الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي
تقدم في الفصل الثالث
(1)
قول مالك: "لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك: لا تأخذ عن [سفيه] مُعْلن بالسَّفَه وإن كان أروى الناس. ولا تأخذ عن كذّاب يكذب في حديث الناس إذا جُرِّب عليه ذلك، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
…
". أسنده الخطيب في "الكفاية" (ص 116) إلى مالك كما تقدم، ثم قال (ص 117): "باب في أن الكاذب في غيرِ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تُرَدُّ روايته - قد ذكرنا آنفًا قولَ مالك بن أنس. ويجب أن يقبل حديثه إذا ثبتت
(2)
توبته". ولم يذكر ما يخالف مقالة مالك. وأسند (ص 23 - 24) إلى الشافعي: "
…
ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا، منها: أن يكون من حدَّثَ به ثقةً في دينه معروفًا بالصدق في حديثه
…
". وهذه العبارة ثابتة في "رسالة الشافعي"
(3)
.
وفي "لسان الميزان"(ج 1 ص 469)
(4)
: "قال ابن أبي حاتم عن أبيه أن يحيى بن المغيرة سأل جريرًا (ابن عبد الحميد) عن أخيه أنس فقال: قد سمع من هشام بن عروة، ولكنه يكذب في حديث الناس، فلا يُكْتَب عنه".
(1)
(ص 26).
(2)
(ط): "ثبت" والمثبت من الكفاية.
(3)
(ص 370).
(4)
(2/ 223). وهو في "الجرح والتعديل": (2/ 289 - 290).
وفي "النخبة وشرحها"
(1)
: " (ثم الطعن) يكون بعشرة أشياء
…
ترتيبها على الأشدّ فالأشدّ في موجِب الردّ على سبيل التدلِّي
…
(إما أن يكون بكذب الراوي) في الحديث النبويّ
…
متعمِّدًا لذلك (أو تُهْمتِه بذلك) بأن لا يُروى ذلك الحديث إلا من جهته، ويكون مخالفًا للقواعد المعلومة. وكذا مَن عُرِف بالكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث [1/ 33] النبوي، وهو
(2)
دون الأول. (أو فحش غلطه) أي: كثرته (أو غفلته) عن الإتقان (أو فسقه)
…
(أو وهمه) بأن يروي على سبيل التوهّم (أو مخالفته) أي الثقات
(3)
(أو جهالته)
…
(أو بدعته)
…
(أو سوء حفظه)
…
".
هذه النقول تعطي أن الكذب في الكلام تُرَدُّ به الرواية مطلقًا، وذلك يشمل الكذبة الواحدة التي لا يترتّب عليها ضرر ولا مفسدة. وقد ساق صاحب "الزواجر" الأحاديث في التشديد في الكذب ثم قال (ج 2 ص 169):"عَدُّ هذا هو ما صرحوا به. قيل: لكنه مع الضرر، ليس كبيرة مطلقًا، بل قد يكون كبيرة كالكذب على الأنبياء، وقد لا يكون ــ انتهى ــ. وفيه نظر بل الذي يتجه أنه حيث اشتدّ ضررُه بأن لا يحتمل عادة كان كبيرة. بل صرَّح الروياني في "البحر" بأنه كبيرة وإن لم يضر، فقال: مَن كذب قصدًا رُدّت شهادته وإن لم يضر بغيره، لأن الكذب حرام بكل حال؛ وروى فيه حديثًا. وظاهر الأحاديث السابقة أو صريحها يوافقه، وكأن وجه عُدولهم عن ذلك ابتلاء أكثر الناس به، فكان كالغيبة على ما مرَّ فيها عند جماعة".
(1)
(ص 87 - 89 - ط. العتر).
(2)
في "النزهة": "وهذا".
(3)
في "النزهة": "للثقات".
أقول: لا يلزم من التسامح في الشاهد أن يُتسامح في الراوي لوجوه:
الأول: أن الرواية أقرب إلى حديث الناس من الشهادة، فإن الشهادة تترتب على خصومة، ويحتاج الشاهد إلى حضور مجلس الحكم، ويأتي باللفظ الخاص الذي لا يحتاج إليه في حديث الناس، ويتعرَّض للجرح فورًا. فمن جُرِّبت عليه كذبة في حديث الناس لا يترتب عليها ضرر، فخوفُ أن يجرَّه تساهلُه في ذلك إلى التساهل في الرواية أشدُّ من خوف أن يجرَّه إلى شهادة الزور.
الثاني: أن عماد الرواية الصدق، ومعقول أن يشدَّد فيها فيما يتعلق به ما لم يشدَّد في الشهادة. وقد خُفِّف في الرواية في غير ذلك ما لم يخفَّف في الشهادة. تقومُ الحجةُ بخبر الثقة ولو واحدًا أو عبدًا أو امرأةً أو جالبَ منفعةٍ إلى نفسه أو أصله أو فرعه، أو ضررٍ على عدوّه ــ كما يأتي ــ بخلاف الشهادة. فلا يليق بعد ذلك أن يخفَّف في الرواية فيما يمسُّ عمادَها.
الثالث: أن الضرر الذي يترتب على الكذب في الرواية أشدُّ جدًّا من الضرر الذي [1/ 34] يترتّب على شهادة الزور، فينبغي أن يكون الاحتياط للرواية آكد. وقد أجاز الحنفية قبول شهادة الفاسق دون روايته. والتخفيف في الرواية بما تقدّم من قيام الحجة بخبر الرجل الواحد وغير ذلك لا ينافي كونها أولى بالاحتياط؛ لأن لذلك التخفيف حِكمًا أخرى، بل ذلك يقتضي أن لا يخفف فيها فيما عدا ذلك، فتزداد تخفيفًا على تخفيف.
الرابع: أن الرواية يختص لها قوم محصورون ينشؤون على العلم والدين والتحرُّز عن الكذب، والشهادة يحتاج فيها إلى جميع الناس؛ لأن
المعاملات والحوادث التي يحتاج إلى الشهادة عليها تتفق لكل أحد، ولا يحضرها غالبًا إلا أوساط الناس وعامتهم الذين ينشؤون على التساهل. فمعقولٌ أنه لو رُدَّت شهادةُ كلِّ من جُرِّبت عليه كذبة لضاعت حقوق كثيرة جدًّا، ولا كذلك الرواية. نعم الفلتة والهفوة التي لا ضرر فيها ويعقبها الندم، وما يقع من الإنسان في أوائل عمره ثم يقلع عنه ويتوب منه، وما يدفع به ضرر شديد ولا ضرر فيه، وصاحبه مع ذلك مستوحش منه= ربما يُغتفر. والله أعلم.
فأما الكذب في رواية ما يتعلق بالدين ولو غير الحديث النبوي، فلا خفاء في سقوط صاحبه؛ فإن الكذب في روايةِ أثرٍ عن صحابي قد يترتب عليه أن يحتج بذلك الأثر من يرى قول الصحابي حجة، ويحتج هو وغيره به على أن مثل ذلك القول ليس خرقًا للإجماع، ويستند إليه في فهم الكتاب والسنة، ويردّ به بعض أهل العلم حديثًا رواه ذاك الصحابي يخالفه ذلك القول. ويأتي نحو ذلك في الكذب في رواية قولٍ عن التابعي، أو عالم ممن بعده، وأقلُّ ما في ذلك أن يقلّده العامي.
وهكذا الكذب في روايةِ تعديلٍ لبعض الرواة، فإنه يترتب عليه قبول أخبار ذلك الراوي، وقد يكون فيها أحاديث كثيرة، فيترتب على هذا من الفساد أكثر مما يترتب على كذب في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك الكذب في رواية الجرح، فقد يترتب عليها إسقاط أحاديث كثيرة صحيحة، وذلك أشد من الكذب في حديث واحد. وهكذا الإخبار عن الرجل بما يقتضي جرحه. وهكذا الكذب في الجرح والتعديل كقوله:"هو ثقة"، "هو ضعيف".
فالكذب في هذه الأبواب في معنى الكذب في الحديث [1/ 35] النبوي أو قريب منه، وتترتب عليه مضارُّ شديدة ومفاسد عظيمة. فلا يتوهّم محلٌّ للتسامح فيه، على فرض أن بعضهم تسامح في بعض ما يقع [في] حديث الناس.
فالأستاذ يرمي بعض أئمة السنة فمَن دونهم مِن ثقات الرواة بتعمّد الكذب في الرواية وفي الجرح والتعديل كذبًا يترتب عليه الضرر الشديد والفساد الكبير، ثم يزعم أنه إنما يقدح بذلك فيما لا يقبله هو منهم، فأما ما عداه فإنهم يكونون فيه مقبولين. كذا يقول
(1)
! وكأنه يقول: وإذا لزم أن يسقطوا البتة فليسقطوا جميعًا. وليت شعري مَن الذي يعادي أبا حنيفة؟ أمن يقتضي صنيعه أنه لا يمكن الذبُّ عنه إلا بمثل هذا الباطل، أم مَن يقول: يمكن المتحرِّي للحق أن يذبَّ عنه بدون ذلك؟
تنبيه:
ليس من الكذب ما يكون الخبر ظاهرًا في خلاف الواقع، محتملًا للواقع احتمالًا قريبًا، وهناك قرينة تدافع ذاك الظهور، بحيث إذا تدبر السامعُ صار الخبر عنده محتملًا للمعنيين على السواء، كالمجمل الذي له ظاهر ووقت العمل به لم يجئ، وكالكلام المرخَّص به في الحرب، وكالتدليس، فإن المعروف بالتدليس لا يبقى قوله:"قال فلان" ــ ويسمي شيخًا له ــ ظاهرًا في الاتصال بل يكون محتملًا. وهكذا من عُرِف بالمزاح إذا مَزَح بكلمة يعرف الحاضرون أنه لم يُرِدْ بها ظاهرها، وإن كان فيهم من لا يعرف ذلك،
(1)
وسيأتي ما فيه في القاعدة الآتية. [المؤلف].
إذا كان المقصود ملاطفته أو تأديبه على أن ينبَّه في المجلس. وهكذا فلتات الغضب، وكلمات التنفير عن الغلو ــ وقد مرت الإشارة إليها في الفصل الثاني
(1)
ــ، على فرض أنه وقع فيها ما يظهر منه خلاف الواقع. وقد بسطت هذه الأمور وما يشبهها في "رسالتي في أحكام الكذب"
(2)
.
فأما الخطأ والغلط، فمعلوم أنه لا يضرُّ وإن وقع في رواية الحديث النبوي، فإذا كثر وفحش من الراوي قدَحَ في ضبطه ولم يقدح في صدقه وعدالته. والله الموفق.
* * * *
(1)
(ص 16 وما بعدها).
(2)
واسمها "إرشاد العامه إلى الكذب وأحكامه" انظرها في "مجموع رسائل أصول الفقه" ضمن هذه الموسوعة.