الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 - قولهم: من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا
…
قال البخاري في "جزء القراءة"
(1)
: "والذي يُذكر عن مالك في ابن إسحاق لا يكاد يبين
…
ولو صح
…
فلربما تكلم الإنسان فيرمي صاحبه بشيء واحد، ولا يتهمه في الأمور كلها. وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فُليح: نهاني مالك عن شيخين من قريش، وقد أكثر عنهما في "الموطأ"، وهما مما يحتج بحديثهما. ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم نحو ما يُذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة، وفيمن كان قبلهم، وتأويل بعضهم في العرض والنفس. ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيانٍ وحجة، ولم يسقط عدالتهم إلا ببرهان
(2)
وحجة
…
وقال بعضُ أهل المدينة: إن الذي يذكر عن هشام بن عروة قال: كيف يدخل ابن إسحاق على امرأتي؟ لو صح عن هشام جائز أن تكتب إليه
…
وجائزٌ أن يكون سمع منها وبينهما حجاب، وهشام لم يشهد".
وفي "فتح المغيث" للسخاوي (ص 130)
(3)
عن محمد بن نصر المروزي: "كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبيِّن ذلك بأمر لا يحتمل أن يكون غير جرحة".
وفي ترجمة عكرمة من "مقدمة فتح الباري"
(4)
عن ابن جرير: "من
(1)
(ص 36 - 37).
(2)
في "الجزء": "ببرهان ثابت".
(3)
(2/ 30).
(4)
(ص 429).
ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح، وما تسقط العدالة بالظن وبقول فلان لمولاه:[1/ 76]"لا تكذب عليَّ"، وما أشبهه من القول الذي له وجوه وتصاريف ومعان غير الذي وجَّهه إليه أهل الغباوة".
وقال ابن عبد البر
(1)
: "الصحيح في هذا الباب: أن مَن صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته
(2)
، وبانت ثقته وعنايته بالعلم؛ لم يُلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحته ببيّنة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها
(3)
من المشاهدة والمعاينة".
قال السخاوي في "فتح المغيث"
(4)
: " .. ليس المراد إقامة بينة على جرحه، بل المعنى أنه يستند في جرحه إلى ما يستند إليه الشاهد في شهادته، وهو المشاهدة ونحوها".
قد يقال: إن كان المراد بثبوت العدالة أن يتقدم التعديل والحكم به والعمل بحسبه على الجرح، فهذا إنما يكثر في الشهود. وإن كان المراد بثبوتها حصول تعديل على أيِّ حالٍ كان، فهذا لا وجه له. فقد تقدم في القاعدة السادسة
(5)
ما يعلم منه أن التعديل يتفاوت، ويحتمل كثير منه الخلل، كما يحتمله الجرح الذي لم يُشرح كل الشرح، أو أشد. ومن تتبع
(1)
في "جامع بيان العلم": (2/ 1093).
(2)
كذا في الطبعة التي نقل منها المؤلف، وفي المحققة و"فتح المغيث":"إمامته".
(3)
في "فتح المغيث": "بما فيها".
(4)
(2/ 30).
(5)
(ص 104 وما بعدها).
صنيع أهل العلم تبين له أنهم كثيرًا ما يقدّمون الجرح الذي لم يُشرح كل الشرح على التوثيق، كما في حال إبراهيم بن أبي يحيى والواقدي وغيرهما. وكثيرًا ما يقع للبخاري وغيره القدحُ فيمن لم يدركوه، وقد سبق أن عدَّله معدِّل أو أكثر، ولم يسبق أن جرحه أحد.
فأقول: الذي يتحرر أن للعدالة جهتين:
الأولى: استقامة السيرة. وثبوت هذا بالنظر إلى هذه القاعدة يظهر
(1)
فيمن تظهر عدالته، ويعدَّل تعديلًا معتمدًا، وتمضي مدة، ثم يجرح. فأما ما عدا ذلك فالمدار على الترجيح، وقد مرَّ في القاعدة السابقة.
الجهة الثانية: استقامة الرواية. وهذا يثبت عند المحدِّث بتتبعه أحاديثَ الراوي، واعتبارِها، وتبيُّنِ أنها كلّها مستقيمة تدل على أن الراوي كان من أهل الصدق والأمانة. وهذا لا يتيسر لأهل عصرنا، لكن إذا كان القادحون في الراوي قد نصوا على ما أنكروه من حديثه، بحيث ظهر أن ما عدا ذلك من حديثه مستقيم، فقد يتيسر لنا أن ننظر في تلك الأحاديث؛ فإذا تبين أن لها مخارج قوية تدفع التهمة عن الراوي فقد ثبتت استقامة روايته.
وقد حاولتُ العمل بهذا [1/ 77] في بعض الآتين في قسم التراجم كالحارث بن عمير والهيثم بن جميل
(2)
. فأما ما عدا هذا، فإننا نحتاج إلى الترجيح، فقد يترجح عندنا استقامة رواية الرجل باحتجاج البخاري به في "صحيحه"؛ لظهور أن البخاري إنما احتجَّ به بعد أن تتبع أحاديثه وسَبَرها
(1)
(ط): "تظهر".
(2)
انظر رقم (68 و 263).
وتبيّن له استقامتها. وقد علمنا مكانة البخاري، وسعة اطلاعه، ونفوذ نظره، وشدّة احتياطه في "صحيحه". وقس على ذلك، وراجع ما تقدم في القواعد السابقة. والله الموفق.
هذا وقد تعرَّض ابنُ السبكي في ترجمة أحمد بن صالح من "طبقات الشافعية"
(1)
لهذه القاعدة، وزاد فيها فقال: "فنقول مثلًا: لا يُلتفت إلى كلام ابن أبي ذئب في مالك، وابن معين في الشافعي، والنسائي في أحمد بن صالح؛ لأن هؤلاء أئمة مشهورون، صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صحَّ لتوفرت الدواعي على نقله، وكان القاطع قائمًا على كذبه
…
ومعنا أصلان نستصحبهما إلى أن نتيقن خلافهما: أصل عدالة الإمام المجروح
…
، وأصل عدالة الجارح
…
فلا نلتفت إلى جرحه، ولا نجرحه بجرحه. فاحفظ هذا المكان فهو من المهمات
…
فنحن نقبل قول ابن معين
…
ولا نقبل قوله في الشافعي، ولو فسَّر وأتى بألف إيضاح؛ لقيام القاطع على أنه غير مُحِقٍّ بالنسبة إليه".
أقول: هوَّل على عادته، والإنصاف أن الشافعي لم يكن معصومًا، ولم يقم القاطعُ اليقينيُّ على أنه لم يقع منه ما إذا وقع من الرجل صح أن يُجرح به. ولم يكن الشافعي طول عمره في جميع أحواله لا يزال بحضرته جمٌّ غفير، تقضي العادةُ حتمًا بأنه لو وقع منه شيء مما ذُكِر لتوفّرت الدواعي على نقله. نعم، لو فرضنا أن الجارح ذكر أمرًا يصح أن يقال فيه: لو وقع لتوفرت الدواعي على نقله تواترًا، ولم يكن ذلك، فإنه لا يقبل منه. ولو أن السبكيَّ
(1)
(2/ 9 - 22).
ترك أن يفرض ما لم يقع، واعتنى بما وقع في الأمثلة التي ذكرها، وبيَّن وجوهها؛ لأجاد وأفاد. وقد تعرضتُ لما وقفت عليه من ذلك في تراجم أولئك الثلاثة من قسم التراجم
(1)
، ولله الحمد.
* * * *
(1)
انظر الأرقام (183 و 189 و 20) مالك، والشافعي، وأحمد بن صالح.