الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقول: ليس له هنا رواية، وإنما هو شيء من قوله. وحاصل كلامهم في حديثه: أنه صدوق مدلِّس يروي بالمعنى. وقد لخَّص ذلك محمد بن نصر المروزي قال: «والغالب على حديثه الإرسال والتدليس وتغيير الألفاظ» . فإذا صرَّح بالسماع فقد أمِنَّا تدليسه، وهو فقيه عارف لا يُخشى من روايته بالمعنى تغييرُ المعنى، لكن إذا خالفه في اللفظ ثقةٌ يتحرَّى الروايةَ باللفظ، وكان بين اللفظين اختلافٌ ما في المعنى= قُدِّم فيما اختلفا فيه لفظُ الثقة الآخر. فأما محلُّ الحَجَّاج في علمه، فقال ابن عيينة:«سمعت ابن أبي نَجيح يقول: ما جاءنا منكم (يعني أهل الكوفة) مثلُه ــ يعني الحجاج بن أرطاة» . وقال سفيان الثوري: «عليكم به، فإنه ما بقي أحد أعرفُ بما يخرج من رأسه منه» . وقال حماد بن زيد: «قدِمَ علينا جرير بن حازم من المدينة، فكان يقول: حدثنا قيس بن سعد عن الحجاج بن أرطاة. فلبثنا ما شاء الله، ثم قدِمَ علينا الحجاجُ ابن ثلاثين أو إحدى وثلاثين، فرأيت عليه من الزحام ما لم أر على حماد بن أبي سليمان. رأيت عنده داود بن أبي هند، ويونس بن عبيد، ومطر الورَّاق= جُثاةً على أرجلهم يقولون: يا أبا أرطاة ما تقول في كذا؟» .
71 - الحجاج بن محمد الأعور:
في «تاريخ بغداد» (13/ 405 [430]) من طريق «سُنَيد بن داود حدثنا حجاج قال: سألت قيس بن الربيع عن أبي حنيفة قال: أنا [من]
(1)
أعلم الناس به
…
».
قال الأستاذ (ص 126): «سُنَيد إنما روى عن الحجاج بعد أن اختلط اختلاطًا
(1)
زيادة من «التاريخ» .
شديدًا، وقد [1/ 226] رآه أهل العلم يلقِّن الحجاج فيتلقَّن منه، والملقِّن كالمتلقِّن في السقوط عند أهل الفقه، وقال النسائي (في سنيد):«غير ثقة» ».
أقول: أما سُنَيد، فستأتي ترجمته
(1)
. وأما الحجاج، فمدار الكلام فيه على الاختلاط والتلقُّن، وهاهنا مباحث:
الأول: هل اختلط حجاج؟ وإن كان اختلط، فهل حدَّث بعد اختلاطه؟
قال ابن سعد: «كان قد تغيَّر في آخر عمره حين رجع إلى بغداد»
(2)
فكلمة ابن سعد ليست بصريحة في الاختلاط، لأن التغيير
(3)
أعمّ من الاختلاط. وحكاية إبراهيم الحربي صريحة في الاختلاط، لكن لا ندري من هو صديقه؟ وسكوتُ الحفاظ الأيقاظ كابن معين وأحمد وأبي خيثمة ــ وكلهم بغداديون ــ عن نقل اختلاط حجَّاج، وبيان تاريخه، وبيان من سمع منه فيه؛ مع إطلاقهم توثيقَ حجاج، وتوثيق كثيرين ممن روى عن حجاج=
(1)
(رقم 107).
(2)
في «الطبقات الكبرى» : (9/ 335 و 395) وزاد في الموضع الثاني: «فمات على ذلك» .
(3)
كذا في (ط) ولعلها: «التغيُّر» .
يدلُّ حتمًا على أحد أمرين: إما أن لا يكون حجاج اختلط، وإنما تغيَّر تغيرًا يسيرًا لا يضر؛ وإما أن لا يكون سمع منه أحد في مدة اختلاطه. والثاني أقرب.
فكأنّ يحيى بن معين ذهب إلى حجاج عقبَ قدومه، فأحسَّ بتغيره، فقال لابنه: لا تُدخِلْ عليه أحدًا. ثم عاد يحيى عشيَّ ذاك اليوم في الوقت الذي جرت العادة بالدخول فيه على القادم للسماع منه، خشيةَ أن لا يعمل ابن حجاج بما أمره به، فوجد الأمر كذلك: أذِنَ لهم الابنُ، فدخلوا، ويحيى معهم، فسكت أولًا، فلما أخذ حجَّاجٌ الكتابَ فخلَّط، قال يحيى للابن: ألم أقل لك؟ فكأنهم قطعوا المجلس، وحجبوا حجَّاجًا حتى مات، فلم يسمع منه أحد في الاختلاط. فلما وثِق يحيى وبقيةُ أهل العلم بذلك لم يروا ضرورة إلى أن يُشِيعوا اختلاط حجاج وبيان تاريخه، بل كانوا يوثِّقونه ويوثِّقون كثيرًا من الذين سمعوا منه مطلقًا؛ لعلمهم أن ما بأيدي الناس من روايته كلَّه كان في حال تمام ضبطه.
وفي ترجمة حجاج من «مقدمة الفتح»
(1)
: «أجمعوا على توثيقه، [1/ 227] وذكره أبو العرب الصقلي في «الضعفاء» بسبب أنه تغير في آخر عمره واختلط، لكن ما ضرَّه الاختلاط؛ فإن إبراهيم الحربي حكى أن يحيى بن معين منع ابنه أن يُدخِلَ عليه بعد اختلاطه أحدًا». فأما قوله في «التهذيب»
(2)
: «وسيأتي في ترجمة سُنيد بن داود عن الخلال
…
»، فستعلم
(1)
(ص 396).
(2)
(2/ 106).
ما فيه قريبًا.
المبحث الثاني: متى سمع سُنيد من الحجَّاج؟
روى الأثرم ــ وهو ثقة ــ عن الإمام أحمد أنه قال: «سُنيد لزم حجَّاجًا قديمًا، قد رأيت حجَّاجًا يملي عليه، وأرجو أن لا يكون حدَّث إلا بالصدق» . وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: «رأيت سُنيدًا عند حجاج بن محمد، وهو يسمع منه كتابَ «الجامع» لابن جريج
(1)
: أخبِرتُ عن الزهري. وأخبِرتُ عن صفوان بن سليم. وغير ذلك. قال: فجعل سُنيد يقول لحجاج: يا أبا محمد قل: ابن جريج عن الزهري. وابن جريج عن صفوان بن سليم. قال: فكان يقول له هكذا». قال عبد الله: «ولم يحمده أبي فيما رآه يصنع بحجَّاج، وذمَّه على ذلك. قال أبي: وبعض تلك الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي ممن أخذها» . حكى هذا في «تهذيب التهذيب» ثم قال: «وحكى الخلَّال عن الأثرم نحو ذلك، ثم قال الخلَّال: وروى (؟ ونُرى) أن حجاجًا كان هذا منه في وقت تغيُّره، ويرى (؟ ونُرى) أن أحاديث الناس عن حجاج صحاح إلا ما روى سُنيد» .
أقول: هذا حَدْسٌ يردُّه نصُّ الإمام أحمد، كما تقدم. ومبنى هذا الحدس على توهم أن في القصة ما يخدش في تثبيت حجاج، وإنما يكون الأمر كذلك لو كان إذا قيل:«ابن جريج عن فلان» يحمل على سماع ابن جريج من فلان، وليس الأمر كذلك؛ لأن ابن جريج مشهور بالتدليس. فإذا قيل:
(1)
كان بعده في (ط) بين معكوفين: [فيه] والظاهر أنها مقحمة من الناشر أو ممن قرأ الكتاب قبل طبعه.
«ابن جريج عن الزهري» ، ولم يجئ بيان السماع من وجه آخر، فإنه لا يُحْكَم بالاتصال، بل يُبنى على أوهن الاحتمالين، وهو أن بين ابن جريج وبين الزهري واسطة، وذلك لاشتهار ابن جريج بالتدليس.
وعلى هذا، فسيَّانِ قيل:«ابن جريج أخبِرتُ عن الزهري» و «ابن جريج عن الزهري» . ولهذا قال الإمام أحمد: أرجو أن لا يكون حدَّث إلا بالصدق. وإنما ذكر في رواية عبد الله كراهيته لذلك، لأنه رآه خلاف الكمال في الأمانة. وفي [1/ 228] «الكفاية» (ص 187) من طريق:«عبد الله بن أحمد قال: كان إذا مرَّ بأبي لحن فاحش غيَّره، وإذا كان لحنًا سهلًا تَرَكه، وقال: كذا قال الشيخ» . فأنت ترى أحمد يمتنع من تغيير اللحن، فما ظنُّك بما تقدَّم!
فإن قيل: فما الحامل لسُنيد على التماس ذلك من حجَّاج؟ قلت: طلب الاختصار والتزيين الصوري.
فتدبَّرْ ما تقدم يتبيَّنْ لك أنه ليس في الحكاية ما يُشعر بوهنٍ في تثبُّت حجاج، حتى يقوى الحدس بأنها كانت في وقت تغيُّره، ويتضحْ لك أن ما تقدَّم من الدليل على أن حجَّاجًا لم يُحدِّث في وقت تغيُّرِه هو على إطلاقه.
المبحث الثالث: في التلقين.
التلقين القادح في الملقِّن هو أن يوقع الشيخَ في الكذب ولا يبيِّن، فإن كان إنما فعل ذلك امتحانًا للشيخ وبيَّن ذلك في المجلس لن يضرَّه. وأما الشيخ، فإن قبِلَ التلقين وكثُر ذلك منه فإنه يسقط. دخل حفص بن غياث ويحيى بن سعيد القطان على موسى بن دينار المكي، فوجدا عنده أبا شيخٍ جاريةَ بن هرِم الفُقَيمي، فجعل حفص يقول لموسى امتحانًا: حدَّثتْك عائشةُ
بنت طلحة عن عائشة بكذا، وحدَّثك القاسمُ بن محمد عن عائشة بكذا، وحدَّثك سعيد بن جبير عن ابن عباس بكذا؛ ويذكر أحاديث قد علِمَ أن موسى لم يسمعها ممَّن ذكر، فأجابه موسى بالإثبات. وكان أبو شيخ مغفَّلًا، فكتبها. فلما فرغ حفص مدَّ يده إلى ما كتبه أبو شيخ، فمحاه وبيَّن له الواقع. راجع ترجمة موسى وجارية في «لسان الميزان»
(1)
.
وما وقع من سُنَيد ليس بتلقين الكذب، وإنما غايته أن يكون تلقينًا لتدليس التسوية. وتدليس التسوية: أن يترك الراوي واسطة بعد شيخه، كما يُحكى عن الوليد بن مسلم أنه كان عنده أحاديث سمعها من الأوزاعي عن رجل عن الزهري، وأحاديث سمعها من الأوزاعي عن رجل عن نافع، فكان يقول فيها: حدثني الأوزاعي عن الزهري، وحدثني الأوزاعي عن نافع! وهذا تدليس قبيح، لكنه في قصة سُنَيد وحجَّاج لا محذور فيه، لاشتهار ابن جريج بالتدليس، كما مرّ.
[1/ 229] وبذلك يتبيَّن أن حجَّاجًا لم يتلقَّن غفلةً ولا خيانةً، وإنما أجاب سُنيدًا إلى ما التمسه، لعلمه أنه لا محذور فيه. وكره أحمد ذلك لما تقدم.
ومن ثناء الأئمة على الحجاج: قال الإمام أحمد: «ما كان أضبطَه وأشدَّ تعاهُدَه للحروف» . وقال المعلَّى الرازي: «قد رأيت أصحاب ابن جريج، ما رأيت فيهم أثبت من حجَّاج» . وقال علي ابن المديني والنسائي: «ثقة» . وكذا وثَّقه مسلم والعجلي وابن قانع ومسلمة بن قاسم وغيرهم، واحتج به الجماعة.
(1)
(8/ 196 - 198) و (2/ 413 - 415).