الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
المسألة الثَّانية
"
حصول العلم عقيب التواتر ضروري. وقال أبو الحسين والكعبي وإمام الحرمين والغزالي (1) نظري وتوقف المرتضى فيه.
لنا: حصول هذا العلم لمن لا نظر له كالعامة والصبيان والبله.
فإن قيل: النظر فيه هو ترتب علوم بأحوال المخبرين، وهو سهل الحصول فلعله حصل لهم.
ثم إنَّه معارض بوجوه:
أ - أنا لا نعلم وجود المخبر عنه بالتواتر ما لم نعلم أنَّه لا داعي للمخبرين (2) من الكذب، ولا ليس في المخبر عنه، ومتى كان كذلك امتنع كون الخبر كذباً فهو صدق (3).
ب - لو كان ضرورياً لعلمنا بالضرورة كوننا عالمين به.
جـ - لو جاز أن يعلم غير المحسوس بالضرورة، لجاز أن يعلم المحسوس بالاستدلال.
والجواب عن:
أ (4) - أنا نبين غموض هذا الاستدلال.
ب (5) - أن أصل الشيء قد يعلم ضرورةً دون كيفيته.
جـ (6) - منع الجامع.
(1) اعترض الأسنوي على هذا النقل عن الغزالي حيث قال: إن مقتض كلامه في المستصفى موافقة الجمهور أي أنَّه ضروري. ونقل البدخشي عن ابن الحاجب أنَّه يميل لقول ثالث، وهو أنَّه ليس بضروري ولا نظري- انظر نهاية السول 2/ 218، المستصفى ص 156.
(2)
في "أ" للمخبر.
(3)
في (ب، د)(فهو نظري) بدل (فهو صدق).
(4)
في جميع النسخ ما عدا "أ" عن (أ، ب).
(5)
في جميع النسخ ما عدا "أ" عن "جـ".
(6)
في جميع النسخ ما عدا "أ" عن "د".
واستدل أبو الحسين على صدقه بأن أهل التواتر لا تكذب مع علمهم بكذبهم لا لغرض إذ الكذب جهة قبح مانعة من الفعل. ويمتنع الفعل مع المانع إلَّا لغرض أقوى، ولأنه يُترجح الممكن لا لمرجح ولا لغرض (1) هو كونه كذباً لأنَّه مانع لا داعي، ولا لغرض (2) غيره، إذ داعي ذلك إما رغبة وإما رهبة دينية أو دنيوية اتفق غرض الكل أو اختلف. ولا رغبة دينية للكل، لأنَّ قبح الكذب صادف ديني وفاقاً، ولا دنيوية لأنها رجاء لعوض أو إسماع غريب وكثير منهم لا يرضى بالكذب لهما، ولا رهبة دينية لما تقدم، ولا دنيوية فإنَّها تكون من السلطان وهو لعجزه عن جمعهم للكذب، فإنَّه قد يخوفهم عن حديث ثم يشتهر ولم تختلف أغراضهم، لامتناع تساوي أحوال جماعة عظيمة أبعاضها جماعات عظيمة في قوة هذه الدواعي ولا يكذبون لا مع علمهم بكذبهم، لأنَّ ذلك إنَّما يمكن (3) فيما يشتبه بغيره، والتواتر إخبارٌ عما علم وجوده بالضرورة، إذ شرطه استواء الطرفين والواسطة، ويعلم ذلك بإخبار كل لاحق من أهلية السابق للتواتر، أو بأن كل ما ظهر بعد خفاء أو قوي بعد ضعفٍ يجب اشتهار حدوثه ووقت حدوثه، كمقالات الجهمية (4) والكرامية (5)، وهذا ضعيفٌ إذ تقسيماته غير منحصرة. ولا قاطع بنفي كل
قسم.
(1) سقط من (أ، هـ)"هو".
(2)
سقط من (ب) لغرض.
(3)
في "أ"(يكون) بدل (إنَّما يمكن).
(4)
أصحاب جهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري سنة 124 هـ لإلحاده وزندقته. والجهم من الجبرية ظهرت بدعته بترمذ وقتله سلم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أميَّة. وافق المعتزلة في نفي الصفات الأولية. ونفى عن الله كل ما يوصف به خلقه كالعلم والحياة ويقول: إن الإنسان لا يقدر على شيء وتنسب له الأفعال مجازاً كما تنسب للجماد ويقول بفناء الجنَّة والنار، ويقول بأن الإيمان: هو المعرفة فقط. ولا فرق عنده بين إيمان الأنبياء والعامة ويقول بنفي الرؤية في الآخرة كالمعتزلة (الملل والنحل للشهرستاني 1/ 87).
(5)
هم فرقة من المرجئة ينتسبون إلى محمد كرام (بكسر الكاف وتخفيف الراء) أبي عبد الله السجستاني، المتوفى سنة 256 هـ كان داعياً إلى البدع، يقول بالتجسيم والتشبيه، وهم إثنتا عشرة فرقة انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/ 108، الفرق بين الفرق 130، مقالات الإسلاميين 135، المواقف 633، النجوم الزاهرة 6/ 198، الفرق الإسلامية للبشبيشي 59.
قوله: لا بد (1) لكذبهم من غرض. قلنا: لو كان كل فعل لغرض لزم الحبير لما سبق في أول الكتاب، وأنت (2) لا تقول به وإلَّا بطل قولك.
وقوله: ذلك الغرض لا يكون كونه كذباً ممنوع، فإنا نرى جمعاً عظيماً يعتادون الكذب حتَّى لا يصبروا عنه، وإن علموا أنَّه يضرهم عاجلاً وآجلًا.
وجوازه من البعض مع أن حكم الشيء وحكم مثله يقتضي (3) جوازه من الكل. كيف؟ ونحن نمنع القطع.
وقوله: لا رغبة دينية إذ الكذب صارفٌ ديني وفاقاً. قلنا (4): مطلقًا ممنوع، إذ كثير منهم يعتقد جواز الكذب المفضي إلى المصلحة، حتَّى يضعون (5) أحاديث في فضائل الأوقات والعبادات للترغيب فيها.
وقوله: الجمع العظيم لا يكذب إلَّا لعوض وإسماع الغريب. قلنا (6): يقينًا ممنوع فجوازه من العشرة والمائة يوجب جوازه منهم، ويؤكده أنَّه يجوز أن يكذب أهل بلد فيه وباب إذا علموا أن غيرهم لو سمعوا به لم يذهبوا إليه، واختلت معيشتهم وإن كثروا جداً.
وقوله: السلطان لا يمكنه إسكات الكل يقينًا ممنوع إذ جواز إسكات الألف والألفين يوجب جوازه في الكل. فإن قلتَ: أجد العلم الضروري بذلك. قلتُ هذا أضعف من العلم بوجود محمد وعيسى عليهما السلام فهو بالضروري أولى.
وقوله: لم تختلف أغراضهم ممنوع إذ ليس من شرط أهل التواتر كون كل بعضٍ (7) منهم أهل التواتر وإلا تسلسل.
(1) في (ب، جـ، د)(لابد لكل فعلٍ من غرض).
(2)
في "أ" وأنتم لا تقولون به.
(3)
في "أ" نقيض.
(4)
سقط من "ب" قلنا.
(5)
في "أ"(يصنفون) بدل (يضعون).
(6)
سقط من "ب" قلنا.
(7)
سقط من "أ" بعض.
وقوله: الاشتباه في المحسوس ممتنع ممنوع، فإن (1) الحيوانات تتشابه بحيث يعسر التمييز، وهذا في الإنسان وإن كان نادرًا لكنه جائز، وأيضًا غلط (2) الناظر مشهور والمسيح اشتبه بغيره قبل الصلب وإلَاّ لم يصلب. ومن اشتبه عليهم كانوا قريبين منه والنصارى يروون بالتواتر أنَّه بقي بعد الصلب وقبل الموت مدة طويلة، رآه جمع عظيم في النهار ونزل جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي (3).
فإن قلتَ: إنخراق العادةِ زمان النبوة جائز. قلت: أبو الحسين يجوِّز الكرامات بعده، وبتقدير امتناعها إنَّما يعرف بالبرهان، والعلم بخبر التواتر موقوف عليه، فوجب أن لا يعلم الخبر المتواتر من لم يعلمه ويؤكد احتمال الاشتباه تصور الإنسان عند شدة الخوف صوراً (4) لا وجود لها في الخارج.
سلمنا ذلك في الأمور المحاضرة (4) لكن تمنع في الماضية.
وقوله: كل لاحقٍ يخبر من أهلية السابق للتواتر بُهت (5) صريح، فإن أكثر الفقهاء والنحاة لا يتصورون هذه الدعوى، فكيف العوام؟ فامتنع أن يعلموا ذلك (6) ضرورة بل غايتهم سماعهم من قومٍ كثيرين.
قوله: ما ظهر بعد خفاء وقوي بعد ضعف، يجب اشتهار حدوثه ووقت حدوثه (7) منقوض باشتهار الأراجيف وبوقائع الأنبياء عليهم السلام مع كونها من الأمور (8) العظيمة.
(1) في "د"(قال) بدل (فإن).
(2)
في (جـ) المناظر.
(3)
هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي من مشاهير الصّحابة، كان يضرب فيه المثل في حسن الصورة، وكان جبريل عليه السلام ينزل على صورته عاش إلى خلافة معاوية.
انظر الإصابة 2/ 384، سير أعلام النبلاء 2/ 396، الأنساب للسمعاني 485، اللباب 2/ 46، حسن المحاضرة 1/ 195.
(4)
سقط من "هـ" سطراً من (صور) إلى (لكن تمنع).
(5)
في "ب، جـ، د"(كذب) بدل (بهت) وهما بمعنى واحد.
(6)
سقط من "أ" ذلك.
(7)
سقط من (ب، جـ، د) وقت حدوثه.
(8)
في "ب، جـ، د"(أصول) بدل (أمور).
فإن قلتَ: ذلك لتطاول الزمان وعدم الدواعي. قلتُ: هذا يقدح في التواتر في الأمور الماضية، إذ شرطه استواء الطرفين والواسطة، وقد تقل (1) الرواة ولا يثبت ذلك، إلّا بأنه لو كان موضوعًا لاشتهر الوضع وزمانه، وذلك غير واجبٍ بعد طول المدة.
ثم ما ذكرتم معارض بوجوه:
أ - ما يفيده التواتر ليس علماً ضرورياً لما سلمتم، ولا نظرياً لحصوله لمن لا نظر له.
ب - أن ذلك يتوقف على عدم اشتباه محسوس وقد بيَّنا اشتباهه.
جـ - أنَّه إن حصل العلم مع جواز أن لا يحصل امتنع القطع بإفادته العلم، وإن حصل العلم (2) مع الوجوب فالمؤثر فيه لا يجوز أن يكون قولَ كلٍ واحد، إذ قول الواحد لا يفيد العلم، ولأنه إن حصل قول الكل دفعة اجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة، وإن حصل على التعاقب لزم تحصيل الحاصل، أو اجتماع المثلين. ولا يجوز أن يكون قول المجموع؛ لأنَّه لو لم يحدث عند الاجتماع ما لم يكن عند الانفراد لم يكن المجموع مؤثراً. وإن حدث عاد الكلام فيه وتسلسل، ولأن المؤثريَّة صفة وجودية لأنها نقيض اللامؤثرية (3). فاتصاف المجموع بها يوجب حلول الصفة الواحدة في محال كثيرة، ولأن التواتر غالبًا يكون بوجود خبر بعد خبر. فلم يكن للمجموع وجود فلم يكن مؤثراً، ولأن كل واحد من الزنج لما لم يكن أبيض امتنع كون الكل أبيض كذلك ههنا.
د - أن المؤثر إما آحاد الحروف أو المجموع وهما باطلان. أو الحرف الأخير بشرط وجود الباقي قبله، وأنه يوجب حصول المشروط عند عدم الشرط، أو هو بشرط مسبوقيته بالباقي، والمسبوقية عدمية وإلَّا كانت حادثة مسبوقة، وتسلسل والعدمي لا يكون جزء العلة ولا شرطها.
(1) في "هـ"(في نقل) بدل (وقد تقل).
(2)
سقط من (د، هـ) العلم.
(3)
في "أ" تقتضي اللامؤثرية.
هـ - حجة من منع إفادته العلم في الأمور الماضية أن التواتر حصل في أمورٍ ماضية، كنقلِ اليهود والنصارى والمجوس (1) والمانوية (2) مع كثرتهم وتفرقهم شرقاً وغرباً أخبارًا من أمورٍ باطلةٍ عندنا قطعاً.
فإن قلتَ استواء الطرفين والواسطة مفقود فيهم (3) إذ قلَّ عدد اليهود في زمان بختنصر (4)، والنصارى كانوا قليلين ابتداءً. وكذا القول في البواقي قلتُ: طريق العلم إلى الاستواء: إما نقل كل لاحق أهلية السابق للتواتر، وهم يدعون ذلك (5) ادعاء المسلمين وتكذيب أحدهما تكذيب الآخر. وأمَّا الخبر لو كان موضوعًا لَعُرِفَ وقد عرف (6) ضعفه وتصحيح جميع الفرق
تواترهم به (7). قوله لم يبقَ من اليهود عدد التواتر ممنوع، إذ فناء الأمة العظيمة المتفرقة شرقاً وغرباً إلى هذا الحد ممتنع. قوله: النصارى كانوا قليلين ابتداءً ممنوع، وإلا لم يبقَ شرع عيسى عليه السلام حجة إلى ظهور شرعنا، واتفق المسلمون على بطلانه.
وأعلم أن فساد بعض هذه الأسئلة والمعارضات أظهر من صحته، لكنا ذكرنا لبيان غموض هذا الاستدلال وخفائه بالنسبة إلى وجود محمد عليه السلام ومكة وأنه بناء (8) الواضح على الخفي وأن الحق مذهبنا.
(1) هم فرقة لها شبهةكتاب، وورد في الأثر أنَّه كان لهم كتاب فأسريَ على كتابهم، وقد عاملهم الرسول صلى الله عليه وسلم معاملة أهل الكتاب في أخذ الجزية. وبعد أن أُسري على كتابهم ضلوا، فاثبتوا أصلين إثنين مدبِّريْن قديمين يقتسمان الخير والشر والنفع والضر والصلاح والفساد، يسمون أحدهما النور والآخر الظلمة، وهم ينقسمون إلى فرقٍ كثيرةٍ جداً. انظر الملل والنحل للشهرستاني ص 37 وما بعدها.
(2)
أصحاب ماني بن فاتك الثنوي القائل بقدم النور والظلمة. وأنها أصل الكائنات، ويقولون: بتناسخ الأرواح الضَّالة وهي طائفة من المجوس، انظر مذهبهم في الملل والنحل للشهرستاني 2/ 49، الفرق بين الفرق 162، الحور العين 139، الفرق الإسلامية للبشبيشي ص 86.
(3)
في (ب)(بنفيهم) بدل (فيهم).
(4)
انظر ترجمته في صفحة (2/ 12) من هذا الكتاب.
(5)
سقط من (د) ذلك.
(6)
سقط من "أ" وقد عرف.
(7)
سقط من "أ" سطر من (لم يبق .. ممتنع).
(8)
في "هـ"(بني) بدل (بناء).