآن والقياس الجليّ له= فهذا إن وقع ممن لم يقف على الأدلة المخالفة له أو ذَهَل عنها وعن دلالتها، له اسم آخر لا يضر صاحبه إن شاء الله. وإن وقع ممن عرف ذلك كلّه، فهو تجرٍّ بالجيم لا تحرٍّ بالحاء، أو قل: تحرٍّ للباطل، لا للحق.
فإن كان المقصود التخييل الشعري فيستطيع من يردُّ انفرادَ الصحابي ــ
(1)
(ص 62 - 63 ت مقبول)، وهذا النص ليس في الطبعة الجديدة، بتحقيق د. جمال عزّون (ص 133 - 134)، فهل سقط منها أو ليس في الأصول التي اعتمدها؟
وقد نقد المؤلف هذا الخبر في "الأنوار الكاشفة"(ص 241 - 242) ثم قال ــ بما يؤيد كلامه هنا ــ: "والحكاية لا تتعرض للأحاديث التي يرويها الصحابة، وإنما تتعلّق بقول الصحابي الموقوف عليه هل يجوز لمن بعده مخالفته برأيه؟ فحاصلها أن أبا حنيفة يقول: إنه لا يخالف قول أحدٍ من الصحابة برأيه سوى أولئك الثلاثة .. ".
أيَّ صحابي كان ــ أن يقول: إن ذلك تحرٍّ بالغ. بل من يردّ السننَ كلّها سوى المتواتر، بل من يرد المتواتر أيضًا، فيقول: إن التحرّي البالغ يقضي أن لا يُنسب إلى شرع الله إلا ما نصّ عليه كلامه. بل من يردّ الدلالات الظنية من القرآن، ويردّ الإجماع، ولم يُبق إلا الدلالات اليقينية من القرآن
(1)
، وشيوخ الأستاذ من المتكلمين ينفون وجودها، كما يأتي في (الاعتقاديات)
(2)
إن شاء الله تعالى. فأما القياس فهو بأن يسمّى إلغاؤه تحريًّا واحتياطًا في دين الله أولى من ذلك كلّه، فإنه بالنسبة إلى ذلك كما قيل:
ويذهبُ بينها المرئيُّ لغوًا
…
كما ألغيتَ في الدية الحُوارا
(3)
والمقصود هنا أن منزلة أنس رضي الله عنه عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها، فلا غرو أن يزعم الأستاذ أنه ليس في كلامه فيه ما يُنتقد! وفي "فتح الباري"
(4)
في باب المصرَّاة: "قال ابن السمعاني
(5)
في "الاصطلام": التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة". ذكر ذلك في صدد ردّ كلام بعض الحنفية في رواية أبي هريرة
(1)
كذا، والكلام مفهوم، وتقديره: يزعم أيضًا أنه تحرٍّ بالغ.
(2)
(2/ 336، 503).
(3)
من قصيدة لذي الرمة في هجاء هشام بن قيس المرئي. انظر "ديوان ذي الرمة"(1379)، و"الأمالي":(2/ 141).
(4)
(4/ 365).
(5)
هو أبو المظفر منصور بن عبد الجبار. كان أهل بيته حنفية، ونشأ على ذلك، ومهر في المذهب، ثم تشفَّع تديّنًا. وترجمته في "طبقات ابن السبكي"(ج 4 ص 21). وقد أسرف الشافعية في التبجّح بذلك كما تراه هناك. [المؤلف].
حديث المصرَّاة.
وأما هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، فهذه قصته: روى هشام عن أبيه عروة ــ وفي رواية للدارمي (ج 1 ص 51)
(1)
: هشام، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة
(2)
ــ قال: "لم يزل أمر [1/ 16] بني إسرائيل معتدلًا، حتى ظهر فيهم المولّدون أبناء سبايا الأمم، فقالوا فيهم بالرأي، فضلُّوا وأضلُّوا". فذكرها الأستاذ في "التأنيب"(ص 98) ثم قال:
"وإنما أراد هشام النكاية في ربيعة وصاحبه مالك، لقول مالك فيه بعد رحيله إلى العراق فيما رواه الساجي، عن أحمد بن محمد البغدادي، عن إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فليح قال: قال لي مالك بن أنس: هشام بن عروة كذاب. قال: فسألت يحيى بن معين؟ فقال: عسى أراد في الكلام، فأما في الحديث فهو ثقة". وعلَّق في الحاشية: "هذا من انفرادات الساجي، وأهلُ العلم قد تبدُر منهم بادرة، فيتكلمون في أقرانهم بما لا يُقبل، فلا يتخذ ذلك حجة. على أنَّ ما يؤخذ به هشام بعد رحيله إلى العراق أمرٌ يتعلق بالضبط في التحقيق، وإلا فمالك أخرج عنه في الموطأ".
ففهمت من قوله: "وإنما أراد هشام النكاية
…
" أنه يريد أن هشامًا افترى هذه الحكاية لذاك الغرض، وأن ذلك من الكذب الذي عني بالكلمة المحكية عن مالك: "هشام بن عروة كذاب"، ومن الكذب في الكلام على ما في الحكاية عن ابن معين، ومن البوادر التي لا تقبل كما ذكره في
(1)
رقم (122) ــ تحقيق حسين أسد.
(2)
وهكذا في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي من مقدمة كتاب "الجرح والتعديل"[1/ 254] لابن أبي حاتم. [المؤلف].
الحاشية. وبنيت على ذلك في الكلمة التي كنت كتبتها إلى بعض الإخوان، فاتفق أن وقعت بيد المعلق على "الطليعة" أو طابعها، فطبعت كمقدمة للطليعة بدون علمي. قلت فيها كما في "الطليعة" المطبوعة (ص 4):"وفي هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، حتى نَسَب إليه الكذب في الرواية". فتعرّض الأستاذ لذلك في "الترحيب"(ص 48) وتوهَّم أو أوهم أنني إنما بنيتُ على ما في الحكاية التي ينقلها مما نسب إلى مالك من قوله: "
…
كذاب"، فأعاد الأستاذ الحكاية هنالك، ثم قال: "أهذا قولي أم قول مالك أيها الباهت الآفك؟ ! ".
فأقول: أما قولك، فقد قدَّمتُ ما فيه من إفهام أن هشامًا افترى تلك الحكاية انتقامًا من مالك. وأما قول مالك، فلم يصح، بل هو باطل. ومن لطائف الأستاذ أنه اقتصر فيما تظاهر به في صدر الحاشية من محاولة تليين الحكاية عن مالك على قوله:"من انفرادات الساجي" وهو يعلم أن زكريا الساجي حافظ ثقة ثبت، وإن حاول في موضع آخر أن يتكلم فيه كما يأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى
(1)
. هذا مع جزمه في المتن بقوله: "لقول مالك فيه".
والحكاية أخرجها الخطيب في "تاريخ بغداد"(ج 1 ص 223)، وتعقبها بقوله:[1/ 17]"فليست بالمحفوظة إلا من الوجه الذي ذكرناه، وراويها عن إبراهيم بن المنذر غير معروف عندنا".
يعني أحمد بن محمد البغدادي. وبغداديٌّ لا يعرفه الخطيب الذي
(1)
من هذا الكتاب رقم (94).
صرف أكثر عمره في تتبع الرواة البغداديين لا يكون إلا مجهولًا، فهذا هو المسقط لتلك الحكاية من جهة السند. ويسقطها من جهة النظر أن مالكًا احتج بهشام في "الموطأ" مع أن مالكًا لا يجيز الأخذ عمن جُرِّب عليه كذب في حديث الناس، فكيف الرواية عنه؟ فكيف الاحتجاج به!
صح عن مالك أنه قال: "لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك: لا تأخذ عن سفيه معلِن بالسَّفَه وإن كان أروى الناس. ولا تأخذ عن كذّاب يكذب في أحاديث الناس، إذا جُرِّب ذلك عليه، وإن كان لا يُتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
".
أسنده الخطيب في "الكفاية"(ص 116) وذكره ابن عبد البر في "كتاب العلم" كما في "مختصره"(ص 122)
(1)
، وقال:"وقد ذكرنا هذا الخبر عن مالك من طرق في كتاب "التمهيد"
(2)
…
".
وكأنّ الأستاذ يحاول إثبات أن الأئمة كمالك وابن معين يوثقون الرجل إذا رأوا أنه لا يكذب في الحديث النبويّ، وإن علموا أنه يكذب في الكلام، ويحاول أن يدخل في الكلام ما يرويه الثقات مما فيه غضٌّ من أبي حنيفة. وهكذا ما يرويه أحدهم عن غيره مما فيه غضٌّ من أبي حنيفة، ولو مِن بُعْد، كرواية هشام المذكورة. وعلى هذا فيدخل في الكلام الذي لا يمتنع الأئمة من توثيق الكاذب فيه كلُّ كلام إلا ما فيه إسناد خبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولو ــ والعياذ بالله ــ تمَّ هذا للأستاذ لسقطت المرويات كلها، ويأبى الله ذلك
(1)
"جامع بيان العلم": (2/ 821).
(2)
(1/ 66).
والمؤمنون.
أما السنة فإنها لا تثبت إلا بثقة رواتها، وتوثيقُ الأئمة للرواة كلامٌ ليس فيه إسناد خبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كانوا يرون أن الكذب في ذلك لا ينافي الثقة لم نأمن أن يكذبوا فيه. وتوثيق مَنْ بعدَهم لهم لا يدفع أن يكونوا يكذبون مثل هذا الكذب، بل يجوز أن يكون ذاك التوثيق نفسه كذبًا وإن كان قائله ثقة. وهكذا رواية مَن بعد الأئمة لكلام الأئمة هي كلام. وبالجملة فيشمل ذلك سائر كلمات الجرح والتعديل، والمدح [1/ 18] والقدح: قولها وروايتها، وحكاية مقتضيها وروايته. وأما ما عدا السنة من آثار الصحابة والتابعين وغير ذلك، فكلُّه كلام.
وسيأتي تمام الكلام في القاعدة الأولى من قسم القواعد إن شاء الله تعالى
(1)
.
وأما كلام الأستاذ في الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، فسيأتي إن شاء الله تعالى في تراجمهم
(2)
. ويكفي العبارة التي قالها في "التأنيب"
(3)
في معرض الثناء عليهم زَعَم، ونقلها في "الترحيب"
(4)
في معرض التبرّؤ عن الطعن فيهم.
(1)
(ص 53 - 58).
(2)
في هذا الكتاب رقم (183، 189، 32) على التوالي. وقد أفرد المؤلف الرد على مطاعن الكوثري في الإمام الشافعي برسالة مستقلة سماها "تنزيه الإمام الشافعي عن مطاعن الكوثري" وهي ضمن هذه الموسوعة.
(3)
(ص 11 - 15).
(4)
(ص 315 - 317 - مع التأنيب).
وحقيقة الحال أن الأستاذ يرى، أو يتراءى، أو يفرض على الناس أن يروا أن منازل الأئمة هي كما يتحصَّل من مجموع كلامه في "التأنيب". ويرى أنه قد تفضَّل على الأئمة الثلاثة، وجامل أتباعَهم بأن أوهم في بعض عباراته رفعَهم عن تلك المنزلة قليلًا. فلما رآني لم أعتدّ بذاك الإيهام الفارغ كان أقصى ما عنده أن يوهم الجهالَ براءَته، ويُفهم العلماء أن تلك منازلهم عنده، رضوا أم كرهوا. وتمام الكلام في التراجم إن شاء الله تعالى.
* * * *