الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي الكتاب
للعملِ في المخطوطات متعةٌ لا يعرفها إلا من ذاقها، إنها في أيسر حالاتها تنميةٌ لحسِّ الزمن في أعماقنا، وإرهافٌ لرعشة الماضي في وجداننا، تعيشه كأنه الحاضر .. رؤيةً ورؤيا .. هذه المخطوطة بخط الإِمام الغزالي .. وتلك بخط الإمام الذَّهبي .. وهذه سمعها صلاحُ الدِّين .. وتلك كان يملكها الملك المعظَّم .. وتتلاحقُ الأزمنة أمامك، وأنت تقف في زمنك، وتعيش الفكر والوجدان معًا، ها هم أولاء أعلامنا .. وأكاد أحيانًا أمدُّ يدي لأصافحهم من خلال خطوطهم
…
وتقرأ لاهثًا .. وأنت ملاحقٌ بهذا الإِحساس، لتَرْدِمَ خَنْدقًا حفره الزمن خلال قرونٍ عديدة، وتحاول أن تلملم صورةً بعثرتها النكبات والأحداث ومزقتها .. ولكي تلملمَ بقايا الصورة؛ عليك أن تعاني مشقَّة السؤال والحرمان .. فلكي تكتب عن دمشق مثلًا، عليك أن تبحث عنها في مكتبات ليدن، أو لندن، أو برلين
…
تراثنا ما زال أسيرًا في ديار الغُرْبة .. وثمة من يطالبنا بالابتعاد عنه! ..
وتمضي السَّاعات .. وأنت تسعى بين الكتب وراء فتحةٍ أو ضمة تتوِّجُ بها كلمة .. أو تكشفُ عن معنى .. أو تعيدُ الحياةَ إلى كلمة عَدَتْ
عليها عوادي الرُّطوبة .. وتشعر بلذَّةٍ غريبة حين يشعُّ في ذهنك معنى .. أو تستسلم لك كلمة .. وتحس أنك تعيد اكتشاف التراث من جديد، أنك تردِمُ فجوةً بين الماضي والحاضر ..
وهذا الكتاب يبيِّن جانبًا من جوانب ثقافتنا، هو تأريخ لهذه الفئة من العلماء الذين أخلصوا في خدمة الحديث النَّبوي الشَّريف، ومنحوه قلبهم وعقلهم وجهدهم، هذه الفئة التي كان من أهمِّ أهدافها ألا نبتعدَ عن اليَنْبُوع الثَّاني في ديننا الحنيف، عن المصدر الثاني -بعد القرآن الكريم- في تكوين نظرتنا إلى الحياة والكون، ويدهشنا حقًّا هذا الإِيمان الكبير الذي سَكَنَ قلوبهم، وهذا الدَّأْبُ على العِلْم مع الفاقة في كثيرٍ من الأحيان، فكان منهم في كل عصر ثوابت مبصرة، تبعدنا عن الانحراف وراء يونان أو فُرْس .. تذكِّرنا دائمًا بكلماتِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي مضمخة بعبق الإِيمان، وبعزيمة الحياة
…
وهو يعرِّفنا بمؤلفاتٍ لم نسمع بها من قبل .. مؤلفاتٍ شاملةٍ لأكثر المعارف، من حديثٍ .. وتاريخ، وأدب ونحو وتصوُّف.
وقد قدَّمْتُه بمقدِّمة تعرِّف بالمؤلف وعصره، وأتبعتها بدراسةٍ عن ثقافته ونقده ومؤلفاته، واستقصيت -ما أمكن- التآليف التي من بابته، وأجريتُ مقارنةً بينه وبين تذكرة الحفَّاظ لوحدة موضوعِهما .. وعصرِهِما ..
وقد قمتُ بتحقيقه مع الأخ الصَّديق الأستاذ أكرم البوشي، فجزأنا الكتاب، فكان من نصيبه الجزء الأول والثاني، وكان من نصيبي الجزء الثالث والرابع .. وقد اتفقنا على منهجٍ في التحقيق بيَّنْتُه في آخر هذه المقدِّمة.
وبعد ..
هل تكفي كلمةُ شكرٍ أُزْجيها لأُستاذي وشيخي شعيب الأرنؤوط؟ وهل تجزئُ عني كلمةُ ثناء أكتبها له بحروف المحبَّة والصِّدْق؟ .. إن ما بعنقي له أوسع من الشكر، وأجزل من الثناء، إنَّ ما فتح عليه عيني من أمور الحياة، وأنا أَتَلمَّس طريقي بعقل غضٍّ وقلب مُرْهف جعل أيامي معه سنين في عُمْقها وغِنَاها، ثمّ أخذ بيدي في عالم التحقيق، فمنحني ثِقَته وما أغلاها، وأنار دَرْبي بعلْمِهِ وما أغزره، فلَكَ يا أستادي شكرٌ أوسعُ من الشُّكر، وثناء أعظمُ من الثَّناء، والله يتولَّى عني حُسْن جزائك.
وليس لي وراءَ الله مَرْمى ..
دمشق: 17 جمادى الآخرة 1406 هـ
27 شباط 1986 م
إبراهيم الزيبق
محمَّد بن أحمد بن عبد الهادي
(705 - 744 هـ)
حياته، ثقافته، مؤلفاته
بقلم
إبراهيم الزيبق
"لو عاش كان عجبًا"
صلاح الدين الصفدي