الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تُشعر بأنه محمود في الجملة، كما مرَّ نظيره في ترجمة الحسن بن الصبّاح
(1)
، فإن عُدّت جرحًا فهو غير مفسَّر، وقد قال ابن السني:«لا بأس به» .
159 - [1/ 350] عليّ بن جرير الباوردي:
في «تاريخ بغداد» (13/ 413 [441 - 442]) من طريق محمد بن المهلب السرخسي: «حدثنا علي بن جرير قال: كنت في الكوفة، فقدمت البصرة وبها ابن المبارك، فقال لي: كيف تركت الناس؟ قال: قلت: تركت بالكوفة قومًا يزعمون أن أبا حنيفة أعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
». ومن طريق محمد بن أبي عتاب الأعيَن: «حدثنا علي بن جرير الأبِيوَرْدي قال: قدمتُ على ابن المبارك فقال له رجل: إن رجلين تماريا عندنا في مسألة، فقال أحدهما: قال أبو حنيفة، وقال الآخر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الأول: كان أبو حنيفة أعلم بالقضاء
…
».
قال الأستاذ (ص 148): «لا نجد لعلي بن جرير روايةً مطلقًا عن ابن المبارك في غير هذين الخبرين، وعلي بن جرير الباوردي هذا زائغ لم يستطع ابن أبي حاتم أن يذكر شيخًا له ولا راويًا عنه، وجعله بمنزلة من يُكتب حديثه ويُنظر فيه ــ روايةً عن أبيه ــ لا في عِداد مَن يُحتَج به. ونحن قد نظرنا فيه، فوجدناه باهتًا
…
».
أقول: ذكره ابن حبان في «الثقات»
(2)
قال: «علي بن جرير من أهل (أبِيوَرْد) يروي عن حماد بن سلمة وابن المبارك، وكان يخضب لحيته.
(1)
رقم (76).
(2)
(8/ 464).
روى عنه أحمد بن سيَّار. سمعت محمد بن محمود بن عدي يقول: سمعت (محمد بن عبد الله) بن قهزاد
(1)
يقول: سمعت عليَّ بن جرير يقول: قلت لابن المبارك: رجل يزعم أن أبا حنيفة أعلم بالقضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عبد الله: هذا كفر. قلت: يا أبا عبد الرحمن بك نفَذَ الكفر، قالوا: رويتَ فروى الناس
(2)
. قال: ابتُليتُ به. ودمعت عيناه».
فقد روى علي بن جرير عن إمامين
(3)
، وروى عنه أربعة من الثقات.
وفي ترجمة عمر بن صبح من «التهذيب»
(4)
: «قال البخاري في «التاريخ الأوسط» : حدثني يحيى اليشكري عن علي بن جرير
…
». فهذا خامس
(5)
.
وقال أبو حاتم: «صدوق»
(6)
، ولم يكن ليقول ذلك حتى يعرفه كما ينبغي. وأبو حاتم معروف بالتشدد، قد لا تَقِلُّ كلمة «صدوق» منه عن كلمة «ثقة» من غيره، فإنك لا تكاد تجده أطلق كلمة «صدوق» في رجل إلا وتجد غيره قد وثَّقه. هذا هو الغالب. ثم ذكَرَه ابن حبان في «الثقات»
(7)
، وأورَدَ له
(1)
(ط): «قهزاز» خطأ.
(2)
في «الثقات» : «رويتَ عنه فروى الناس عنه» .
(3)
وروى أيضًا عن مالك بن أنس وإسماعيل بن عياش.
(4)
(7/ 463).
(5)
وروى عنه أيضًا: حُميد بن زنجويه، ويوسف بن موسى، والخرائطي، وسليمان بن حريش، فصاروا تسعة.
(6)
(6/ 178).
(7)
(8/ 464).
تلك الحكاية التي يستنكرها الأستاذ، ولا يضرُّه بعد ذلك أن لا يعرفه ابن أبي حاتم. وما أكثر الذين لم يعرفهم، وقد عرفهم غيره.
فأما قول [1/ 351] الأستاذ «فوجدناه باهتًا» ، فأطال في محاولة توجيهه بما أشعر أنه يمتنع أن يقول مسلم: إن أبا حنيفة أعلم بالقضاء من النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أقدم جاهل على ذلك امتنع أن لا يُرفع إلى الحاكم ليقيم عليه حكم الشرع.
فأقول: أما امتناع القول، فإن كان المراد أن قائل ذلك لا يبقى مسلمًا فهذا لا يدفع هذه الحكاية. وإن كان المراد امتناع أن يقول ذلك إنسان ينتحل الإسلام، فهذا لا وجه له، فقد غلا كثير من منتحلي الإسلام في أفراد، فادَّعوا لهم العصمة أو النبوة أو الألوهية، وذلك معروف مشهور.
وقد حُكيت عن أبي حنيفة كلمات لا يبعد أن يسمعها بعضُ جهلةِ معظِّميه، فيتوهّم أن الأحكام التي مردُّها إلى القضاة بمنزلة الرأي في مصالح الدنيا كتدبير الحروب والمعايش. وقد قال الله تبارك وتعالى لرسوله:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»
(1)
، وأنه ربما كان يرى الرأي في تدبير الحرب، فيخبره بعض أصحابه بأن غيره أولى، فيرجع إلى قوله.
فمن تلك الكلمات ما حكي عنه في تلقِّيه من يذكر له حديثًا يخالف قوله بمثل: «من أصحابي من يبول قلتين. هذا حديث خرافة. لا آخذ به.
(1)
أخرجه مسلم (2363) من حديث عائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهما.
دعنا من هذا. هذا رجز. هذا سجع. هذيان. حُكَّ هذا بذنَبِ خنزير». وما عزي إليه من قوله: «لو أدركني النبي (وفي رواية: رسول الله) صلى الله عليه وسلم لأخذ بكثير من قولي» . زاد في رواية: «وهل الدين إلا الرأي الحسن؟» . وقد ذكرها الأستاذ ص 75 و 85. وهذه الكلمة قد يكون أُريد بها: إن كثيرًا مما أقوله باجتهادي موافق للحق، فلو كنتُ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لعلم صحة كثير من قولي، وصوَّبه، وحكم بما يوافقه، كما يُروى من موافقات عمر أنه قد كان يرى الرأي أو يقول القول فينزل القرآن بموافقته.
فأما قوله: «وهل الدين إلا الرأي الحسن» ، فالرأي الحسن حقًّا هو المطابق للحكمة الحقة حقَّ المطابقة، وكذلك الدين مطابق للحكمة الحقَّة حقَّ المطابقة. فالرأي الحسن حقًّا لا يخالف الدين، ولا يخالفه الدين.
وقد زعم بعضهم أن أبا حنيفة إنما قال: «لو أدركني البَتِّي
…
» فصحَّف بعضهم فقال: «النبي» ، ثم رواها بعضهم بالمعنى فقال:«رسول الله» . وجرى الأستاذ على هذا، ولا بأس بالنظر فيه.
قال الأستاذ: «وأما [1/ 352] أصل الحكاية
…
» فذكر طرفًا مما في «مناقب أبي حنيفة» للموفق المكي (ج 2 ص 101 - 109). والرواية هناك من طريق عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي قال: «حدثني أبو طالب سعيد بن محمد البرذعي في مسجد أبي الحسن الكوفي ببغداد، حدَّثني أبو جعفر
…
الطحاوي، أبَنا بكّار بن قتيبة، أبنا هلال بن يحيى الرأي البصري، سمعت يوسف بن خالد السَّمْتي قال: اختلفتُ إلى عثمان البَتِّي فقيه أهل البصرة ــ وكان يذهب مذهب الحسن وابن سيرين ومذهب
البصريين ــ فأخذتُ من مذاهبهم وناظرت عليها ثم استأذنته في الخروج إلى الكوفة
…
فأذن لي. فلما قدمتُ الكوفة
…
فإذا أنا بكهل قد أقبل
…
وخلفه غلام أشبه الناس به
…
فتوسَّمت أنه أبو حنيفة
…
فقال: كنتَ من المختلفة إلى البتِّي؟ قلت: نعم. قال: لو أدركني البتي لترك كثيرًا من قوله
…
» إلى أن قال يوسف: «كنت أختلف إلى أبي حنيفة، فكنت أمرُّ بنادي قوم، فمن كثرة مروري بهم صاروا لي أصدقاء. ثم انقرضوا، فصار أولادهم لي أصدقاء. ثم استأذنت بالخروج إلى البصرة
…
». وفي القصة عجائب.
وقد ذكر الأستاذ البتِّيَّ والسمتيَّ في (ص 113) قال: «عثمان بن مسلم البتِّي هو فقيه البصرة توفي سنة 143 كما سبق. وكانت تجري بينه وبين أبي حنيفة مراسلات
…
وكان يوسف بن خالد السَّمْتي بعد أن تفقه على أبي حنيفة رجع إلى البصرة وأخذ يُجابه البتِّيَّ وأصحابَه
…
حتى ثاروا ضده
…
ولكن لما حلَّ زُفَر بالبصرة جرى على الحكمة في مناظرتهم
…
».
يشير الأستاذ إلى ما في كتاب ابن أبي العوام عن الطحاوي بسنده كما في «لسان الميزان» (ج 2 ص 477)
(1)
: «قدم زُفَر بن الهُذيل البصرة فكان يأتي حلقه عثمان البتِّي
…
فلم يلبث أن تحولت الحلقة إليه، وبقي عثمان البتي وحده».
فقد اتَّضح أن البتيَّ أدرك أبا حنيفة. ويقول الأستاذ: إنه كانت تجري بينهما مراسلات، وصرحت القصةُ نفسُها أن البتيَّ كان حيًّا يرزق حين لقي يوسفُ السمتيُّ أبا حنيفة، وقال له أبو حنيفة كما تزعم القصة: «لو أدركني
(1)
(3/ 503).
البتي
…
». ويُعْلَم من كلام الأستاذ أن البتي عاش بعد ذلك إلى أن أكمل السمتي تفقُّهَه ورجع إلى البصرة، ثم إلى أن ظهر إخفاق السمتي وورد زفرُ البصرةَ. فليتدبر القارئ: هل يقول أبو حنيفة والبتيُّ حيٌّ يرزق يراسله ويكاتبه: «لو أدركني البتِّي
…
»؟
ثم ليحزر ما أقلُّ ما يحتمل بحسب العادة أن [1/ 353] يكون عمُر السمتي حين استأذن البتِّيَّ، وذلك بعد اختلاف السمتي إليه وأخذه من مذاهبهم ومناظرته عليها؟ ثم ليحزر ما عسى أن يكون عمُر أبي حنيفة وعمر ولده حماد حين رآهما السمتي؟ والقصة تقول: «فإذا أنا بكهل قد أقبل
…
وخلفه غلام أشبه الناس به». ثم تصرِّح بعد ذلك بأن الكهل أبو حنيفة وأن الغلام ابنه حماد. ثم ليحزر ما عسى أن تكون مدة عكوف السمتي على الأخذ من أبي حنيفة، والقصة تقول: «أمر بنادي قوم فمن كثرة مروري بهم صاروا لي أصدقاء، ثم انقرضوا فصار أولادهم لي أصدقاء، ثم استأذنت
…
». فكم المدة إلى أن استأذن في العود إلى البصرة واحتفل له أبو حنيفة بتلك الوصية الطويلة العريضة؟ ثم ليحزر ما عسى أن تكون مدة بقاء السمتي بالبصرة حتى تبيَّن إخفاقه إلى أن ورد زفر، فسحر أهلَ البصرة وبقي البتي وحده؟ ثم ليعرض النتائج على الحقائق التاريخية.
مولد السَّمتي سنة 120
(1)
كما في «طبقات ابن سعد» (ج 7 قسم 2 ص 47)
(2)
، أو بعد ذلك بسنتين على ما في «التهذيب»
(3)
عن ابن سعد.
(1)
تحرفت في (ط) إلى (330)!
(2)
(9/ 294 - دار الخانجي).
(3)
(11/ 412).
ومولد أبي حنيفة سنة ثمانين على الأصح، وسنة سبعين أو ستين على رأي الأستاذ كما تقدم في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت
(1)
. ومولد حماد حول سنة 100 على ما يظهر، وعلى رأي الأستاذ مولد حماد قبل مولد مالك، ومالك ولد سنة ثلاث وتسعين، وقيل قبل ذلك، ووفاة البتِّي سنة 143 كما تقدم.
والقصة تقول: إن السَّمْتي الذي ولد سنة عشرين ومائة أو سنة اثنتين وعشرين ومائة كان يختلف إلى البتي ويأخذ من مذاهبهم حتى صار يناظر عليها، ثم قدم الكوفة فلقي الأعمش وجرت بينهما محاورة، ثم لقي أبا حنيفة وجرت بينهما محاورة. فلنفرض أن ذلك كان وعُمُر السمتي دون عشرين سنة، فليكن حول سنة أربعين ومائة، وعُمُر أبي حنيفة حينئذ على قولنا ستون سنة، وعلى رأي الأستاذ سبعون أو ثمانون. وعمر حماد على ما يظهر أربعون سنة، وعلى رأي الأستاذ خمسون سنة. لكن القصة ذكرتهما بقولها: «فإذا أنا بكهل قد أقبل
…
وخلفه غلام أشبه الناس به»! ثم لا أدري كم نفرض بقاء السمتي مع أبي حنيفة، وهي مُدّة. كان أولًا يمر بقوم فصاروا له أصدقاء، ثم انقرضوا فصار أبناؤهم له أصدقاء، ثم رجع إلى البصرة فوجد البتِّي حيًّا إلى آخر ما ذكر الأستاذ. وقد علمتَ متى توفي البتي! وأدع البقية إلى القارئ. وإن أحب فليراجع القصة ليزداد بصيرة!
والأستاذ عافانا الله وإياه يعمد إلى أمور [1/ 354] نسبتُها إلى هذه نسبة الخيال إلى الحقيقة، فيردُّ بها روايات الثقات الأثبات. ومنها ما يُروى من
(1)
رقم (34).
وجهين أو أكثر، ومنها ما هو متواتر على الحقيقة.
فأما هذه الحكاية، فتفرَّد بها الحارثي، وهو تالف مرمي بالوضع. راجع ترجمته في «لسان الميزان» (ج 3 ص 348)
(1)
. وشيخه لا يُذكر إلا في هذه الحكاية، وقد ذكره صاحب «الجواهر المضيئة في تراجم الحنفية» (ص 249)
(2)
بما يؤخذ من هذه الحكاية فقط. فإما أن يكون اسمًا اختلقه الحارثي، وإما أن يكون رجلًا مغمورًا هلك، فاختلق الحارثي هذه الحكاية ونسبها إليه. فإن القصة تدل على اطلاع وتفيهق، وهذه صفة الحارثي، يمتنع أن يكون شيخه بهذه الصفة ثم لا يُذكر إلا في هذه الحكاية. فأما الطحاوي فبريء منها حتمًا، ولو كان عنده شيء منها لما فات ابن أبي العوام. والظاهر أن الحارثي سمع ما حُكي عن أبي حنيفة من قوله: «لو أدركني النبيُّ
…
» فحاول أن يعالجها، فوقع فيما وقع فيه.
وكأنَّ الأستاذ شعر بذلك، فحاول التأويل. فزعم أن معنى قول أبي حنيفة «لأخذ بكثير من قولي»: لأخذني أي للامني ووبَّخَني! ولا يخفى حال هذا التأويل. على أنه ناقضَه بما أجاب به عن قوله: «وهل الدين إلا الرأي الحسن» ، فزعم أن كلمة «الدين» محرفة عن «أرى» ، وأن الأصل «وهل أرى إلا الرأي الحسن» . ولنقتصر على هذا القدر.
فأما امتناع أن يقول قائل: «أبو حنيفة أعلم
…
» ولا يُرْفع إلى الحاكم ليقيم عليه حكم الشرع، فإنما يتجه إذا قاله على رؤوس الأشهاد. وليس فيما
(1)
(4/ 579 - 580).
(2)
(2/ 224).