الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
121 - عبد الله بن الزبير أبو بكر الحُمَيدي
.
تقدمت الإشارة إلى بعض حكاياته في ترجمة الحارث بن عمير
(1)
وغيرها.
قال الأستاذ (ص 36): «الحميدي كذَّبه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم
(2)
ــ في كلامه في الناس. راجع «طبقات السبكي» (ج 1 ص 224). وهو شديد التعصب، وقَّاع، مضطرب يروي مرةً عن حمزة بن الحارث، ومرةً عن الحارث مباشرة».
أقول: أما التعصب، فحقيقته هنا نُفْرة دينية، وقد مرَّ حكمها في القواعد
(3)
. وأما الوقيعة، ففيمن يراه من أهل البدع. قال يعقوب بن سفيان:«ثنا الحميدي، وما لقيتُ أنصحَ للإسلام وأهله منه»
(4)
.
وأما الاضطراب في تلك الحكاية، فقد أشار الخطيب
(5)
إلى أن الصواب عن الحميدي ثنا حمزة، وقولُ محمد بن محمد الباغندي عن أبيه عن الحميدي:«حدثني الحارث» وهمٌ من ابن الباغندي أو أبيه. وقد طعن الأستاذ فيهما، كما سيأتي في موضعه.
وأما قصته مع ابن عبد الحكم، فهذه عبارة ابن السبكي التي استند إليها
(1)
رقم (68).
(2)
(ط): «عبد الحكيم» تصحيف.
(3)
(ص 67، 87 - 98).
(4)
في «المعرفة والتاريخ» : (3/ 184).
(5)
(13/ 372 - 374).
الأستاذ جازمًا بقوله: «كذَّبه
…
في كلامه في الناس»! قال ابن السبكي
(1)
فأول ما يجب البحث عنه هنا هو النظر في أبي جعفر السكري حاكي القصة أثقة هو أم لا؟ أما الأستاذ فلم يهمَّه هذا، إذ كان في القصة ما يوافق هواه. وأما أنا فقد فتشتُ عنه، فلم أعرفه
(2)
. ورأيت القصة في «تاريخ بغداد» (ج 14 ص 301) وفيها: «صديق للربيع» . وهذا يُشعِر بأنه ليس بالمعروف، فعلى هذا لا تثبت القصة. وإن دلَّت الشواهد على أن لها أصلًا في الجملة، فإن ذلك لا يُثبِت من تفاصيلها ما لا شاهد له.
(1)
«طبقات الشافعية الكبرى» : (2/ 68).
(2)
يحتمل أن يكون هو المترجَم في «تاريخ بغداد» : (5/ 49 - ط بشار) و «لسان الميزان» : (1/ 405): أحمد بن إسحاق السكري أبو جعفر البغدادي. ولم يوثقه أحد غير أن ابن حبان ذكره في «الثقات» .
وفي «توالي التأسيس» (ص 84)
(1)
عن الربيع صاحب الشافعي قال: «وجَّه الشافعيُّ الحميديَّ إلى الحلقة، فقال: الحلقة لأبي يعقوب البويطي. فمن شاء فليجلس، ومن شاء فليذهب» . وكان البويطي أسنَّ أصحاب الشافعي وأفقهَهم، حتى كان الشافعي يعتمده في الفتيا ويحيل عليه إذا جاءته مسألة، كما في «الطبقات الشافعية»
(2)
. وكان ابن عبد الحكم حينئذ فتًى ابنَ إحدى وعشرين سنة، فلم يكن قد استحكم علمُه ولا عقلُه، فمنازعته للبويطي طيشة من طيشات الشباب. وكان الحميدي أعلمهم بالحديث وأقدمهم صحبةً للشافعي، لأنه قدم معه من الحجاز إلى مصر، والباقون إنما صحبوه بمصر. والحميدي قرشي مكي، كما أن الشافعي كذلك، فهو أقربهم إلى الشافعي وألصقهم به. ولذلك ــ والله أعلم ــ لما ذهب أصحاب الشافعي في مرضه إلى الجامع تخلَّف الحميدي عنده، ثم خشي الشافعي أن يتنازعوا الحلقةَ، فأرسل الحميديَّ إليهم ليبلِّغهم عنه. فلو شكَّ ابنُ [عبد] الحكم في خبر الحميدي لكان حقُّه أن يذهب ليراجع الشافعيَّ، لكنه عرف صدقَه، فاضطرم في نفسه اليأس والحزن والغضب. فإنْ بدرت منه تلك الكلمة، فهي من فلتات الغضب كما لا يخفى، فلا يَتشبَّث بمثلها في الطعن في مثل الحميدي إلا مثلُ الأستاذ! وقد قال هو نفسه في حاشية (ص 99):«وأهل العلم قد تبدُر منهم بادرةٌ، فيتكلَّمون في أقرانهم بما لا يُقبل، فلا يتخذ ذلك حجة» .
(1)
(ص 197). وقد طبع الكتاب بهذا الاسم وصوابه «توالي التأنيس» بالنون، كما في «الجواهر والدرر»:(2/ 682) للسخاوي.
(2)
(2/ 163).
وقد أسلفتُ تحقيق هذا المعنى في القاعدة الرابعة من قسم القواعد
(1)
. والأستاذ يقصِّر عن الحق تارة، ويتعدَّاه أخرى!
صَعْدةٌ نابتةٌ في حائرٍ
…
أينما الريحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ
(2)
[1/ 293] وهكذا إن كان الحميديُّ لمَّا استقبله صديقُه الفتى الطياش بتلك الكلمة غلبه الغضب فأجاب بما أجاب، وحُقَّ للحميدي أن ينشقَّ غضبًا فإنه لو جاء بذاك الخبر أكذَبُ الناس لما ساغ لعاقل أن يكذِّبه فيه؛ لأن الشافعي حيٌّ يُرزق بالقرب منهم، تُمكِن مراجعتُه بالسهولة، فمَن الذي يجترئ أن يكذب عليه؟ مع علم الحميدي
(3)
بصدقه وأمانته وأنه لا هوى له، بل لو كان له هوًى لكان مع ابن عبد الحكم صديقِه الذي أضافه في بيتهم
(4)
نحوًا من سنة، كما نصَّ على ذلك ابنُ عبد الحكم نفسه. وعلى كل حال، فذاك الجواب فَلْتةُ غضبٍ أيضًا، كما لا يخفى. ولا عتب على الأستاذ في تشبُّثه بها أيضًا لمَّا احتاج إلى الكلام في ابن عبد الحكم، كما يأتي في ترجمته
(5)
!
ولم يُبقِ الأستاذ على نفسه، بل أخذ يتكهَّن، فقال في (ص 130) في
(1)
(ص 87 فما بعدها).
(2)
لكعب بن جُعيل التغلبي. والبيت من «شواهد سيبويه» : (3/ 113). وانظر: شرح شواهده لابن السيرافي: (2/ 196)، و «خزانة الأدب»:(3/ 47).
(3)
كذا الأصل. ولعله سبق قلم من المؤلف، والصواب:«ابن عبد الحكم» ، كما يدل عليه السياق. [ن].
(4)
كذا في (ط) والصواب: «في بيته» .
(5)
رقم (213).
الحميدي: «لما استصحبه الشافعي إلى مصر باعتبار أنه راوية ابن عيينة أخذ يطمع أن يخلُف الشافعيِّ بعد وفاته. ولما علم أن أصحابه لا يرضونه لبعده عن الفقه، حكى عن الشافعيَّ أن أحقَّ جماعته بمقامه هو البويطي، فكذَّبه محمد بن عبد الحكم. ولم يكن مثلُ الإمام الشافعي لِيُسِرَّ إلى آحاد الآفاقيين بما يكتمه عن جماعته. ولو كان رأيه أن يكون البويطي خلفًا له لَجاهرَ بذلك أمام جماعته، لئلا يختلفوا بعده. وقد غرِمَ البويطيُّ ألفَ دينار ــ والألف كثير ــ إلى أن يُصلح قلوبَ الجماعة، كما حكى الحافظ ابن حجر في «توالي التأسيس» ، وللبراطيل أفاعيل! وكان هوى الحميدي مع البويطي لتقاربهما في المنزع، وبُعدِهما عن الغوص على دقائق الفقه، بخلاف المزني وابن عبد الحكم. ولولا أنه كان راوية ابن عيينة لكان الناس استغنوا عنه وعن حديثه لبذاءة لسانه».
أقول: الحميدي هو الذي اعتمد صحبةَ الشافعي. وفي كتاب ابن أبي حاتم (ج 3 قسم 2 ص 202) عن الحميدي أنه يقول: «كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يوم: هاهنا رجل من قريش له بيان ومعرفة. قلت: ومن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي. وكان أحمد بن حنبل قد جالسه بالعراق، فلم يزل حتى اجترَّني إليه، ودارت مسائل. فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟ ألا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان؟ فوقع كلامه في قلبي، فجالسته، فغلبتهم عليه
…
[1/ 294] وخرجت مع الشافعي إلى مصر». وكان الشافعي قد استكثر من ابن عيينة، فلم يكن به حاجة إلى الحميدي ولا غيره.
وزَعْمُ طمعِ الحميدي أن يخلُفَ الشافعيَّ بمصر من مخلوقات الأستاذ، ليس عليه أدنى شبهة. بل كان الحميدي مكينًا بمكة، مؤثِرًا لها. وإنما فارقها تلك المدة إلى مصر إيثارًا لصحبة الشافعي، فكان أقصى همِّه أن يعود إليها.
ودعوى بُعده عن الفقه مخلوق آخر! إنما كان الغالب على الحميدي الحديث، وقد صحب ابنَ عيينة، وأخذ من أخلاقه. وقد تقدَّم قول الشافعي في ابن عيينة:«ما رأيت أحدًا من الناس فيه من آلة العلم ما في ابن عيينة، وما رأيت أحدًا أكفَّ عن الفتيا منه» . ولعل هذين الأمرين: إيثارَه الرجوع إلى مكة، وعدمَ التبسُّط في الفتوى= من الأسباب التي منعت ترشيحَه لخلافة الشافعي.
وحكايتُه عن الشافعي أن البويطي أحقُّ الجماعة كانت برسالة من الشافعي، وهو حيٌّ بالقرب منهم يمكنهم مراجعته، كما تقدم في القصة نفسها. ومحاولة الأستاذ أن يري القارئ أن الحميدي إنما أخبر بذلك بعد وفاة الشافعي مخلوق آخر من مخلوقاته! وتكذيبُ ابن عبد الحكم له ــ إن صحَّ ــ طيشةُ فتًى غِرٍّ مُحنِق، كما سلف. والشافعي لم يُسِرَّ إليه، وإنما كان عنده وبقية الأصحاب بالجامع، فأرسله إليهم، وهم بحيث تمكنهم مراجعته. وقد جاء عن الربيع قال:«دخلنا على الشافعي عند وفاته أنا والبويطي والمزني وابن عبد الحكم، فنظر إلينا الشافعي فأطال، ثم التفت إلينا فقال: أما أنت يا يعقوب، فستموت في حديدك. وأما أنت يا مزني، فسيكون لك بمصر هنات وهنات، ولتدركنَّ زمانًا تكون أقيسَ أهل زمانك. وأما أنت يا محمد، فسترجع إلى مذهب أبيك. وأما أنت يا ربيع، فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب. قال الربيع: فكان كما قال» . ترى القصة بسندها في «توالي التأسيس» (ص 85)
(1)
.
(1)
(ص 199 - 200).
والحميديُّ، وإن لم يكن مصريًّا، فقد كان أعلمَ الجماعة بالحديث، وأقدمَهم صحبةً للشافعي، ورفيقَه في سفره، وكان قرشيًّا مكيًّا كالشافعي؛ فأخَصِّيَّتُه به واضحة. والمجاهرة قد وقعت. وذاك الاختلاف كان في حياة الشافعي كما هو صريح في القصة.
وغرامةُ البويطي ألفَ دينار لا شأن للحميدي بها، ولا لاختلاف الأصحاب؛ فإن الأستاذ إنما أخذ مما في «توالي التأسيس»
(1)
: «قال زكريا الساجي: سمعت إبراهيم بن زياد يقول: سمعت البويطي يقول: لما مات الشافعي اجتمعنا في موضعه جماعة [1/ 295] من أصحابه، فجعل أصحاب مالك يسعون بنا عند السلطان، حتى بقيت أنا ومولى للشافعي. ثم صرنا بعد نجتمع ونتألَّف، ثم يسعون بنا حتى نتفرق، فلقد غرمتُ نحوًا من ألف دينار حتى تراجَعَ أصحابنا وتألَّفنا» . فغرامةُ الألف كانت للسعي في إنقاذ من تحبسه الأمراء أو تنفيه من الأصحاب. فإن كان هناك برطيل، فللأمراء وأشياعهم. وزَعْمُ أنَّ البويطيَّ رشا الحميديَّ حتى شهد له زورًا بهتانٌ عظيمٌ لا يضرُّ في الدنيا والآخرة إلا مختلقَه!
وزَعْمُ أنَّ هوى الحميدي كان مع البويطي مخلوق آخر! ولو كان للهوى مدخل لكان هواه مع ابن عبد الحكم صديقه ومضيفه. وكان آل عبد الحكم أهل الكلمة والمكانة والثروة بمصر، لا يكاد يُذكَر البويطيُّ في ذلك بالنسبة إليهم.
وزَعْمُ التقارب في المنزع خلافُ الواقع، فإن الحميدي كان محدِّثًا قبل
(1)
(ص 197).
كل شيء، والبويطي كان فقيهًا قبل كل شيء
(1)
.
وبُعْدُ البويطي عن الغوصِ مخلوق آخر! فقد كان الشافعي يحيل عليه بالفتوى في حياته، وإن كان أقلَّ مخالفةً له من المزني. والمزني لم يكن عند وفاة الشافعي في حدِّ أن يصلح لخلافته، كما يعلم من قول الشافعي له: «وليأتين عليك زمان
…
». وكانت سنُّه عند وفاة الشافعي دون الثلاثين، وكأنه إنما صحب الشافعي بأَخَرة؛ فإنه استعان على ما فاته عن الشافعي بكتاب الربيع، كما مرَّ في ترجمة الربيع
(2)
. فأما ابن عبد الحكم فكان دون ذلك بكثير، كما يعلم مما مرَّ.
ولم ير الأستاذ في تخرُّصاته بعد عنائه الطويل ما يغترُّ به عاقل! فأردف ذلك بحاشية علَّقها على (ص 131) أعاد فيها بعض ما تقدَّم، وحاول الاستنتاج على ذلك الأسلوب! فلا أطيل بذكر ذلك وما عليه. لكن زاد فيها ما قيل: إن البويطي لما حُبِسَ قال: «برئ الناس من دمي إلا ثلاثة حرملة والمزني وآخر» . وقال بعضهم: إنه أراد بالآخر ابن الشافعي. فالحكاية ذكرها ابن السبكي
(3)
بقوله: «قال أبو جعفر الترمذي: فحدثني الثقة عن البويطي أنه قال
…
». ولا أدري كيف سندها إلى أبي جعفر، ومَن شيخ أبي جعفر؟ أثقةً كان حقًّا أم لا؟ أسَمِع من البويطي، أم بلغه عنه؟ والحكاية
(1)
لعل الكوثري أراد بالمنزع الاعتقاد. فالحميديّ معروف بإمامته في السّنة، والبويطي معروف موقفه من القول بخلق القرآن وصلابته حتى إنه توفي في السجن من أجل ذلك كما سيأتي.
(2)
رقم (91).
(3)
في «طبقات الشافعية» : (2/ 164).
منكرة، لأن أولئك الثلاثة إن كانوا سعوا به ــ كما قيل ــ فالمباشرُ لترحيلهِ من مصر وتقييدهِ وحبسهِ غيرُهم، فكيف يبرِّئ المباشرين لظلمه دون الساعين؟ وأيضًا فلا موضع للسعي، لأن قضاة مصر الحنفية الجهمية كانوا يتبعون كلَّ من عُرِف بعلم أو فقه، [1/ 296] فيُكرِهونه على القول بخلق القرآن، وشمل ذلك جميعَ علماء الشافعية والمالكية بمصر. وأشبَهُ ما تحمل عليه الحكايةُ ــ إن صحَّتْ ــ هو أن يكون الجهمية حينئذ إنما كانوا يتعرَّضون لمن جاهر بالإنكار عليهم وأعلن منابذتهم وتضليلهم، وكان البويطيُّ يؤثر عدمَ المجاهرة، فجاهر أولئك الثلاثة، فأدَّى ذلك إلى قبض الجهمية على البويطي باعتبار أنه رئيس الجماعة، والمعروفُ عن أولئك الثلاثة عقيدة أهل السنة.
وكأنَّ الأستاذ يقيس أصحاب الشافعي على أصحاب أبي حنيفة، إذْ كذَّب أبو يوسف محمدًا تكذيبًا صريحًا فيما يرويه عنه، مع ما في كتب الحنفية كـ «شرح السير الكبير» (ج 1 ص 3) إذ ذكر الوحشة التي كانت بين أبي يوسف ومحمد، ثم قال: «وسببها الخاص ما يُحكى أنه جرى ذكر محمد رحمه الله في مجلس الخليفة، فأثنى عليه الخليفة، فخاف أبو يوسف أن يقرِّبه، فخلا به وقال: أترغب في قضاء مصر؟ فقال محمد: ما غرضك في هذا؟ فقال: قد ظهر علمنا بالعراق، وأحبُّ أن يظهر بمصر. فقال محمد: حتى أنظر. وشاور في ذلك أصحابَه، فقالوا له: ليس غرضَه قضاؤك، ولكن يريد أن ينحِّيك عن باب الخليفة. ثم أمر الخليفةُ أبا يوسف أن يُحضِره مجلسه، فقال أبو يوسف: إن به داءً لا يصلح معه لمجلس أمير المؤمنين. فقال: وما ذاك؟ قال: به سلس البول بحيث لا يمكنه استدامة الجلوس. فقال
الخليفة: فأذن له بالقيام عند حاجته. ثم خلا بمحمد رحمه الله، وقال: إن أمير المؤمنين يدعوك، وهو رجل ملول فلا تُطِل الجلوس عنده، وإذا أشرتُ إليك فقم
…
ولما مات أبو يوسف رحمه الله لم يخرج محمد رحمه الله في جنازته».
لكن الفرق يا أستاذ واضح. كان أمام أبي يوسف ومحمد مجلسُ الرشيد، وملاذُّ الدنيا، وبِدَر الدنانير، وتخوت الثياب وغير ذلك. ولم يكن أمام البويطي شيء من ذلك، إنما أمامه مخالفة المالكية والجهمية والدولة، واحتاج أن يُنفق من صلب ماله وقوت عياله، حتى ختم الله تعالى له على أيدي أصحابك بالحسنى وزيادة.
مِن ثناء الأئمة على الحميدي: قال الإمام أحمد: «الحميدي إمام» . وقال أبو حاتم: «هو أثبتُ الناس في ابن عيينة، وهو رئيس أصحابه، وهو ثقة إمام» . وقال يعقوب بن سفيان: «ثنا الحميدي، وما لقيت أنصحَ للإسلام وأهله منه» .
[1/ 297] فأما شدةُ الحميدي على أبي حنيفة، فاضطرَّه إليها ما بلغه عنه مما ذُكِر بعضُه في الترجمة، وقد صرَّح الأستاذ نفسه (ص 36) في بعضها أنه كفر صراح، وتلك الحكاية سمعها الحميدي من حمزة بن الحارث بن عمير، يرويها عن أبيه أنه سمعها من أبي حنيفة. وقد روى رجاء بن السِّندي ــ وقد تقدمت ترجمته
(1)
ــ عن حمزة بن الحارث عن أبيه نحوها كما في الترجمة. وحمزة ثقة عندهم، وكذلك أبوه عند القدماء ــ كما تقدم في
(1)
رقم (92).
ترجمته
(1)
ــ فكان ثقة عند الحميدي، فكان عند الحميدي أن الحكاية صحيحة.
وسمع الحميدي أبا صالح الفرَّاء ــ وهو محبوب بن موسى ــ يحدِّث عن الفزاري وهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث قال: قال أبو حنيفة: «إيمان آدم وإيمان إبليس واحد
…
». وقد قال عثمان بن سعيد الدارمي: ثنا محبوب بن موسى الأنطاكي قال: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: «إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد
…
». وقد مرت ترجمة الفزاري
(2)
، وتأتي ترجمة عثمان ومحبوب
(3)
. وكان عند الحميدي أن هذه الحكاية صحيحة أيضًا.
ومن تدبَّر الترجمة علم أنه كان عند الحميدي حكايات أخرى قد سمعها ممن هو عنده ثقة. وبهذا يتبين للعالم العاقل أن الحميدي إن كان مخطئًا فهو معذور مأجور إن شاء الله تعالى. وقد عذَرَ أهلُ السنة بعضَ من قاتل أميرَ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، وجاهر بسبِّه ولعنه، فإن كان الحميديُّ مخطئًا، فهو أولى وأجدرُ بأن يُعذَر ويُؤجَر.
فإن قيل: فكذلك ينبغي أن تعذروا الكوثريَّ، وإن اعتقدتم خطأه.
قلت: أما في خطئه الذي يُعذَر به، فحبًّا وكرامة. وأما ما زاد على ذلك، فقد جعل الله لكل شيء قدرًا!
(1)
رقم (68).
(2)
رقم (8).
(3)
رقم (156 و 184).