الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيل: "فربَّ راغب عن كلمةٍ غيرُهُ متهالك عليها، وزاهد عن نكتةٍ غيرُهُ مشعوف بها، ينضي الركاب إليها"(1).
وأخيرًا .. يُعَدُّ ابن عبد الهادي آخر من ألف في تراجم علماء الحديث بأصالة .. أما ما كتب بعده فلا يعدو أن يكون تلخيصًا للتذكرة أو تذييلًا واستدراكًا عليها.
11 - بين طبقات علماء الحديث وتذكرة الحفاظ
لستُ أرمي -بادئ ذي بَدْء- إلى المفاضلة بين الكتابين، وإلى تبيان من اتكأ في عمله على الآخر .. وإنما هي محاولة لتلمُّس العلاقة بين كتابين أُلِّفا في موضوع واحد .. وفي عصر واحد ..
والمطَّلع على الكتابين تتبدَّى أمامه عِدَّة أسئلة .. مَنِ السابق في التأليف؟ .. وما مدى اعتماد أحدهما على الآخر؟ .. وما مدى الأصالة عند كل منهما في هذا الموضوع؟ ..
ومبعث هذه الأسئلة -في رأيي- هو فهمنا الخاص لطبيعة التأليف في عَصْرنا، والتي تختلف تمامًا عن طبيعة التأليف عند القدامى .. والتي يميزها غلبة النَّقْل على الإِنشاء، وخاصة في العصور المتأخرة ..
إن كتابًا كالكامل في التاريخ لابن الأثير لا يفقد قيمته حتى حين نعرف المصادر التي نقل منها، ولا يمكن أن نجرد ابن الأثير من كامله وأن نغفل بصماته منه، وإن معجمًا كلسان العرب أيضًا لا يفقد
(1)"معجم البلدان": 1/ 14.
قيمته حين نعرف أن ابن منظور نثر فيه كتب اللغة التي قبله، إن شخصية ابن منظور واضحة في معجمه حتى وهو ينقل نصوص غيره، ومثل ذلك يقال في كتب النحو .. والرِّجال .. وما أكثر ما أُلِّفَ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ويبقى لكل سيرة سِيمَةٌ خاصة تميزها عن غيرها رغم وحدة الموضوع، هذا الشيء الخاص هو من مؤلِّف السيرة نفسه، فسيرة ابن إسحاق هي غير سيرة ابن هشام مع أنه هذَّبها فقط، والسيرة الحلبية هي غير الروض الأنف للسُّهيلي .. فهل يسمَّى هذا تكرارًا كما يحلو للبعض أن يقول؟ ! ..
وفي كتابينا هذين يتبدَّى الأمر نفسه، ثمة تشابه في الموضوع، وفي ترتيب التراجم، بل تشابه إلى حد بعيد في النُّقُول، ولكن يبقى ثمة شيء يباعد بين الكتابين، هو شيء نابع من اختلاف الذَّهبي عن ابن عبد الهادي تكوينًا، وثقافة ومنهجًا.
إن وحدة الموضوع وحَّدَتْ طبيعة مصادرهما ومراجعهما، إن ما يجب أن يكتب عن ابن مَنْده محدِّثًا مثلًا لا يمكن أن يختلف كثيرًا عما يمكن أن يكتبه مؤرِّخ آخر غير الذهبي وابن عبد الهادي، إن مادة الترجمة مُلْك مُشَاع لكل مؤرخ، ولكن ما يفرق بين مؤلف وآخر دقة النَّقْل، وتحرِّي الصَّواب، وحُسْن الإِيراد .. وشيء في أعماق التصور يجعله يقدِّم نقلًا على نقل، بحيث تترابط أجزاء الصورة لتكون وحدة .. إن النقل وحده لا يكفي، بل إيراد النُّقول على نَسَقٍ ما هو الذي يحدِّد أصالة مؤلِّف عن آخر، ويحدِّد المنهج الذي يتبعه لرسم صورة المترجَم له، بل إن طبيعة النُّقول، وعمن ينقل تحدِّد فلسفته وموقفه تجاه من يترجم له، ومن ثَمَّ ينأى كتاب عن آخر رغم أنَّ طريقهما واحدة ..
وخُذْ أي ترجمتين شئت من الكتابين، وقارن بينهما على ضوء ما قلتُ تَرَ الفرق واضحًا بين المنهجين .. ومن ثَمَّ بين الكتابين.
وتبقى معرفةُ من السابق منهما في التأليف .. رجمًا بالغيب، رغم أن ثمة إشاراتٍ كثيرةً في كتب الذهبي تفيد أنه السابق .. ولكن كيف كانت صورة كتابه الأولى؟ .. وصورته النهائية؟ .. أتداولته الأيدي مُسَوَّدَة؟ أم بيَّضَه؟ عِلْمًا بأنه أضاف إليه ترجمة ابن عبد الهادي نفسه المتوفَّى سنة (744 هـ).
أما هل استفاد ابن عبد الهادي من الذهبي في تأليف الكتاب؟ أقول: استفاد ولا أقول: اعتمد، فلا أستبعد هذه الاستفادة، بل أكاد أجزم بها، فمثل ابن عبد الهادي لا يزهد بأي كتاب قد يفيده في إثراء مادته، ومثل الذهبي، وهو إمام المؤرِّخين، لا يمكن أن يُغفل وقد ملأ سمع العالم الإسلامي وبصره بمؤلفاته القيمة كتاريخ الإسلام، وسير أعلام النبلاء، ومختصراته التي اختصرها من أمهات الثقافة الإِسلامية: كالأنساب للسَّمْعاني، وتاريخ بغداد للخطيب، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ مِصْر لابن يونس، وتاريخ نَيسَابور للحاكم، والتكملة لكتاب الصِّلة لابن الأبار .. وغيرهم كثير ..
ولكن .. استفاد ابن عبد الهادي من تاريخ الإسلام خاصة؟ أم من المختصرات؟ أم من تذكرة الحفاظ؟ هنا نعود إلى الرَّجْم بالغيب، ويتسع مجال الافتراض .. وبرأيي أنه اطلع على كتب الذهبي جميعها.
وعندي أن كلًّا منهما قد اطلع على كتاب الآخر، فإذا كان الذهبي سبق في تأليف تذكرة الحفاظ، فمما لا شك فيه أن ابن عبد الهادي ألَّف طبقات علماء الحديث والذَّهبي حي، وعالِمٌ مثل الإمام الذَّهبي وقَفَ
حياتَه على كتب التراجم لا بد من أن يطَّلع على كتاب في التراجم مؤلفه ابن عبد الهادي الذي صرَّح عنه بأنه ما اجتمع به قط إلا استفاد منه، ولو اكتشف الإمام الذهبي تعويل ابن عبد الهادي عليه لقال ذلك، بل لما أثنى عليه هذا الثناء الكبير ..
ثم إننا نرى عالمًا في القرن التاسع الهجري قد اطلع على كلا الكتابين، هو ابن ناصر الدين، ونقل عن ابن عبد الهادي من كتابه طبقات علماء الحديث، ونظم تذكرة الحفاظ كما مَرّ، ولم يشر أدنى إشارة إلى ما يمكن أن يظن من اتكاء ابن عبد الهادي على الذّهبي، وهو الذي وصف ابنَ عبد الهادي بعمدة المحدِّثين.
فطبيعة فهمنا الخاص للتأليف .. والتي تختلف عن طبيعة التأليف عند القدامى، تجعلنا نبحث عن خطوط الاتصال والانفصال بين الكتابين.
ونرى القدامى -في الوقت نفسه- لم يقفوا ليبحثوا عما نبحث عنه من تفرد مؤلف عن آخر.
وحسبي أن شير إلى أن تراثنا الإِسلامي يتمم بعضه بعضًا، ونحن بحاجةٍ إلى غير كتاب في الفن الواحد، لتتبدَّى لنا الصورة كاملة، واضحة.