الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناكير، ومثلُه [1/ 200] إن شاء الله لا يتعمّد الكذب. سألت محمد بن أبي سعيد السمرقندي الحافظ، فرأيته حسَنَ الرأي فيه. وسمعته يقول: سمعت المنكدري يقول: أناظر في ثلاثمائة ألف حديث. فقلت: هل رأيت بعد ابن عُقدة أحفظ من المنكدري؟ قال: لا». ومن يضاهي ابنَ عُقدة في الحفظ والإكثار، فلا بد أن يقع في حديثه الأفراد والغرائب، وإن كان أوثق الناس. فأما المناكير، فقد يكون الحمل فيها على مَن فوقه. وعلى كل حال فلم يذكروا فيه جرحًا صريحًا ولا توثيقًا صريحًا، لكنهم قد أنكروا عليه في الجملة، فالظاهر أنه ليس بعمدة، فلا يحتج بما ينفرد به. والله أعلم.
37 - أحمد بن محمد بن يوسف بن دوست أبو عبد الله العلَّاف:
في «تاريخ بغداد» (13/ 414 [442]): «أخبرنا الحسن بن أبي طالب، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن جعفر المَطِيري
…
».
قال الأستاذ (ص 150): «تكلَّم محمد بن أبي الفوارس في روايته عن المَطِيري، وطعن فيه. وقال الأزهري: ابن دوست ضعيف، رأيت كتبه كلها طريَّة، قيل: إنه كان يكتب الأجزاء ويترِّبها لِيُظَنَّ أنها عُتُق. والكلام فيه طويل. راجع «تاريخ الخطيب» (ج 5 ص 125)».
أقول: ذكر الخطيب ما حكاه الأستاذ عن ابن أبي الفوارس، ثم روى عن عيسى بن أحمد بن عثمان الهَمَذَاني كلامًا يتعلَّق بابن دوست، وفيه من قول عيسى:«كان محمد بن أبي الفوارس ينكر علينا مُضِيَّنا إليه وسماعنا منه، ثم جاء بعد ذلك وسمع منه» . فكأن ابن أبي الفوارس تكلَّم أولًا في سماع ابن دوست من المَطيري؛ لأنه كان عند موت المطِيري ابن اثنتي عشرة سنة، ثم كأنه تبيَّن لابن أبي الفوارس صحة السماع، فعاد، فقصد ابن دوست
وسمع منه. وذلك أن والد ابن دوست كان من أهل العلم والصلاح والرواية والثقة. ترجمته في «تاريخ بغداد» (ج 3 ص 409)، ووفاته سنة 381، ومولد أحمد سنة 323. فقد وُلد له في شبابه، فكأنه اعتنى به، فبكَّر به للسماع، وقيَّد سَماعه وضَبطه له على عادة أهل العلم في ذاك العصر، وقد صحَّح المحدِّثون سماع الصغير المميِّز. وأما الأزهري، فتمام عبارته: «
…
وكان يذكر أن أصوله العُتُق غرقت، فاستدرك نسخها»، فالتضعيف مفسَّر بما بعده.
واعلم أن المتقدمين كانوا يعتمدون على الحفظ، فكان النقَّاد يعتمدون في النقد عدالةَ الراوي واستقامةَ حديثه، فمن ظهرت عدالته وكان [201] حديثه مستقيمًا وثَّقوه. ثم صاروا يعتمدون الكتابة عند السماع، فكان النقاد إذا استنكروا شيئًا من حديث الراوي طالبوه بالأصل. ثم بالغوا في الاعتماد على الكتابة وتقييد السماع فشدَّد النقاد، فكان أكثرهم لا يسمعون من الشيخ حتى يشاهدوا أصله القديم الموثوقَ به المقيَّدَ سماعُه فيه، فإذا لم يكن للشيخ أصل لم يعتمدوا عليه، وربما صرَّح بعضهم بتضعيفه. فإذا ادعى السماع ممن يستبعدون سماعه منه كان الأمر أشد. ولا ريب أنَّ في هذه الحال الثالثة احتياطًا بالغًا، لكن إذا عُرِفت عدالة الرجل وضبطه وصدقه في كلامه، وادعى سماعًا محتملًا ممكنًا، ولم يُبرِز به أصلًا، واعتذر بعذر محتمل قريب، ولم يأت بما ينكَر= فبأيّ حجَّة يُرَدُّ خبرُه؟
وقد قال الخطيب: «حدثني أبو عبد الله الصوري قال: قال لي حمزة بن محمد بن طاهر: قلت لخالي أبي عبد الله بن دوست: أراك تملي المجالس من حفظك، فلم لا تملي من كتابك؟ فقال لي: انظر فيما أمليه، فإن كان لك فيه زلل أو خطأ لم أُمْلِ من حفظي. وإن كان جميعه صوابًا، فما الحاجة إلى
الكتاب؟ أو كما قال».
فيظهر أن والده لم يكتف بتسميعه، بل اعتنى بتحفيظه ما سمع. فإذا كانت أصوله بعد حِفْظه ما فيها غرقت فابتلَّتْ، وخِيفَ تقطُّعُ الورق، وبقيت الكتابة تُقرأ، فاستنسخ منها، أو ذهبت فنسخ من حفظه، أو من كتبٍ قد كانت قوبلت على أصوله، أو لم تُقابَل ولكنه اعتبرها بحفظه= فأيُّ حرج في ذلك؟ وإذ كان اعتماده على حفظه، فهَبْ أنه لم يكن له أصول البتة، أو كانت فتلِفَتْ، ولم يستدرك نسخها= ألا يكون له أن يروي من حفظه؟ أوَ لا تقوم الحجة بخبره إذا كان عدلًا ضابطًا؟
وأما قضية التتريب، فهي في عبارة للبرقاني. قال الخطيب:«سألت أبا بكر البرقاني عن ابن دوست؟ فقال: كان يسرد الحديث من حفظه، وتكلَّموا فيه. وقيل: إنه كان يكتب الأجزاء، ويُترِّبها لِيُظَنَّ أنها عُتُق» . فقوله: «قيل:
…
» لا يُدرَى من القائل؟ وعلى فرض صحة ذلك، فهو تدليس خفيف أراد به دفعَ تعنُّتِ بعض الطلبة. وكان إذا سئل يبيِّن الواقع، كما في بقية عبارة الأزهري التي تركها الأستاذ. وأما قول البرقاني:«تكلموا فيه» وما في الترجمة أن الدارقطني تكلم فيه، فمحمول على ما صرَّحوا به مما مرَّ، ومرَّ ما فيه.
وبعد، فقد وصفوا ابن دوست بالحفظ والمعرفة. قال الخطيب: «كان مكثرًا من الحديث، [1/ 202] عارفًا به، حافظًا له. مكث مدةً يملي في جامع المنصور بعد وفاة أبي طاهر المخلِّص، ثم انقطع عن الخروج، ولزم بيته. كتب عنه الحسن بن محمد الخلَّال، وحمزة بن محمد بن طاهر الدقَّاق، وأبو القاسم الأزهري، وهبة الله بن الحسن
(1)
الطبري، وعامة أصحابنا،
(1)
في (ط) و «التاريخ» بطبعتيه: «الحسين» تصحيف.