الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكل من قتل بالحديدة ظلما وهو طاهر بالغ ولم يجب به عوض مالي فهو في معناهم
ــ
[البناية]
وأخرج أبو داود في سننه عن ابن عباس قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم» .
وأخرج أيضا عن جابر قال: «رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات، وأدرج في ثيابه كما هو، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال النووي: سنده على شرط مسلم.
قوله: زملوهم أي لفوهم فيها، يقال: تزمل بثوبه، إذا التف فيه.
[كل من يدخل في معنى الشهيد]
م: (وكل من قتل بالحديدة ظلما وهو طاهر بالغ ولم يجب به عوض مالي فهو في معناهم) ش: أي في معنى شهداء أحد، وهاهنا قيود.
الأول: أن يكون القتل ظلما، احترازا عن القتل بحق على ما ذكرناه.
والثاني: القتل بالحديدة، وإنما يشترط هذا القيد إذا كان القتل من المسلمين، وأما من أهل الحرب والبغي وقطاع الطريق، فليس بشرط فبقتلهم شهيد بأي شيء قتل، لا يقال احترز بالحديدة عن القتل بالمثقل على قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن الاحتراز عنه يحصل بقوله ولم يجب به عوض مالي؛ لأن على قول أبي حنيفة رضي الله عنه يجب العوض المالي في القتل بالمثقل، فلا حاجة إلى قيد الحديدة.
والقيد الثالث: أن يكون طاهرا فلا يكون جنبا وحائضا.
والقيد الرابع: أن يكون بالغا ولا يكون صبيا، وفي هذين خلاف بين أبي حنيفة وصاحبه على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
والقيد الخامس: أن لا يجب بقتله عوض مالي احترز به عن شبه العمد والخطأ، فإن الواجب فيهما المال، والشرط فيه أن يكون ذلك حالة القتل، فإن القصاص إذا وجب ثم انقلب مالا بالصلح فإنه لا يمنع الشهادة، وكذلك الحكم في قتل الوالد ولده، فإنه يجب بالمال فيه حالة القتل، ولا يمنع الشهادة كما ذكرناه. وهاهنا قيدان آخران، لم يذكرهما المصنف.
الأول: أن يكون مسلما.
والثاني: أن يكون غير مرتث. وما ذكره في " الذخيرة ": الذي ذكرناه عن قريب هو الجامع الأحسن.
فيلحق بهم، والمراد بالأثر الجراحة؛ لأنه دلالة القتل، وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد كالعين ونحوها، والشافعي رحمه الله يخالفنا في الصلاة، ويقول: السيف محاء للذنوب فأغنى عن الشفاعة
ــ
[البناية]
م: (فليحق بهم) ش: أي بشهداء أحد، ومن لم يكن بمعناهم فلا يلحق بهم م:(والمراد بالأثر الجراحة) ش: أي المراد من قوله: أو وجد في المعركة وبه أثر، هو الجراحة. وعبارة القدوري: وبه أثر الجراحة.
وفي " الينابيع " يريد بالأثر علامة تدل على قتله كالذبح والطعن والجرح والرض وسيلان الدم من عينه أو أذنه، ولا يكون ذلك إلا بجرح في الباطن، وإن كان يسيل من دبره أو ذكره أو أنفه لا يكون شهيدا؛ لأن الدم يخرج من هذه المخاريق من غير ضرب في العادة، إذ صاحب الباسور يخرج الدم من دبره؛ والجبان يبول دما من الخوف، وتسيل الأسنان بالرعاف، وكذا إذا وجد ميتا وليس به أثر؛ إذ الجبان يبول دما من الخوف وقد يموت من الفزع، وكونه في المعركة ليس بسبب لقتله، بدون الإصابة، فإن القتل لا يكون إلا بالأثر.
م: (لأنه دلالة القتل) ش: أي لأن الأثر الذي هو الجراحة دلالة القتل؛ لأن الحكم يضاف إليه في الظاهر م: (وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد) ش: أي وكذا دلالة القتل خروج الدم منه ليس في العادة خروج الدم منه م: (كالعين ونحوها) ش: مثل الأذن والسرة. وفي " الزيادات ": دلالة القتل جراحة توجد أو دم يخرج من عينه، أو أذنه، أو يصعد من جوفه إلى فيه، فأما ما يخرج من أنفه أو دبره أو ذكره أو ينزل من رأسه شيء من دمه فلا يصلح دليلا على القتل؛ لأنه قد يوجد ذلك من غير ضرب عادة.
م: (والشافعي رحمه الله يخالفنا في الصلاة) ش: ويقول: لا يصلى على الشهيد وبه قال مالك وإسحاق رضي الله عنهما وهو قول أهل المدينة. وقال النووي في " شرح المهذب ": المذهب الجزم بتحريم الصلاة عليه. وقال ابن حزم في " المحلى ": إن شاءوا صلوا عليه، وإن شاءوا تركوها، ومذهبنا هو قول ابن عباس وابن الزبير، وعقبة بن عامر، وعكرمة، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومكحول، والثوري، والأوزاعي، والمزني، وأحمد رضي الله عنه في رواية. واختاره الخلال، وقال في موضع آخر يصلى عليه، وفي رواية المروزي الصلاة عليه أجود.
م: (ويقول) ش: أي قال الشافعي م: (السيف محاء للذنوب فأغنى عن الشفاعة) ش: تقريره إذا كان السيف محاء للذنوب لا يبقى للشهيد ذنب فيستغنى عن الشفاعة التي كانت الصلاة لأجلها، وقوله: محاء على وزن فعال، مبالغة ماحي من محا يمحو محوا، ومحى يمحيه محيا. ومحا
ونحن نقول: الصلاة على الميت لإظهار كرامته، والشهيد أولى بها،
والطاهر من الذنوب لا يستغني عن الدعاء كالنبي والصبي
ــ
[البناية]
يمحاه أيضا فهو ممحو وممحي، صارت الواو بالكسرة ما قبلها فأدغمت في الياء التي هي لام الفعل.
م: (ونحن نقول: الصلاة على الميت لإظهار كرامته والشهيد أولى بها) ش: أي بهذه الكرامة، ولهذا اختص المسلمون بهذه الكرامة، والشهيد من جملة أموات المسلمين والصلاة عليهم فرض من فروض الكفاية عليهم فلا يسقط من غير فعل أحد بالتعارض، بخلاف غسله؛ إذ النص في سقوطه لا معارض له.
م: (والطاهر من الذنوب لا يستغني عن الدعاء) ش: هذا جواب عن قول الشافعي رحمه الله السيف محاء للذنوب، وتقريره أن العبد وإن تطهر من الذنوب لم يبلغ درجة عن الاستغناء عن الدعاء م:(كالنبي والصبي) ش: فإن النبي مطهر من الذنوب مع أنه صلي عليه، ومع هذا لا يبلغ أحد درجة الأنبياء، وكذلك الصبي مطهر من الذنوب، وقد صلي عليه.
فإن قلت: روى البخاري عن جابر «أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد،» وروى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم» .
قلت: روى البخاري أيضا عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على شهداء أحد صلاته على الميت، ثم انصرف، قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر» وزاد ابن حبان: «ثم دخل بيته فلم يخرج حتى قبضه الله عز وجل» .
والميت أولى في باب التراجيح، على أن جابرا رضي الله عنه كان يومئذ مشغولا، فقد قتل أبوه وأخوه وخاله في ذلك، فرجع إلى المدينة ليدبر حالهم، وكيف يحملهم فلم يكن حاضرا حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد، وقد روى ما روى. وذكر الواقدي أيضا في غزوة أحد قال جابر بن عبد الله:«كان أول قتيل قتل من المسلمين يوم أحد، قتله سفيان بن عبد شمس فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهزيمة» .
وروى النسائي عن شداد بن الهاد «أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم....
.» الحديث، وفيه أنه استشهد فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى البخاري في "صحيحه «أنه صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات» وعن أبي مالك الغفاري قال: «كان يجاء بقتلى أحد تسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فيدفنون التسعة ويدعون حمزة، ثم يجاء بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم فيدفنون التسعة ويدعون حمزة،» رواه الطحاوي والدارقطني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[البناية]
وروى الطحاوي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنه «أنه صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد مع حمزة، وكان يؤتى بتسعة لتسعة، وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم، وكبر يومئذ سبع تكبيرات» . قال: وقد صلى على غيرهم، كما روى بشير بن الهاد «أنه صلى الله عليه وسلم أعطى أعرابيا أسلم نصيبه، وقال: قسمته لك، فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكن ابتعتك على أن أرمى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم فأموت فأدخل الجنة، ثم أتي بالرجل قد أصابه سهم حيث أشار فكفن في جبة النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه، فكان من صلاته أن هذا عبد خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا، أنا أشهد عليه فلم يغسله وصلى عليه» ورواه النسائي أيضا.
وأخرج الطحاوي هذا الحديث لمعنيين أحدهما: لأنه شاهد لما ذكره من الدلائل في إثبات الصلاة على الشهيد. والثاني: ردا على من زعم أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على أحد ممن قتل في المعركة في غير غزوة أحد.
فإن قلت: لم لا يجوز أن تحمل الصلاة في الأحاديث التي ورد فيها الصلاة على الدعاء؟ وممن قال ذلك ابن حبان والبيهقي.
قلت: يدفع هذا قوله في الحديث الذي رواه عقبة بن عامر المذكور صلاته على الميت.
فإن قلت: أنتم لا ترون الصلاة على القبر بعد ثلاثة أيام، فكيف يحملون عليه على معنى الصلاة العرفية، وقد كانت واقعة أحد في سنة ثلاث من الهجرة، وصلاته عليه السلام على شهداء أحد حين خروجه من الدنيا بعد وقعة أحد في سبع سنين.
قلت: المذهب عندنا الصلاة على القبر يجوز ما لم يتفسخ، والشهداء لا يلحقهم تفسخ، أحياء عند الله؛ فإذا لا يجوز حمل الصلاة عليهم على معنى الدعاء، وكيف يجوز هذا وقد أكد قوله صلاته على الميت لنفي احتمال المحال.
فإن قلت: قال ابن قدامة: حديث عقبة مخصوص بشهداء أحد، فإنه صلى عليهم في القبور وهم لا يرون الصلاة على القبر أصلا، ونحن فيما بعد الشهر.
قلت: إذا ثبت أنه صلى على شهداء أحد صحت الصلاة عليهم بعدم القائل بالفرق، وقوله:"وهم لا يرون الصلاة على القبر" غير صحيح، فإذا دفن الميت ولم يصل عليه صلى على قبره ما لم يتغير كما ذكرناه.
فإن قلت: الصلاة على الميت لا تصح بلا غسل فما لم يغسل الشهيد لا تصح الصلاة عليه.
قلت: وكذا لا يدفن بلا غسل، فلما دفن الشهيد بلا غسل دل على أنه في حكم المغسولين، فكانت الصلاة عليه صلاة على المغسول حكما، وهو مغسول بصب رحمة الله تعالى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[البناية]
فإن قلت: الشهداء أحياء عند الله، والصلاة إنما شرعت على الموتى.
قلت: هم أحياء في حكم الآخرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169](آل عمران: 169) ، لا في أحكام الدنيا والصلاة عليهم من أحكام الدنيا كسائر الموتى، ولهذا يقسم ميراثهم بين ورثتهم ويتزوج نساؤهم وتحل ديونهم المؤجلة ويعتق أمهات الأولاد ومدبروهم وينفذ وصاياهم، ثم هم يدفنون، فدل ذلك كله أن الحياة لهم عند الله بعد الموت.
فإذا قلت: قال الشافعي رحمه الله: لعل ترك الصلاة لاستغنائهم مع التخفيف على من بقي من المسلمين.
قلت: هذا التعليل لا يقبل؛ لأن الصلاة على الميت دعاء له، ولا يستغني أحد عن الدعاء كما ذكرناه، وكذلك التعليل بالتخفيف، فإنهم يتممون إلقاءهم ويحضرون قبروهم ويكلفون دفنهم.
فإن قلت: الصلاة على الميت من باب الشفاعة، والشهداء يشفعون للناس ولا يحتاجون إلى من يشفع لهم.
قلت: الصلاة عليهم زيادة كرامة لهم، وقضاء لحق الميت، وقد أشار المصنف إلى هذا المعنى بقوله: والصلاة على الميت لإظهار كرامته، وقد استوفينا الكلام هناك، وقد ظهر من هذا أن ما ذهبنا إليه أرجح من وجوه عديدة؛ الأول: أن الخبر المثبت في هذا أولى من النافي.
الثاني: أن أحاديثنا أكثر فكانت أولى، قال محمد في " السير الكبير ": أخذنا بما أجمع عليه أهل العراق دون ما انفرد به أهل المدينة، فرجح بالكثرة.
فإن قلت: هذا خلاف ظاهر مذهبكم، فإن الترجيح بالكثرة لا يعتبر عندكم.
قلت: قد ذكر بعض مشايخنا الترجيح بكثرة الرواة؛ إذ الظن بصدق خبر الاثنين أقوى منه بخبر الواحد.
الثالث: أن الصلاة على الموتى أصل في الدنيا وفرض من فروض الكفاية على المسلمين، فلا يسقط من غير فصل أحد.
الرابع: لو كانت الصلاة عليهم غير مشروعة، كما في عموم تنبيهه صلى الله عليه وسلم على عدم مشروعيتها، وعلة سقوطها كما نبه على علة سقوط غسلهم.
الخامس: يجوز أنه عليه السلام لم يصل عليهم، وصلى عليهم غيره لما كان به من الجراحات، وكسور رباعيته وما أصابه يومئذ من المشركين.