الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - سِيرَةُ حَيَاتِهِ
في هذه الأسرة العريقة عِلْمًا وفَضْلًا وصلاحًا ورواية ولد محمد بن أحمد بن عبد الهادي سنة (705 هـ) على أرجح الأقوال (1)، في الصَّالحية (2)، لأبٍ من العلماء المسندين المقرئين، وكشأن كلِّ أبٍ عالم يطمح في أن يكون ابنه محدِّثًا ذا إسناد عالٍ، سعى به إلى كبار مسندي عصره، فسمع من زينب ابنة الشيخ كمال الدين الصالحية، وكانت قد تفرَّدت بغالب إجازاتها، وهي آخر من روى في الدنيا عن سِبْط السِّلَفي،
وحين توفيت نزل الناس بموتها درجة (3). وسمع من عيسى المطعم المتوفى سنة (717 هـ)، وله إحدى وتسعون سنة (4)، ومن أبي بكر أحمد بن عبد الدائم الصالحي، وهو شيخ لابن تيمية أيضًا، المتوفى سنة (718 هـ)، وله ثلاث وتسعون سنة (5)، ومن سعد الدين يحيى بن
(1) هذا قول لدات ابن عبد الهادي من معاصريه كابن كثير، والصفدي والحسيني، أما الإمام الذهبي فقال في "تذكرة الحفاظ": 4/ 1508 "ولد سنة خمس أو ست وسبع مئة"، وانفرد ابن رجب في تحديد سنة (704 هـ)، ونَصَّ أنه بلغ الأربعين، وتابعه ابن العماد في شذرات الذهب: 6/ 141، وقد أجمع أغلب معاصريه على أنه لم يبلغ الأربعين.
(2)
قال محقق المحرر في الحديث: 1/ 36 "ولد بقرية جماعيل"، وهو وهم، إذ ليس لدينا نص يؤيد ذلك، أما كونه جماعيلي الأصل، فهذا لا يعني أنه ولد بها، وقد بينت عندما تحدثت عن أسرته أن جده عبد الهادي هو أول من ولد في الصالحية.
(3)
"الدرر الكامنة": 2/ 209 - 210، وفي "أعلام النساء": 2/ 47 - 50 سرد للكتب التي أسمعتها بالإجازة.
(4)
"الدرر الكامنة": 3/ 282.
(5)
"الدرر الكامنة": 1/ 468.
محمد بن سعد، المتوفَّى سنة (721 هـ)، وقد جاوز التسعين (1)، وكلهم ممن تفرد بأجزاء من العوالي.
وسمع أيضًا من أحمد بن أبي طالب الصالحي الحَجَّار، وهو من المعمَّرين رحل الناس إليه سنة (717 هـ)، ولما توفي سنة (730 هـ) نزل الناس بموته درجة (2)، وأكثر عن محمد بن أحمد بن أبي الهيجاء، ابن الزرَّاد، وهو ممن تفرد، مات سنة (726 هـ)(3)، وقرأ بنفسه "صحيح مسلم"(4) على القاضي شرف الدين عبد الله بن الحسن، وهو من حفدة المحدث عبد الغني المقدسي، وممن تفرد وعمر، توفي سنة (732 هـ)(5).
أما في الفِقْه، فإنه حفظ "المقنع"(6) -وهو دون العاشرة- على القاضي سليمان بن حمزة، المتوفى سنة (715 هـ)(7)، ثم أتمَّ دراسته على إمامين كبيرين برعا في المذهب الحنبلي، هما: القاضي محمد بن مسلم بن مالك المتوفى سنة (726 هـ)(8)، وإسماعيل بن محمد الحَرَّاني المتوفى سنة (729 هـ)(9).
(1)"الدرر الكامنة": 5/ 201 - 202.
(2)
"الدرر الكامنة": 1/ 152 - 153.
(3)
"الدرر الكامنة": 3/ 466.
(4)
"وفيات ابن رافع": 1/ 458.
(5)
"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 380 - 381.
(6)
"الوافي بالوفيات": 2/ 161.
(7)
"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 364 - 366.
(8)
"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 380 - 381.
(9)
"الدرر الكامنة": 1/ 403 - 404.
وأخذ القراءات عن شيخ القراء في عصره ابن بَصْخَان (1)، وقرأ النحو على أبي العباس الأندرشي، وهو ممن شرح "التسهيل" لابن مالك (2).
ونحو سنة (721 هـ) -وهو بعد في السادسة عشرة- بدأ يتردد إلى عالمين كبيرين في عصره، هما: المِزِّي وابن تيمية (3)، عند الأول تعلم علل الحديث بعد أن أدرك إسناده، وعند الثاني فهم روح الشرع بعد أن حفظ فقهه.
وقد تميَّزت علاقته بابن تيمية -على قصرها- تميزًا واضحًا، وطبعت حياته بطابَعِها، فرغم أن مدَّتها لم تتجاوز سنواتٍ خمسًا إلا أنها كانت عميقة الجذور، واضحة المعالم، إن عقلًا ذكيًّا كعقل ابن عبد الهادي لا يقنعه إلا مثل عقل ابن تيمية الحاد الواضح، إن ما بين التلميذ والأستاذ من التشابه في منهج الرؤيا، وطريقة التفكير، أبعد من أن يكون مجرَّد تقليد تلميذ لأستاذه، إنه أكثر من ذلك بكثير وأعمق، إنه تلاقٍ بين عقلين جبارين، يدركان من أسرار الشرع والفهم له ما لا يدركه ذلك الإِنسان الذي يسعى وراء صحة إسناد أو إظلامه .. ولكن امتدَّ عمر ابن تيمية فَخُلِّدَ، ومات ابن عبد الهادي شابًّا فَنُسِيَ، ومن ثَمَّ تتبدى لنا كلمة الصَّفدي الحزينة والصَّادقة التي قالها في ابن عبد الهادي:"لو عاش كان عجبًا"(4) .. ومن ثم -أيضًا- ندرك سرَّ تعلقه الكبير بابن تيمية،
(1)"الوافي بالوفيات": 2/ 159 - 161.
(2)
"الدرر الكامنة": 1/ 145.
(3)
"العقود الدرية": 326.
(4)
"أعيان العصر"(خ): 121.
هذا التعلُّق الذي تجلى أروع ما يكون في الدِّفاع عنه في مسألة الزيارة (1)، وفي تأليف كتاب في سيرة حياته (2)، ومن يدري ربما ختم كتابه هذا بترجمته، وكأنه يختِمُ به الحُفَّاظ والتاريخ.
وفي "العقود الدرية" نصٌّ يصوِّر جانبًا من هذه العلاقة في مرحلتها الأولى، نلمح من خلاله اهتمامَ الشيخ ابن تيمية بالفتى ابن عبد الهادي، وفَرَحَ ابن عبد الهادي بهذا القرب المتمثل بالتشديد على ياء المتكلِّم، يقول: "وكنت أتردد إليه في هذه المدة أحيانًا، وقرأت عليه قطعة من الأربعين للرازي، وشرحها لي، وكتب لي على بعضها شيئًا
…
ولقد حضرتُ معه يومًا في بستان الأمير فخر الدين بن الشمس لؤلؤ، وكان قد عمل وليمة، وقرأت على الشيخ في ذلك اليوم أربعين حديثًا
…
" (3).
أما شيخه المِزِّي فقد تميَّز عن معاصريه بعِلْمين: الحديث والعربية، وقد استغرقته معرفة الحديث حتى صار إمامًا فيه، جعل بعضهم يرفعه فوق الدارقطني (4)، فهذا الاستحضار الرائع لأسماء الرجال، ولمعرفة العلل، وضبط المُشْكل والمبهم، ومعرفة الطُّرُق والأسانيد (5) جعلت كبار أئمة ذلك العصر يقرؤون بين يديه، ويجبنون بحضرته، ولم يكن يَسْلَم واحد منهم من ردِّه عليه، حتى ابن تيمية
(1) انظر ص 38 وما بعدها من هذه المقدمة.
(2)
سماه "العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية"، وقد طبع بالقاهرة سنة 1356 هـ-1938 م بتحقيق محمد حامد الفتي.
(3)
انظر "العقود الدرية": 326 - 327.
(4)
"طبقات الشافعية" للسبكي: 10/ 398.
(5)
"طبقات الشافعية" للسبكي: 10/ 397.
نفسه (1)، وقد توَّج هذه المعرفة بكتابٍ لم يسبقْ إلى مثله، هو "تهذيب الكمال"(2)، أوضح فيه من المشكلات والمعضلات ما لم يتعرَّض غيره لها.
وبرع أيضًا في علم العربية، حتى قيل فيه: لم ير بعد أبي حيان النحوي مثله في العربية، وخصوصًا في التصريف (3).
إلى جانب علمه نرى عند المِزِّي أخلاق العلماء، فرغم أنه كان عبوسًا مهيبًا (4)، في مجلسه يخيم سكوت وسكون (5) إلا أنه كان كثير التواضع، فيه صبر وحِلْم وقناعة وتودُّد (6)، صبر على فقره طوال حياته، حتى إنه اضطر إلى بيع أصل كتابه بخطِّه (7)، وظل يتوجَّه إلى الصالحية ماشيًا على قدميه وهو في عَشْر التسعين (8).
هذه الصِّفات الهادئة المهيبة جعلته لا يعرف قدرَه إلا مَنْ أكثر من مجالسته (9)، وقد لازمه ابن عبد الهادي نحو عشر سنين حتى برع عليه في عِلْم الرِّجال والعِلل (10)، بل إنه كثيرًا ما كان يقف في مجلسه -وقد
(1)"طبقات الشافعية" للسبكي: 10/ 429.
(2)
انظر ترجمته رقم (1155) من هذا الكتاب.
(3)
"الدرر الكامنة" 5/ 235.
(4)
"طبقات الشافعية" للسبكي: 10/ 398.
(5)
"طبقات الشافعية" للسبكي " 10/ 430.
(6)
"الدرر الكامنة": 5/ 233.
(7)
"الدرر الكامنة" 5/ 236.
(8)
المصدر السابق.
(9)
المصدر السابق.
(10)
"ذيل تذكرة الحفاظ" للحسيني: 49، و"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 436.
خيم سكوت وسكون- يرُدُّ عليه بعض أسماء الرجال (1)، فيقبل المزي منه (2) بكل تواضع العالم ونزاهته.
وقد تميز ابن عبد الهادي -من بعد- بعلم الرجال والعلل، حتى صار إمامًا فيه، وظل يعترف بفضل شيخه عليه، فيقول فيه:"هو شيخي الذي انتفعت به كثيرًا في هذا العلم"(3).
أما عن تأثير الإِمام الذهبي به، فلم يكن بعمق ما لمسناه عند المِزِّي وابن تيمية، ولم تتحدثِ المصادر التي بين أيدينا عن علاقة مميزة بين الرجلين، ولعل تلمذته للذهبي هي من نوع التلمذة بين الأقران -على ما بينهما من فارق في السن- هي علاقة من تلك العلاقات المتبادلة؛ كلاهما يستفيد من الآخر ويقرأ عليه، بل إن استفادة الذهبي تبدو أجلى وأوضح حين يقول:"ما اجتمعت به قط إلا واستفدت منه"(4)، ونراه يحضر درسًا له في المدرسة الصَّدْرية (5)، بل يترجم له في آخر كتابه "تذكرة الحفاظ" مع شيوخه الذين سمع منهم (6)، ويروي عن المِزِّي عن السروجي عنه (7).
(1)"الوافي بالوفيات": 2/ 161 - 162.
(2)
"طبقات الحفاظ": 521.
(3)
انظر ترجمته رقم (1155) من هذا الكتاب.
(4)
"ذيل تذكرة الحفاظ" للحسيني: 50.
(5)
"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 437.
(6)
"تذكرة الحفاظ": 4/ 1508.
(7)
"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 437، والسروجي: هو محمد بن علي بن أيبك، توفي شابًّا سنة (744 هـ)، وكان من الحفاظ الأذكياء. انظر "ذيل تذكرة الحفاظ" للحسيني:63.
وهكذا .. لم تكن تلمذته للذهبي تلقيًا كحاله مع ابن تيمية والمزي، بل مدارسة ومكاتبة.
* * *
مع نهاية تلمذته للمِزِّي -وهو بعد في الخامسة والعشرين أو أشفّ- تكتمل عنده أدوات العالم الباحث، فيشرع بالتأليف ويتصدَّر للتدريس، ويحقق خلال ثلاثة عشر عامًا ما لا يحققه أناس في أعمار متطاولة، فمؤلَّفاته تزيد على السبعين كتابًا، بلغ بعضها ثمانِ مجلدات، ويتصدر للتدريس في أكبر مدارس عصره كالعمرية والضِّيائية، والمصادر التي بين أيدينا لا تسعفنا في تحديد السنة التي ابتدأ فيها بالتدريس، ولا متى كان تدريسه في كل مدرسة، إلا المدرسة العمرية التي نص ابنُ كثير أنه جلس للتدريس بها في سنة (741 هـ) ولا ريب أن تدريسه في المدارس الأخرى كان قبل هذا التاريخ، بل ربما جمع في وقت واحد التدريس في غير مدرسة على عادة علماء ذلك العصر.
وفي ذِكْرِ ابن كثير لخبر تدريس ابن عبد الهادي في هذه المدرسة في حوادث سنة (741 هـ)(1)، مغزى لا يخفى، إذْ يدلنا هذا على أن ابن عبد الهادي بلغ قمة عطائه -وهو بعد في السادسة والثلاثين- يوم تربع للتدريس في هذه المدرسة الكبيرة، وقد حضر درسه المقادسة وكبار الحنابلة، ولولا المطر والوحل يومئذٍ لحضر أهل المدينة (2)، وهذا يدلنا أيضًا على مدى الشهرة التي أصابها وقتئذٍ، والمطَّلع على تاريخ هذه المدرسة يعرف أن كبار العلماء كان يدرِّس بها، وقد بلغت حدًّا كبيرًا في
(1)"البداية والنهاية": 14/ 189.
(2)
المصدر السابق.
الغنى من كثرة ما وقف عليها من أوقاف (1).
وقد درَّس أيضًا بالمدرسة الضيائية (2)، نسبة إلى بانيها ضياء الدين المقدسي، سِبْط أحمد بن محمد بن قدامة، وكان بها خزانة كتب عامة (3).
ويبدو أنه درس بالمدرسة الصبابية (4) بعد سنة (738 هـ)، لأنها فتحت في هذه السنة، وقد أنشأها تاجر اسمه تقي الدين بن الصباب، قبلي العادلية الكبرى في باب البريد، وكان مكانها خربة شنيعة (5).
ودرس أيضًا في المدرسة الصدرية، وقد سمع منه الذهبي حديثًا فيها (6).
وقد انفرد الحسيني بذكر مدرستين درَّس بهما، هما: المنصورية والغياثية (7)، أما المدرسة الغياثية، فلم أقع لها على ذكر في المصادر
(1) لم يبق من المدرسة العمرية في عصرنا إلا أطلال تشهد على عظمتها التي كانت، وقد سعى المرحوم الأستاذ أحمد قدامة جاهدًا لإعادة بنانها، وكم حدثني رحمه الله بحماسة عن مشروعه هذا، ولكن مات الأستاذ، وبقيت المدرسة أطلالًا! !
…
(2)
"ذيل تذكرة الحفاظ" للحسيني: 50.
(3)
"تنبيه الطالب"(الدارس): 2/ 91 - 99، "منادمة الأطلال": 242 - 243.
(4)
"ذيل العبر" للحسيني: 239.
(5)
"تنبيه الطالب"(الدارس): 1/ 128، "البداية والنهاية": 14/ 181، "منادمة الأطلال": 68 - 69.
(6)
"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 437.
(7)
"ذيل تذكرة الحفاظ" للحسيني: 50، وقد تابعه السيوطي في "ذيل طبقات الحفاظ": 351، لكن في "طبقات الحفاظ": 521 رسمت "الضيائية" والنص في كلا الكتابين واحد، مما يؤكد ما ذهبنا إليه.