الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جرحه جرحًا أقوى مما تقتضيه روايته عنه ترجَّح الجرح؛ وإلا فظاهر روايته عنه التوثيق. وابن أعيَن لم يغمزه أحد، لا أحمد ولا غيره، بل وثَّقه ابن المبارك توثيقا فِعْليًّا كما سلف، ووثقه ابن حبان.
فأما عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير، فلم يقتصر أحمد على الرواية عنه، بل وثَّقه بالقول كما في ترجمته من «التهذيب»
(1)
وغيره. فإن ترجَّح توثيقُ أحمد فذاك، وإن ترجّح جرحُ غيره لم يضرَّنا؛ لأن مَن كان شأنه الإصابة، ثم أخطأ في النادر، ثم جاء عنه ما لا يعلم أنه أخطأ فيه، فهو [1/ 430] محمول على الغالب، وهو الإصابة؛ سواء أكان محدِّثًا أم ناقدًا أم قاضيًا أم مفتيًا كما هو معروف. وقد جاء عن ابن معين الذي جرح عامرًا هذا أنه قيل له: إن أحمد يحدِّث عنه، فقال ابن معين:«ما له، جُنَّ!» وهذا يدل أوضح دلالة على أن ابن معين يعرف من أحمد أنه لا يروي إلا عن ثقة.
فإن كنتُ لما كتبتُ ما كتبتُ في «الطليعة» استحضرتُ هذه النقول أو بعضها فذاك، وإن كنت بنيتُ على ما عرفتُه بالممارسة من حال الإمام أحمد فذاك أكمل، وعلى كلا الحالين فقد تبيَّن أنه ليس برأي مبتكر، كما زعم الكوثري. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(2)
195 - محمد بن بشّار بُنْدار:
في «تاريخ بغداد» (13/ 407 [432]) من طريقه: «سمعت
(1)
(5/ 71).
(2)
محمد بن أيوب بن هشام. راجع «الطليعة» (ص 12 - 19 [5 - 13]). [المؤلف]
محمد بن أيوب الذراع. تقدَّم في ترجمة عبد الله العتكي [رقم 134]. [المؤلف]
عبد الرحمن [بن مهدي] يقول: كان بين أبي حنيفة وبين الحق حجاب».
قال الأستاذ (ص 32): «تكلم فيه الأقدمون إلى أن اتهموه بالكذب وسرقة الحديث، ثم استقر عمل المتأخرين على الانتقاء من رواياته» .
أقول: هذا ثقة جليل، وثَّقه أبو حاتم مع تشدُّده، والنسائي، والذهلي ومَسْلمة، وابن خزيمة وكان يسمِّيه:«إمام زمانه» ، وآخرون. واحتج به الشيخان في «الصحيحين» وبقية الستة. وفي «التهذيب»
(1)
عن «الزُّهرة» : روى عنه البخاري مائتي حديث وخمسة أحاديث، ومسلم أربعمائة وستين». ولم يتهمه أحد بالكذب بالمعنى المتبادر ولا بسرقة الحديث.
وفي ترجمة محمد بن المثنى أبي موسى الزَّمِن من «التهذيب»
(2)
وغيره عن السُّلَمي عن الدارقطني: أن عَمرو بن علي الصيرفي سئل عنه وعن بندار هذا فقال: «ثقتان يُقبل منهم كلُّ شيء إلا ما تكلَّم به أحدُهما في الآخر» ، يعني لأنه كانت بينهما منافسة. والدارقطنيُّ لم يدرك عَمرو بن علي ولكن الاستشهاد بمثل هذا مقبول.
وقال عبد الله بن محمد بن سيَّار: سمعت عَمرو بن علي يحلف أن بندارًا يكذب فيما يروي عن يحيى. قال ابن سيار: «وبندار وأبو موسى ثقتان، وأبو موسى أصح»
(3)
وإنما أراد عَمرو بن علي بالكذب الوهم والخطأ، بدليل أنه قد جاء عنه توثيقُ بندار [1/ 431] كما مرّ، وأن الراوي عنه
(1)
(9/ 73).
(2)
(9/ 427).
(3)
«التهذيب» : (9/ 71).
ــ وهو ابن سيار ــ وثَّق بندارًا، وإنما رجَّح أبا موسى عليه.
وقد كانت بين عَمرو بن عليّ وبُندار مخاشنة، ففي ترجمة عمرو من «التهذيب»
(1)
: «حدَّث عمرو بن علي عن يحيى القطان، فبلغه أن بندارًا قال: ما نعرف هذا من حديث يحيى، فقال أبو حفص [عَمرو بن علي]: وبلغ بندارٌ إلى أن يقول: ما نعرف؟ ! » فإذا قضى عمرو بن علي على بندار وأبي موسى أن لا يُقبل كلامُ كلِّ منهما في الآخر، فقد قضى على نفسه، والحق أنه إنما أراد الوهم والخطأ. وقد قال الأستاذ (ص 163): «الإخبار بخلاف الواقع هو الكذب، والكذب بهذا المعنى يشمل الغالط والواهم
…
فلا يُعتدّ بقول من يقول: فلان يكذب ما لم يفسِّر وجهَ كذبه
…
».
وفي «التهذيب»
(2)
: «قال عبد الله بن علي ابن المديني: سمعت أبي وسألته عن حديث رواه بُندار، عن ابن مهدي، عن أبي بكر بن عيّاش، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تسحَّروا فإن في السحور بركة» ؟ فقال: هذا كذب، وأنكره أشد الإنكار، وقال: حدثني أبو داود موقوفًا»، يعني ليس فيه:«عن النبي صلى الله عليه وسلم» . وقد رواه النسائي
(3)
عن بندار مرفوعًا، ثم قال:«وقفه عبيد الله بن سعيد» ثم رواه من طريقه موقوفًا.
والمتن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس وهو في «الصحيحين»
(4)
.
(1)
(8/ 81). وما بين المعكوفين من إضافة المؤلف.
(2)
(9/ 71).
(3)
(2144).
(4)
البخاري (1923)، ومسلم (1095).
وقد روي من حديث أبي هريرة. والخطأ في مثل هذا يقع كثيرًا من الثقات، فإنما أراد ابن المديني أن رَفْعه من تلك الطريق غير واقع، لا أن بندارًا تعمّد الكذب، وهذا واضح، فبندار قد يقع له الخطأ في مظانه كالحديث المذكور.
وأما سرقة الحديث، فإنما أخذها الأستاذ مما روي عن أبي موسى أنه سبق بندارًا إلى تصنيف حديث داود بن أبي هند، ثم قال: هنا قوم لو قدروا أن يسرقوا حديث داود لسرقوه، يعني بندارًا. وإنما كانت بين الرجلين منافسة فأراد أبو موسى أن بندارًا يحسده على السبق إلى تصنيف حديث داود، حتى لو أمكنه أن يسرق ذاك الكتاب لِيُفقده أبا موسى لفعل. وليس هذا من سرقة الحديث في شيء، ولم يقع من بندار لا هذا ولا ذاك، ولا هو ممن يقع منه ذلك، وإنما بالغ أبو موسى كما لا يخفى. ومع هذا لم يكن بين الرجلين بحمد الله ما يسمى عداوة. وقد توفي بندار قبل أبي موسى فجاء بعض الجهلة إلى أبي موسى فقال له:[1/ 432] البشرى، مات بندار. يعني: وخلا لك الجوُّ. فقال له أبو موسى: «جئت تبشِّرني بموته؟ ! علي ثلاثون حَجَّةً إن حدَّثتُ أبدًا» . فعاش بعد ذلك تسعين يومًا لم يحدِّث بحديث، ثم مات رحمهما الله تعالى. وإنما حلف أبو موسى أن لا يحدِّث ندامةً على ما سبق منه من المنافسة، وإظهارًا لأنها لم تبلغ به أن يُسَرَّ بموت صاحبه، فامتنع من التحديث الذي كانت المنافسة فيه.
وأما استقرار العمل على الانتقاء من رواياته، فهذا يقال على وجهين:
الأول: أن يُتَّقى ما تبيَّن أنه أخطأ فيه ويؤخذ غيره.
الثاني: أن لا يؤخذ من رواياته إلا ما توبع عليه.