الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثناء عليهم. فإن ساغ أن يُرمى بالتعصّب على الحنابلة لذكره القدح في أفرادٍ منهم، فليسُغْ رميُه بالتعصب لهم لتوثيقه أضعاف أضعاف أولئك، وليسُغْ رميه بالتعصب على الشافعية لذكره القدح في كثير منهم. وقد [1/ 143] مرَّ قريبًا ما ذكره في الكرابيسي، وهكذا حال بقية المذاهب. فهل يسوغ أن يقال: إن الخطيب كان يتعصّب لأهل مذهب وعليهم؟ فإن قيل: بل ينظر في كلامه. قلت: فستراه في التراجم.
فصل
قال ابن الجوزي
(1)
: «وقد ذكر في «كتاب الجهر» أحاديث يعلم أنها لا تصح، وفي «كتاب القنوت» أيضًا. وذكر في مسألة صوم يوم الغيم حديثًا يدري أنه موضوع، فاحتجَّ به ولم يذكر عليه شيئًا. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:«من روى حديثًا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»
(2)
.
وذكر الكوثري في «التأنيب» (ص 10) عبارات أخرى لابن الجوزي تشتمل على زيادة، فذكر مما أخرجه الخطيب في «كتاب الجهر بالبسملة»: «مثل حديث عبد الله بن زياد بن سمعان، وقد أجمعوا على ترك حديثه، قال مالك: كان كذابًا. ومثل حديث حفص بن سليمان، قال أحمد: هو متروك
(1)
في كتاب «المنتظم» : (8/ 268 - 269)، وكذلك في «التحقيق»:(1/ 464، 2/ 77).
(2)
تقدم تخريجه (ص 199).
الحديث». ومما يتعلق بـ «كتاب القنوت» : «ما أخرجه عن دينار بن عبد الله عن أنس قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الصبح حتى مات. قال: وسكوته عن القدح في هذا الحديث واحتجاجه به وقاحة عظيمة، وعصبية باردة، وقلة دين؛ لأنه يعلم أنه باطل، قال ابن حبان: دينار يروي عن أنس آثارًا موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب إلا على سبيل القدح فيه» .
أقول: الجواب من أوجه:
الأول: أن الخطيب إن كان قَصَد بجَمْع تلك الرسائل جمعَ ما ورد في الباب فلا احتجاج. وإن كان قصد الاحتجاج، فبمجموع ما أورده، لا بكل حديث على حِدَة.
الثاني: أننا عرفنا من ابن الجوزي تسرُّعَه في الحكم بالوضع والبطلان، وترى إنكار أهل العلم عليه في كتب المصطلح في بحث «الموضوع»
(1)
.
الثالث: أن من جملة ما أورده في «الموضوعات» وحدها أكثر من ثلاثين حديثًا رواها [1/ 144] الإمام أحمد في «مسنده» ، ولعله أورد في «الأحاديث الواهية» أضعاف ذلك، فيقال له: إن كنت ترى أنه خفي على الإمام أحمد ما علمتَه من كون تلك الأحاديث موضوعة أو باطلة، فما نراك أحسنتَ الثناء عليه، وعلى ذلك فالخطيب أولى أن يخفى عليه. وإن كنت
(1)
انظر «علوم الحديث» (ص 99) لابن الصلاح، و «النكت»:(2/ 847 - 850) للحافظ.
ترى أن الإمام أحمد علم أنها موضوعة أو باطلة، ومع ذلك أثبتها في «مسنده» ولم ينبِّه عليها، فكفى به أسوة للخطيب.
الرابع: لا يلزم مِن زَعْم ابن الجوزي أن الحديث موضوع
(1)
باطل، أن يكون الخطيب يرى مثل رأيه.
الخامس: قد يجوز أن يكون الحديث موضوعًا أو باطلًا، ولم يتنبه الخطيب لذلك.
السادس: إذا رُوي الحديث بسند ساقط، لكنه قد رُوي بسند آخر حسن أو صالح أو ضعيف ضعفًا لا يقتضي الحكم ببطلانه، لم يجز الحكم ببطلان المتن مطلقًا، ولا يدخل مَنْ رواه بالإسنادين معًا في حديث:«من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» ؛ لأنه لا يرى الحديث نفسه كذبًا. وقد يُتوسع في هذا، فيُلحق به ما إذا كان المتن المرويّ بالسند الساقط، ولم يُرو بسندٍ أقوى، لكن قد رُوي معناه بسند أقوى. ويقِّوي هذا أن المفسدة إنما تعظُم في نسبة الحكم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ظن أنه كذب لا في نسبة اللفظ، وشاهدُ هذا جواز الرواية بالمعنى.
الأمر السابع: قوله في عبد الله بن زياد بن سمعان: «أجمعوا على ترك حديثه» فيه نظر، فقد أكثر عنه ابنُ وهب ووثَّقه على ما في «مختصر كتاب العلم لابن عبد البر» (ص 199)
(2)
، ومجموعُ كلامهم فيه يدل أنه صدوق
في الأصل، فلا بأس بإيراد حديثه في المتابعات والشواهد
(1)
.
[1/ 145] وأما حفص، فروى عبد الله وحنبل عن أحمد:«متروك الحديث» . وروى عبد الله أيضًا عن أبيه: «صالح» ، وروى حنبل عن أحمد أيضًا «ما به بأس» . فيأتي في حديثه نحوُ ما مرَّ
(2)
.
وإنما ذكر الخطيب رواية هذين مع عدة روايات عن غيرهما، والروايات في ذلك معروفة تراها في «سنن الدارقطني» ، و «سنن البيهقي» وغيرهما. وفي ذلك آثار عن الصحابة منها الصحيح فما دونه.
وحديث أنس النافي للجهر قد أُعِلَّ بعدة علل، كما ترى ذلك في بحث المعلَّل من «تدريب الراوي»
(3)
.
وجمع الشيخُ تقي الدين ابن تيمية
(4)
بأن الأصل عدم الجهر، ولكن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما جهر ليعلِّم أصحابه، وكذلك
(1)
ترجمته في «التاريخ الكبير» : (5/ 96)، و «الأوسط» (798)، و «الجرح والتعديل»:(5/ 60 - 61)، و «الضعفاء»:(2/ 254) للعقيلي، و «الكامل»:(4/ 125)، و «المجروحين»:(2/ 7)، و «لسان الميزان»:(4/ 496).
(2)
ترجمته في «التاريخ الكبير» : (2/ 363)، و «الأوسط» (1268)، و «الجرح والتعديل»:(3/ 173 - 174)، و «الضعفاء»:(1/ 270) للعقيلي، و «الكامل»:(2/ 380).
(3)
(1/ 297 - 302)، وانظر «النكت على ابن الصلاح»:(2/ 753 - 756) للجواب عن بعض ما أُعِلّ به.
(4)
في «مجموع الفتاوى» : (22/ 410 - 437).
أصحابه كان أحدهم ربما جهر ليعلم مَن [1/ 146] يسمعه. وفي «الصحيح»
(1)
عن أبي قتادة: «كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورةٍ سورةٍ ويُسْمِعنا الآيةَ أحيانًا» . وللنسائي
(2)
عن البراء: « .. فنسمع منه الآيةَ بعد الآيةِ .. » . ولابن خزيمة
(3)
عن أنس نحوُه كما في «فتح الباري»
(4)
. فإسماعه إياهم البسملة في الجهرية آكد، لأنه إذا أسرَّ بها وجهَر بما بعدها توهموا أنه تركها البتة.
فمن لم يقع له هذا الجمع، أو لم يقوَ عنده، وقوي عنده ما ورد في الجهر، فأخذ به مطلقًا كالشافعي، فلا لوم عليه. ومن احتجَّ من أتباعه بما ورد في الجهر بالأسانيد القوية، وألحق بها ما يوافقها مما في سنده نحو ابن سمعان وحفص بن سليمان، فلا حرج عليه.
[1/ 147] وأما حديث: «ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في الصبح حتى مات»
(5)
، فقد ورد من وجهين آخرين أو أكثر عن
(1)
(759).
(2)
(971).
(3)
(503).
(4)
(3/ 245).
(5)
أخرجه عبد الرزاق (3/ 110)، وأحمد (12657)، والدارقطني:(2/ 370)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار»:(1/ 145)، والبيهقي في «الكبرى»:(2/ 201) وغيرهم. قال البيهقي: قال أبو عبد الله [الحاكم]: هذا إسناد صحيح سندُه، ثقة رواتُه، والربيع بن أنس تابعي معروف. وتعقبه ابن التركماني بتضعيف أبي جعفر عيسى بن ماهان الرازي. وانظر «البدر المنير»:(3/ 620 - 627)، و «تنقيح التحقيق»:(2/ 439 - 443)، و «السلسلة الضعيفة» (1238).
أنس، صحح بعضُ الحفاظ بعضَها. وجاء نحو معناه من وجوه أخرى. راجع «سنن الدارقطني» ، و «سنن البيهقي» . وبمجموع ذلك يقوى الحديث. وقد جمع ابن القيم بينه وبين ما جاء في ترك القنوت
(1)
.
فإذا أخرج الخطيبُ الحديثَ من تلك الأوجه القوية، ثم ألحق بها رواية دينار؛ لم يلزمه أن يبيِّن في ذاك الموضع حالَ دينار، لما مرَّ في الوجه السادس. على أنه قد بيَّن الخطيب في موضع آخر حال دينار، وبيَّنه غيرُه، واشتهر ذلك. وقد بيَّن الأئمة كالثوري وابن المبارك وغيرهما حالَ الكلبي، ثم كانوا يروون عنه ما لا يرونه كذبًا ولا يذكرون حاله.
[1/ 148] وأما النهي عن صوم يوم الشك، فلم أعثُر عليه
(2)
، غير أن الأدلة على ذلك معروفة في «الصحيحين» وغيرهما. وعن الإمام أحمد في صوم يوم الشك إذا كان غيمٌ رواية أنه لا يصام، واختارها بعض المحققين من أصحابه. فعند الخطيب أن الحكم ثابت بأحاديث صحيحة، وبقية الكلام يُعلم مما مرَّ.
(1)
«زاد المعاد» (1/ 273 - 274).
(2)
لعله أراد حديث عمار: «من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم» . ذكره ابن طاهر في «تذكرة الموضوعات» (ص 71) نقلًا عن الفيروزابادي في الخلاصة. قال الشوكاني في «الفوائد المجموعة» (ص 92): «وهو مجازفة، فإنه أخرجه أهل السنن وأحمد والبخاري تعليقًا، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم» . وانظر «البدر المنير» : (5/ 691 - 692).