الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن تقام الحجة الواضحة على أنه تعمَّد كذبًا صريحًا، فيزول عنه اسم الصدق والأمانة البتة. والأستاذ يمرُّ بالجبال الرواسي، فينفخ ويخيِّل لنفسه وللجهال أنه قد أزالها أو جعلها هباء! والذي جرَّأه على ذلك كثرة الأتباع، وغربة العلم، وما لا أحبّ ذكره. والله المستعان.
149 - عبد الواحد بن عليّ بن بَرْهان العكبري:
هذا الرجل روى عنه الخطيب أشياء تتعلق برواة الحديث، ومن جملة ذلك ما تقدم في ترجمة عبد العزيز بن الحارث أبي الحسن التميمي
(1)
، وما يأتي في ترجمة عبيد الله بن محمد بن بطة العُكْبري
(2)
. فاعترضه ابن الجوزي، فقال في ترجمة أبى الحسن:«هذا العكبري لا يعوَّل على قوله، فإنه لم يكن من أهل الحديث والعلم، إنما كان [1/ 334] يعرف شيئًا من الحديث. كذلك ذكر عنه الخطيب. وكان أيضًا معتزليًّا يقول: إن الكفار لا يخلدون في النار»
(3)
. وذكر نحو ذلك في ترجمة ابن بطة
(4)
، ثم قال: فمن كان اعتقاده يخالف إجماع المسلمين فهو خارج عن الإسلام، فكيف يقبل جرحه؟ وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني: كان ابن بَرْهان يميل إلى المُرْد ويقبِّلهم».
وقال في ترجمة عبد الواحد من «المنتظم» (ج 8 ص 236): «كان
(1)
رقم (144).
(2)
رقم (153).
(3)
«المنتظم» : (7/ 110).
(4)
المصدر نفسه: (7/ 194).
مجوّدًا في النحو، وكان له أخلاق شرسة، ولم يلبس سراويل قط، ولا قبل عطاء أحد، وكان لا يغطي رأسه. وذكر محمد بن عبد الملك: كان ابن برهان يميل إلى المُرْد الصِّباح ويقبِّلهم من غير ريبة. وقوله: «من غير ريبة» أقبح من التقبيل، لأن النظر إليهم ممنوع منه إذا كان بشهوة، فهل يكون التقبيل بغير شهوة؟
…
».
وفي «لسان الميزان» (ج 4 ص 82)
(1)
: «قال ابن ماكولا: كان فقيهًا حنفيًّا قرأ اللغة، وأخذ الكلام من أبي الحسين البصري. قلت: وقد بالغ محمد بن عبد الملك الهمذاني في «تاريخه» فقال: كان يمشي مكشوف الرأس، وكان يميل إلى المُردان من غير ريبة. ووقف مرةً على مكتب عند خروجهم، فاستدعى واحدًا واحدًا فيقبِّله ويدعو له ويسبِّح الله، فرآه ابن الصبَّاغ، فدسَّ له واحدًا قبيحَ الوجه، فأعرض عنه وقال: يا أبا نصر لو غيرك فعل بنا هذا».
وفي ترجمة عبد الواحد من «تاريخ بغداد» (ج 11 ص 17): «كان يذكر أنه سمع من أبي عبد الله ابن بطة وغيره إلا أنه لم يرو شيئًا. وكان مضطلعًا بعلوم كثيرة منها النحو واللغة ومعرفة النسب والحفظ لأيام العرب وأخبار المتقدمين، وله أُنْسٌ شديد بعلم الحديث» .
أقول: فقد كان ابن بَرْهان على بدعته من أهل العلم والزهد والمنزلة بين العلماء. ومحمد بن عبد الملك الهَمَذاني لا أعرف ما حاله
(2)
؟ وقد ذكر
(1)
(5/ 294).
(2)
هو: محمد بن عبد الملك بن إبراهيم الهَمَذاني المقدسي أبو الحسن الشافعي (463 - 521)، قال ابن النجار: «كان فاضلًا حسن المعرفة بالتواريخ والدول
…
وبه خُتِم هذا الفن». وقال ابن كثير: «صاحب التاريخ من بيت الحديث والأئمة» . وذكر ابن الجوزي عن شيخه عبد الوهاب ما يوجب الطعن فيه. ترجمته في «تاريخ الإسلام» : (11/ 375)، و «البداية والنهاية»:(16/ 276)، و «طبقات الشافعية»:(6/ 135).
ابن حجر أنه بالغ. وقد تصرَّف ابن الجوزي في عبارة الهمذاني، ففي موضع زاد فيها «ويقبِّلهم» وحذف «من غير ريبة» . وفي موضع زاد «الصِّباح فيقبِّلهم» ، وإنما أخذ الصباحةَ والتقبيلَ من قصة المكتب. وقد كان ببغداد في ذاك العصر عدد كثير من مشاهير العلماء ما منهم إلا من يخالف عبد الواحد في العقيدة والمذهب أو أحدهما. وكان عبد الواحد على غاية الصيانة. ذكروا أنه «لما ورد الوزير عميد الدين إلى بغداد استحضره فأعجبه كلامه، فعرض عليه مالًا، فلم يقبله. فأعطاه مصحفًا بخط ابن البواب وعكازةً [1/ 335] حُمِلت إليه من الروم، فأخذهما. فقال له أبو علي ابن الوليد المتكلِّم: أنت تحفظ القرآن، وبيدك عصا تتوكأ عليها، فلِمَ تأخذ شيئًا فيه شبهة؟ فنهض ابن بَرْهان في الحال إلى قاضي القضاة ابن الدامغاني وقال له: لقد كدتُ أهلك حتى نبَّهني أبو علي ابن الوليد، وهو أصغر سنًّا منِّي، وأريد أن تعيد هذه العكازة والمصحف على عميد الدين، فما يصحباني. فأخذهما، وأعادهما إليه» . أفما كان في ذاك الجمّ الغفير من أهل العلم من ينكر على ابن برهان ما نسبه ابن الجوزي إليه؟ ! وما كان فيهم من يعيبه بذلك على الأقل، مع مخالفتهم له كما سلف؟ فما بالنا لا نعرف عنهم كلمة واحدة في ذلك إلّا تلك الشاذَّة من ذاك الهَمَذاني؟
وليس المقصود ردَّ كلمة الهمذاني، وإنما المقصود تجريدها عما فيها من المبالغة التي أشار إليها ابن حجر. فأقول: كانت المكاتب في ذاك العصر خاصةً بالأطفال، إنما هي لتعليم القراءة والكتابة؛ فأما ما زاد عن ذلك من العلم فكان محلُّه الجوامع والمساجد ومجالس العلماء في بيوتهم والمدارس الكبيرة. فمرَّ ــ على ما يقول الهمذاني ــ ابنُ بَرْهان مع جماعة من أهل العلم وغيرهم، فيهم الإمام أبو نصر ابن الصبّاغ الشافعي، بمكتب من مكاتب الأطفال، فصادف وقت خروجهم، فأخذ ابن برهان يقبِّلهم ويدعو لهم تنشيطًا لهم ورجاءَ أن يصيروا رجالًا صالحين. فمازحه ابن الصباغ بأن قدَّم إليه واحدًا منهم قبيح الصورة، فأعرض عنه ابن برهان علمًا بأنه لا مجال هناك لأدنى ريبة، ولو كان هناك مجال لريبة لكان الظاهر أن يقبِّل ذاك القبيح كغيره. وأيُّ عقل يميز أن يكون فيما جرى شيء من الريبة، ويقرُّه الحاضرون من أهل العلم وغيرهم، ويقتصر ابن الصباغ على تلك الملاطفة؟ فأما أهل بغداد المخالفون لابن بَرْهان في العقيدة أو المذهب أو كليهما، فلم يروا فيما جرى ما يسوِّغ أن يُعاب به ابن برهان. وأما ذلك الهَمَذاني فدعته نفرته عن ابن برهان لمخالفته في العقيدة والمذهب إلى أن عبَّر بقوله:«يميل إلى المردان» ، فنازعه واعظُ الله تعالى في قلبه، فدافعه بقوله:«من غير ريبة» ، وذكروا
(1)
قصة المكتب، فجاء ابن الجوزي، فصنع ما تقدَّم. ولا أدري ما صنع سِبْطه، فإنه كثير التصرف في مثل هذا! فوقع التزيُّد في الحكاية، كما تراه في «بغية الوعاة»
(2)
وغيرها.
(1)
كذا في (ط).
(2)
(2/ 120 - 121).