الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما قول ابن الجوزي: «وقاحة عظيمة وعصبية باردة وقلة دين» فابن الجوزي أحوج إلى أن يجيب عنها! غفر الله للجميع.
فصل
في «تاريخ بغداد» (2/ 177): «أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال: أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: ثنا
(1)
محمد بن إسماعيل التمار قال: حدثني الربيع بن سليمان
(2)
قال: سمعت الشافعي يقول: ما ناظرتُ أحدًا إلا تمعَّر وجهه، ما خلا محمد بن الحسن. أخبرنا محمد بن الحسين القطان قال: أنبأنا دَعْلَج بن أحمد قال: أنبأنا أحمد بن علي الأ بَّار قال: حدثني يونس ــ يعني ابن عبد الأعلى ــ قال سمعت الشافعي يقول: ناظرتُ محمدَ بن الحسن وعليه ثياب رِقاق، فجعل تنتفخ أوداجُه، ويصيح حتى لم يبق له زِرٌّ إلا انقطع. قلت:(الصواب: قال) ما كان لصاحبك أن يتكلم، ولا كان لصاحبي أن يسكت. قال: قلت له: نشدْتُك بالله هل تعلم أن صاحبي كان عالمًا بكتاب الله؟ قال: نعم. قال: قلت: فهل كان عالمًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم. قال: قلت: أفما كان عاقلًا؟ قال: نعم. قلت: فهل كان صاحبك جاهلًا بكتاب الله؟ قال: نعم. قلت: وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم. قلت: أوَ كان
(3)
عاقلًا؟ قال: نعم. قال: قلت: صاحبي فيه ثلاث خصال لا يستقيم لأحد أن يكون
(1)
كذا في (ط) وفي «التاريخ» : «أنبأنا» .
(2)
«بن سليمان» ليست في «التاريخ» .
(3)
(ط): «وكان» والمثبت من «التاريخ» .
قاضيًا إلا بهن ــ أو كلامًا هذا معناه ــ».
قال الأستاذ (ص 180) في جملة الكلام على الحكاية الثانية في شأن تغير محمد بن الحسن: [1/ 149]«هذا خلاف ما صح عنه في «انتقاء ابن عبد البر» ص 24، وخلاف ما ثبت عن الشافعي بطرق أنه لم ير من لا يتغير عند المناظرة سواه».
أقول: الذي في «الانتقاء» في تلك الصفحة
(1)
: «حدثنا خلف بن قاسم قال: نا الحسن بن رشيق قال: نا محمد بن الربيع بن سليمان ومحمد بن سفيان بن سعيد قالا: نا يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: ذاكرتُ محمد بن الحسن يومًا، فدار بيني وبينه كلام واختلاف، حتى جعلت أنظر إلى أوداجه تَدُرّ
(2)
وتنقطع أزرارُه، فكان فيما قلت له يومئذ: نشدتُك بالله هل تعلم أن صاحبنا ــ يعني مالكًا ــ كان عالمًا بكتاب الله؟ قال: اللهم نعم. قلت: وعالمًا باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: اللهم نعم». فالاختلاف بين الروايتين بالنسبة إلى تغيُّر محمد اختلاف يسير، لا تكاد تخلو عن مثله حكايةٌ تُروى من وجهين مختلفين.
أما قول الأستاذ: «وخلاف ما ثبت عن الشافعي بطرق
…
» فقد قدَّم الخطيبُ روايته في ذلك، وفي سندها محمد بن إسماعيل التمار. قال الأستاذ: إنه غير موثَّق، كما يأتي في ترجمته
(3)
. ولا منافاة، بل معنى قوله:
(1)
(ص 57 - المحققة).
(2)
(ط): «تدور» تحريف، والمثبت من «الانتقاء» .
(3)
لم يَذْكُر في الكتاب إلا محمد بن إسماعيل الترمذي أبا إسماعيل رقم (193).
«ما ناظرت أحدًا إلا تمعَّر وجهه» على العموم، فيعمُّ كلَّ مناظر في كل مناظرة. فقوله:«ما خلا محمد بن الحسن» يصح أن يراد أنه لم يكن يتمعّر وجهه في كل مناظرة، فلا ينافي ذلك أنه تغير في مناظرة واحدة مثلًا.
ثم ذكر الأستاذ بقية القصة ثم قال: «لا أدري متى كان أبو حنيفة أو مالك قاضيًا .. » .
أقول: هذا هيِّن، فإنَّ مِن لازم أهلية القضاء أهلية الاجتهاد.
ثم قال: «وتلك العبارة لم ترد في رواية من الروايات أصلًا، بل هذه تغيير من الخطيب حتمًا، وقد زاد في الآخر: «أو كلامًا هذا معناه» ليتمكَّن من التملُّص من تبعة هذا التحريف الشنيع حينما يهتك ستر وجهه بأن قيل له: استقصينا طرق تلك الحكاية من طريق يونس بن عبد الأعلى وغيره استقصاءً لا مزيد عليه، فلم نجد تلك العبارة في شيء منها، فتكون أنت غيَّرتَ وبدَّلتَ! فيجيب الخطيب قائلًا: ما ادعيتُ أن ما سبق ذكره هو نصُّ عبارة الرواية، بل هذا معناه. وكفى أن نقول لمثل هذا المحرِّف المنحرف: أفليس في روايتك: «ما كان [1/ 150] لصاحبك أن يتكلم ولا كان لصاحبي أن يسكت» ؟ ، فكيف تتصور أن يُوجب محمدُ بن الحسن الكلامَ والإفتاءَ على من هو جاهل بكتاب الله وسنة رسوله، ويحرِّم ذلك على العالم بهما، فيكون مع الخبر ما يبطله؛ على أن من اطلع على كتب محمد بن الحسن
…
عَلِمَ عِلْمَ اليقين منزلة صاحبه عنده من معرفة الكتاب والسنة».
أقول: قولك: «لم ترد في رواية من الروايات أصلًا» إن أردت الإطلاق، فهذه مجازفة، فإن كثيرًا من كتب الحديث ــ فضلًا عن كتب الحكايات ــ منها ما قد فُقد، ومنها ما ليس في متناول الأيدي. وحسبك أنك ادعيت الاستقصاء الذي لا مزيد عليه، ومع ذلك فاتك في كلامك أثبَتُ الطرق،
وهي رواية ابن أبي حاتم عن ابن عبد الحكم، وهي في موضعين من كتاب «تقدمة الجرح والتعديل»
(1)
الذي نقلتَ عنه في غير موضع، منها ما مرَّ في ترجمة إبراهيم بن محمد بن الحارث
(2)
. وفي «تهذيب التهذيب»
(3)
في ترجمة مالك التنبيه عليها، وهو في متناول يدك كلّ وقت. وهذا لفظ ابن أبي حاتم: «حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم بالقرآن
(4)
: صاحبنا أو صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالك بن أنس. قلت: على الإنصاف؟ قال: نعم. قلت: فأنشدك الله، مَن أعلم بالقرآن: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم، يعني: مالكًا. قلت: فأنشدك الله، مَن أعلم بالسنة: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قلت: فأنشدك الله، مَن أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمتقدمين: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم. قال الشافعي: فقلت: لم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على واحد من هذه الأشياء؛ فمن لم يعرف الأصول، فعلى أي شيء يقيس؟ ».
فاتت الأستاذَ ــ مع زعمه أنه استقصى استقصاءً لا مزيد عليه ــ هذه الرواية، مع أن في ترجمة مالك من «تهذيب التهذيب»: «وقال ابن أبي حاتم: ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، سمعت الشافعي يقول:
…
». نعم، نقل الأستاذ متنَ هذه الرواية عن كتابٍ لم تُسْنَد فيه ولا أشير إلى
(1)
(1/ 4، 12 - 13).
(2)
(رقم 8).
(3)
(10/ 8).
(4)
«بالقرآن» كذا وقع في هذه الرواية، وفي الرواية الأولى بدونها، ولعلها الأشبه.
إسنادها فقال: «ولفظ أبي
(1)
إسحاق الشيرازي في «طبقات الفقهاء» (ص 42) بدون سند: قال الشافعي
…
».
وذكر الأستاذ رواية ابن عبد الحكم من وجهين آخرين:
الأول: عن (ص 23)
(2)
من «انتقاء ابن عبد البر» من طريق «إبراهيم بن نصر سمعت محمد بن [1/ 151] عبد الله بن عبد الحكم يقول: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم، أم صاحبكم؟ ــ يعني أبا حنيفة ومالكًا ــ وما كان على صاحبكم أن يتكلم، وما كان على صاحبنا أن يسكت، قال: فغضبت، وقلت: نشدتك الله، من كان أعلم بسنة رسول صلى الله عليه وسلم: مالك أو أبو حنيفة؟ قال: مالك، لكن صاحبنا أَقْيَس. فقلت: نعم، ومالك أعلم بكتاب الله تعالى وناسخه ومنسوخه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي حنيفة، فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أولى بالكلام» .
الثاني: عن «مناقب أحمد» لابن الجوزي (ص 498) من طريق «محمد بن يحيى بن آدم الجوهري قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: سمعت محمد بن الحسن يقول: صاحبنا أعلم، أم صاحبكم؟ قلت: تريد المكابرة أم الإنصاف؟ قال: بل الإنصاف. قلت: فما الحجة عندكم؟ قال: الكتاب والإجماع والسنة والقياس. قال: قلت: أنشدك، أصاحبنا أعلم بكتاب الله، أم صاحبكم؟ قال: إذ نشدتَني بالله
(1)
(ط): «ابن أبي» خطأ، وهو على الصواب في «التأنيب» .
(2)
(ص 55 - 57).
فصاحبكم. قلت: فصاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم، قلت: فبقي شيء غير القياس؟ قال: لا، قلت: فنحن ندّعي القياس أكثر مما تدعونه، وإنما يقاس على الأصول فيعرف القياس، قال: ويريد بصاحبه مالك بن أنس».
ثم نقل عن «كتاب ذم الكلام»
(1)
للهروي رواية أخرى من طريق الربيع عن الشافعي، وبين الألفاظ اختلاف كما هو شأن الرواية بالمعنى. ومثل ذلك يكثر في رواية الأحاديث النبوية، كما سترى أمثلته في «قسم الفقهيات» من هذا الكتاب، فما بالك بالحكايات!
وأثبَتُ هذه الروايات وأولاها بأن يكون متنها هو اللفظَ الذي قاله الشافعي: روايةُ ابن أبي حاتم، لجلالته ولأنه أثبتَها في موضعين من كتابه بلا فرق، فدلَّ ذلك أنه أثبتها في أصله عند تلقيها من ابن عبد الحكم، ثم نقلها بأمانتها إلى كتابه المصنَّف. فأما بقية الروايات، فلم تُقيَّد في كتاب إلا بعد زمان، بعد أن تداولها جماعة من الرواة، وذلك مظنة للتصرُّف على جهة الرواية بالمعنى. نعم، رواية الخطيب من طريق الأ بَّار عن يونس مقيّدة في مصنَّف للأبار يرويه الخطيب بذاك السند، لكن لم يقم دليل على أن الأ بَّار أثبتها في أصله عند السماع، إلا أن رواية ابن [1/ 152] عبد البر دلت على ضبط الأ بَّار. وإنما الظاهر أن يونس لم يكتب الحكاية عند سماعها من الشافعي، ولم يتقن حفظها، فاتسع في روايتها بالمعنى واحتاط.
(1)
(1/ 129 - 130).
وإيضاح ذلك: أن القصة مبنية على المفاضلة، والمفاضلة قد يعبَّر عنها بالجمع كأن يقال:«أيهما أعلم» ، وقد يعبر عنها بالتفريق كأن يقال:«أما كان فلان كذا؟ » ، ثم يقال في الآخر:«فهل كان فلان كذا؟ » على الوجه الذي يؤدي التفضيل. فرواية ابن عبد الحكم من طرقها الثلاث ــ وكذا رواية الربيع ــ سلكت طريق الجمع «أيهما أعلم» . أما يونس فسلك طريق التفريق، فوقع في روايته عند الخطيب وابن عبد البر: «هل تعلم أن صاحبي - أو صاحبنا - عالم
…
؟ »، فلزم من هذا بحسب الظاهر أن يقال في المقابل:«فهل كان صاحبك جاهلًا؟ » . فجرى الأمر على ذلك كما في رواية الخطيب. وكأنَّ يونس أحسّ بالخلل في الظاهر، فقال في رواية الخطيب:«أو كلامًا هذا معناه» . فأما في رواية ابن عبد البر، فقد يكون الاقتصار من يونس لشعوره بعدم إتقانه للقصة، فكما أنه لأجل ذلك لما حدَّث الأ بَّار واستوفى القصة قال:«أو كلامًا هذا معناه» ، فكذلك لما حدَّث محمد بن الربيع ومحمد بن سفيان اقتصر على أولها، وترك ما يتبين به الخلل.
وقد يكون ــ وهو الظاهر ــ الاقتصار من عبد البر، وذلك لأسباب:
الأول: أن بقية الحكاية ليس من مقصوده في الموضع الذي ذكرها فيه.
الثاني: أن ذكر بقيتها مناف لمقصوده في «الانتقاء» من الإجمال والمجاملة.
الثالث: أنه شعر أن في بقيتها خللًا بحسب الظاهر.
أما قولي بأن الخلل بحسب الظاهر فقط، فلأن القرائن تدل أن المقصود بكلمة «جاهل» الجهل النسبي. وفي «فتح المغيث»
(ص 162)
(1)
: «فقد يقولون: فلان ثقة أو ضعيف، ولا يريدون أنه ممن يحتجّ به ولا ممن يُرَدُّ، إنما ذاك بالنسبة لمن قُرِن معه
…
قال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه
…
فقال: ليس به بأس. قلت: هو أحب إليك أو سعيد المقبري؟ قال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف. فهذا لم يُرد به ابن معين أن العلاء ضعيف مطلقًا، بدليل قوله: إنه لا بأس به. وإنما أراد أنه ضعيف بالنسبة لسعيد المقبري».
وأما احتمال أن يكون الاقتصار من ابن عبد البر، فمثل ذلك جائز عند الجمهور في الحديث [1/ 153] النبوي، فكيف الحكايات! وفي «تدريب الراوي»
(2)
: «قال البُلْقيني: يجوز حذف زيادةٍ مشكوك فيها بلا خلاف، وكان مالك يفعله كثيرًا تورُّعًا» .
وأما قولي: إن التغيير من يونس، فلوجهين:
الأول: أن رواية ابن عبد الحكم بطرقها الثلاث ورواية الربيع قد دلت أن القصة مطوَّلة، وأن موضوعها المفاضلة بين مالك وأبي حنيفة، ورواية ابن عبد البر من طريق يونس لا تفي بذلك.
الثاني: أن رواية ابن عبد البر قد وافقت رواية الخطيب في التغيير في ذِكْر مالك بلفظ «عالم» وذلك من يونس اتفاقًا، وهو مقتض ــ كما تقدم ــ أن يقال في مقابله «جاهل» ، فبان أن هذا أيضًا من يونس. ولولا رواية ابن عبد البر لجاز أن يكون التغيير من الأ بَّار، بأن يكون لما سمع القصة لم يُثبتها
(1)
(2/ 127 - 128).
(2)
(1/ 541)، وكلام البلقيني في كتابه «محاسن الاصطلاح» (ص 336 - 337).
في أصله، ولم يُتقن حفظها، فلما احتاج إلى ذكرها في مصنَّفه رواها بالمعنى، ولما أحسَّ بالخلل بحسب الظاهر قال:«أو كلامًا هذا معناه» .
فأما احتمال أن يكون التغيير من الخطيب خطأً، فباطل لأوجه:
الأول: ما تقدم من الدلالة على أن التغيير من فوق.
الثاني: أن الخطيب إنما يروي بذلك السند من كتاب معروف للأبار.
الثالث: أن الخطيب لم يكن يتساهل في الرواية من حفظه. وفي «تذكرة الحفاظ» (ج 4 ص 4)
(1)
: «قال الحميدي: ما راجعت الخطيب في شيء إلا أحالني على الكتاب، وقال: حتى أكشفه» . وفي الصفحة التي تليها عن السِّلَفي: «سألت أبا الغنائم النَّرْسي عن الخطيب؟ فقال: جبل لا يُسأل عن مثله، ما رأينا مثله، وما سألته عن شيء فأجاب في الحال إلا يرجع إلى كتابه» . وفيها (ج 3 ص 318)
(2)
عن عبد الوارث الشيرازي: «كنا إذا سألنا عن شيء أجابنا بعد أيام، وإن ألححنا عليه غضب، كانت له بادرة وحشة» .
الرابع: أن الخطيب يعلم عادة المحدثين في تتبُّع عثرات المحدِّث، مع أنه قد أوغر قلوب كثير منهم، فلو تساهل بالرواية من حفظه لِما أخذه من مصنَّف معروف ــ كما صنع الأستاذ ذلك في مواضع معتذرًا بما تقدم في ترجمة أحمد بن سلمان
(3)
ــ لقالوا له: هذا كتاب معروف [1/ 154] متداول،
(1)
(4/ 1203).
(2)
(3/ 1142).
(3)
(رقم 19).
وليس فيه كما ذكرت. فإن قال: قد قلت: «أو كلامًا هذا معناه» قالوا: لم تبيِّن أن هذا من عندك، ومع ذلك فعادتك التثبت الزائد حتى إذا سُئلت عن شيء أحلتَ على الكتاب، فكيف يُعقل أن تتساهل فيما تثبته في مصنَّفك!
هذا، وقد علمنا أن الأئمة وثَّقوا الخطيب وثبَّتوه، وبالغوا في إطرائه، ولم يعثر له المتعنِّتون على أدنى خلل في الرواية. وقد علمت محاولة ابن الجوزي الغضَّ من الخطيب، فلم يظفر بشيء من باب الرواية، وإنما تعنَّتَ في أمور أُخر قد مرَّ ما فيها. فمحاولة الأستاذ أن ينسب التغيير إلى الخطيب وأنه تعمده تَناوُشٌ من مكان بعيد.
قول الأستاذ: «أليس في روايتك: ما كان لصاحبك أن يتكلم
…
فكيف تتصور
…
».
أقول: قد يكون هذا من جملة التغيير، ويكون الصواب في رواية ابن الجوزي من طريق ابن عبد الحكم
(1)
: «ما كان على صاحبكم أن يتكلم» . لكن في رواية الهروي من طريق الربيع: «قد رأيت مالكًا، وسألته عن أشياء، فما كان يحل له أن يفتي» . وقد مرّ بيان أن كلمة «جاهلًا» في رواية الخطيب المراد به الجهل النسبي، وحاصله أنه دون مالك في العلم بالكتاب والسنة.
ومعروف عن أهل الرأي أنهم يؤكّدون أمر الرأي والقياس، ويقولون: مَن كان عنده من العلم بالكتاب والسنة ما يكفيه، وكان جيّد النظر في الرأي والقياس كان عليه أن يفتي. ومن كان ضعيف النظر في الرأي والقياس لم يكن له أن يفتي، وإن كان أعلم من الأول بالكتاب والسنة.
(1)
(ط): «عبد الحكيم» تحريف.
وقد أشار الشافعي في عدة مواضع من كتبه إلى زعم أهل العراق ضعفَ مالك في القياس. ففي «الأم» (ج 4 ص 6)
(1)
: «أرأيت من نسبتم إليه الضعف من أصحابنا وتعطيل النظر وقلتم: إنما يتخرَّص، فيلقي ما جاء على لسانه
…
». وفيها (ج 7 ص 257)
(2)
: «فسمعت بعض من يفتي منهم يحلف بالله: ما كان لفلان أن يفتي، لنقص عقله وجهالته؛ وما كان يحلّ لفلان أن يسكت [يعني] آخر من أهل العلم» . على أن المحاجَّة والملاجَّة التي تبلغ بالحليم الوقور أن تنتفخ أوداجه وتنقطع أزراره مظنةٌ للإسراف في القول.
قول الأستاذ: «على أن من اطلع على كتب محمد بن الحسن
…
».
أقول: قد سلف أنه ليس في تلك الرواية ولا غيرها نفيُ محمد أن يكون لأبي حنيفة علمٌ بالكتاب والسنة، وإنما في الروايات كلها أنه دون مالك في ذلك. فأما العلم بالسنة، فيكفي [1/ 155] في الشهادة لذلك الموازنة بين ما روى محمد عن أبي حنيفة وما روى عن مالك. وأما العلم بالكتاب، فإن كان في كتب محمد ما ينافي اعترافه، فالأستاذ أحوج إلى أن يجيب عن هذا جوابًا معقولًا.
ولقائل أن يقول: إن محمدًا لما ضايقه الشافعي، وسأله بالله عز وجل وناشده إياه، وشرط عليه الإنصاف= راجع نفسه، فلم يسعه إلا الاعتراف. ولعله جرى في بعض كتبه على الاسترسال في الميل إلى أبي حنيفة، والحق إن شاء الله تعالى أنه ليس في كتب محمد ما هو صريح في منافاة اعترافه.
(1)
(5/ 157).
(2)
(9/ 28) وما بين المعكوفين منه، وكان مكانه في (ط):«ــ» .
قال الأستاذ: «ملازمة الشافعي لمالك إلى وفاته لم ترد إلا في خبر منكر
…
والمعروف أنه صحبه إلى أن أتم سماع «الموطأ» منه في نحو ثمانية أشهر. وأما محمد بن الحسن، فقد لازم مالكًا ما يزيد على ثلاث سنين، فلا يتصور أن يسأل محمدُ بن الحسن الشافعيَّ عن مبلغ علم أبي حنيفة ومالك كما وقع في رواية الشيرازي؛ لأن أبا حنيفة لم يدركه الشافعي حتى يُتحاكم في علمه إليه، وكذلك لم يلازم مالكًا أكثر من محمد بن الحسن. فالمفاضلة بين الإمامين بصيغة صاحبنا وصاحبكم والحالة هذه غير مستساغة».
أقول: الذي وقع في رواية الشيرازي هو الواقع في أثبَتِ الروايات، وهي رواية ابن أبي حاتم التي فاتت الأستاذ، مع زعمه أنه استقصى استقصاءً لا مزيد عليه. وكذلك هي في الوجهين الآخرين عن ابن عبد الحكم
(1)
. والشافعي حجازي، فلعله عاد إلى المدينة بعد قراءته «الموطأ» وخروجه منها، بل لعله تردد مرارًا. وكان الشافعي يدين أوّلًا بقول مالك ويذبُّ عنه، فإن لم يكن تلقَّى جميع ذلك منه، فقد تلقى بعضه منه وبعضه من أصحابه، ومعرفة الشافعي بمبلغ علم أبي حنيفة يكفي فيها نظرة في كتبه وكتب أصحابه. وسؤال محمد للشافعي ليس على وجه التحكيم، بل على وجه السؤال عن رأيه. والشافعي حجازي كمالك كان أولًا يدين بقوله، ثم صار ربما خالفه مع انتسابه إليه، وحينئذٍ وقعت القصة. وإنما كثر خلافه لمالك بعد دخوله مصر، وذلك بعد موت محمد بن الحسن. ومحمدُ بن الحسن عراقيّ كأبي حنيفة، ينتسب إليه، ويتَّبعه في أصوله، ويذبُّ عن قوله غالبًا. فأي غبار على أن يقول محمد للشافعي:«صاحبكم» يريد مالكًا، و «صاحبنا» يريد أبا حنيفة؟
(1)
(ط): «عبد الحكيم» خطأ.