الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَتَغَيَّرُ كل يوم من حالٍ إلى حال، ولكنه مُتَّجِهٌ نحو الولادة؛ فلا يخرج التغير اليومي على التوجه للولادة، وكما لا تنفصل الولادة عن لحظة الجماع الأولى؛ لا تنفصل الساعة عن بدء الخلق" (1).
كل ما هو آتِ قريب
والبعيد: ما ليس بآتِ
قال العلَّامة محمد بن إسماعيل الصنعاني -رحمه الله تعالى-:
"والإخبار عن قربها -أي: الساعة- من مبعثه صلى الله عليه وسلم يحتمل أنه إخبار عن قربها عند الله تعالى، وإن كانت بعيدة في المدة، ردَّا لقول المشركين بأنه لا قيام لها، وإليه أشار قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} [المعارج: 6، 7]، فإنه أخرج عبد بن حميد عن الأعمش: "يرونه بعيدًا، قال: الساعة".
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)} قال: "تكذيبهم"، {وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} قال:"صدقًا كائنًا".
ويحتمل أن المراد قربُ أشراطها من بعثته صلى الله عليه وسلم" (2). اهـ
ثم ذكر بعض ما وقع من الأشراط، وبيَّن أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم:"بُعثت أنا والساعة كهاتين" أي: "أنا وأشراط
(1)"علامات الساعة" ص (29).
(2)
"رسالة شريفة" ص (53).
الساعة"، وقال: "وتقدير المضاف للقرائن ثابت لغة كتابًا وسُنَّةً لا نكير فيه" إلى أن قال -رحمه الله تعالى-: "ثم إنه يدل لتقدير المضاف أمر آخر، وهو أنه قد مضى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم قريب من اثنتي عشرة مائة، ولم تقم الساعة، فلا قرب لقيامها ببعثته بل بأشراطها، والله أعلم" (1). اهـ.
إن القرون -التي يستطيلها الإنسان الذي خُلق مِن عَجَل- ما هي في عمر الدنيا إلَّا لحظات، وقيام الساعة قريبٌ في علم الله تعالى، وتقديره، وإن كانت المقاييس البشرية -لو اطلعت عليه- تراه بعيدا، قال تعالى:{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} [المعارج: 6، 7]؛ فكل ما هو آتٍ قريب، والبعيد ما ليس بآت (2)، وإن عامة نصوص الوحيين التي تدل على اقتراب الساعة، وأشراطها الكبرى - يجب أن تُفْهَمَ في ضوء هذه "النسبية" بين ما مضى من عمر الدنيا، وبين ما بقي منه؛ وَلَمَّا كنا لا ندري كم عمر الدنيا؛ صِرْنَا لا نستطيع الجزمَ بموعد انتهائه؛ لكننا نستطيع فقط أن نستنتج من تلك النصوص أن ما بقي بالنسبة إلى ما مضى شيء يسير، لكن -لا يَعْلَمُ مقدارَ ما مضى، وما بقي إلَّا علَّامُ الغيوب، الذي وسع كل شيء علمًا- سبحانه وتعالى.
(1)"نفسه" ص (55،54).
(2)
ولو أنك أجَّلتَ مَن استدان منك أجلًا طويلًا- كأن تؤجله خمسين سنة مثلًا- فعند انقضاء خمس وأربعين سنة، تقول: إن موعد السداد قد اقترب؛ أي: بالنسبة لما مضى من الموعد المضروب.
وقد كَثُرَ ضرب الأمثال لهذه "النسبية" في الأحاديث النبوية الشريفة؛ ومن المعلوم أن الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي تَرِدُ لضرب الأمثال؛ كما قال إمام الحرمين -رحمه الله تعالى- (1).
قال الأستاذ سعيد حوى -رحمه الله تعالى- في معرض حديثه عن علامات الساعة: "وبعض الناس تَغْلِبُ عليهم أغلاط في فَهْمِ بعض هذه العلامات، أو في تقدير وقتها؛ إذ إن:
- منها ما يكون قرب الساعة بقليل جدًا قبل المسيح بسنوات أو معه، ومنها ما يكون قبل ذلك بكثير جدَّا؛ فيغلطون بالجمع بينهما.
- ومنها ما لا تدل عليه المقدمات الحاضرة، فيغلطون في تأويلها.
- ومنها ما جعلهم عصرنا الحاضر، ومخترعاته يفهمونها فَهْمَا عاديا وهي خوارق.
- ومنها ما هو دليلٌ على الخيرية يظنونه مذمومًا.
فمثلًا: يَظُنُّ الناس أن الدين إلى انحسارٍ حتى خروج المهدي، مع أن المهدي قبل عيسى بقليل، وقبل ذلك يعم الإسلام العالم، وتفتح روما (2)،
(1) نقله عنه المناوي في "الفيض"(566/ 2).
(2)
يشير إلى ما رواه الإمام أحمد (2/ 176)، والدرامي (1/ 126)، والحاكم (3/ 422)، (508/ 4)، وصححه، ووافقه الذهبي عن أبي قبيل، قال:"كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وسئل: "أي المدينتين تفتح أوَلَا: القسطنطينية أو رومية؟ "، فدعا عبد الله بصندوق له حِلَق، قال: فأخرج منه كتابَا، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نكتب؛ إذ سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أي المدينتين تُفتح أولًا: أقسطنطينية أو رومية؟ "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَدِينَة هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا"؛ يعني "قسطنطينية". و"رومية": هي "روما" عا صمة إيطاليا، و"قسطنطينية" هي "بيزنطة" و"إسطنبول". والحديث صححه الألبإني في "الصحيحة" رقم (4).
والقسطنطينية اليوم مسلمة، وكانت كافرة، ففتحت (1)، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح الأول، ولكن يبدو أن القسطنطينية سترجع كافرةً مَرَةً ثانية (2)، وتفتح من جديد (3)، وفتحها الثاني يكون قُبيل المسيح بقليل، والناس لا يفرقون بين فتحَيْها الأول والثاني.
(1) وذلك بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح؛ أي في سنة (857هـ)، (1453م)، على يد السلطان محمد الفاتح العثماني -رحمه الله تعالى-.
(2)
قال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله تعالى-: "وورد أن من أشراط الساعة فتحَ القسطنطينية، وهو في الصحاح، قال شيخ شيوخنا العلَّامة الشيخ محمود نشابة: (معناه: أن العرب يفتحونها من أشقياء الترك)، ولم يكن الشيخ من أهل السياسة، ولا كان في زمنه شيءٌ من التعادي بينهم وبين العرب، دع ما فعلته الحكومة التركية في هذا الزمان، من ترك شريعة الإسلام، وكان مسلمو الترك يحملون الأحاديث على فتح السلطان محمد لها، ولكنها صريحة في أن فتحها يتلوه في عهده ظهور الدجال". اهـ. من "تفسير المنار"(9/ 406).
وقال العلَّامة أحمد شاكر -رحمه الله تعالى-: "فتح القسطنطينية المبشر به في الحديث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد، يعلمه الله عز وجل وهو الفتح الصحيح لها؛ حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه، وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا هذا؛ فإنه كان تمهيدًا للفتح الأعظم، ثم هي قد خرجت بعد ذلك من أيدي المسلمين، منذ أعلنت حكومتهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية، وعاهدَت الكفارَ أعداءَ الإسلام، وحُكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية الكافرة، وسيعود الفتح الإسلامي لها -إن شاء الله- كما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم". اهـ. من حاشية "عمدة التفسير"(256/ 2)
(3)
كأن الشيخ -رحمه الله تعالى- يقصد الإشارة إلي، ما ورد في صحيح مسلم؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (18/ 21، 22 - نووي)، وفيه التصريح بفتح "القسطنطينية" من جديد، وقد يكون قد قصد رحمه الله ثعالى- الإشارة إلى حديثه رضي الله عنه الذي قد رواه مسلم أيضًا (2920)، عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= "سَمِعْتُمْ بِمَدِينَة؛ جَانِبْ مِنْهَا في البرِّ، وَجَانِب مِنْهَا في الْبَحْرِ؟ "، قالوا: نعم، يا رسول الله، قال:"لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَني إِسْحَاقَ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ، وَلم يَرْمُوا بِسَهْم، قَالُوا: لَاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا"، الحديث، وعلق الأستاذ عادل زكي على هذا الحديث، فقال: "ومعنى ذلك: أن هذه المدينة -وهي القسطنطينية على الأرجح- ستفتح رعبَا، والنصر بالرعب مما أكرم الله تعالى به نبي هذه الأمة، ففي الحديث:
"نُصِرتُ بالرعب مسيرة شهر" متفق عليه، وإلقاء الرعب في قلوب أعداء المسلمين مما يكرم الله تعالى به هذه الأمة، فالله تعالى يقول:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12] ". اهـ.
وقال -وفقه الله تعالى-: (المعروف أن القسطنطينية أو استانبول حاليا ترتبط بالبحرين الأسود ومرمرة، وتطل في الوقت نفسه على البحر المتوسط، كما أن خليج البوسفور يقسمها إلى قسمين أوروبي وآسيوي، والوصف الموجود في الحديث للمدينة قد ينطبق على غير القسطنطينية، بل إنه قد يكون أشد انطباقا على مدن أخرى، فالوصف الذي وصفه القزويني لروما قديمًا كما لو كان مصمَّمًا ليدل على الوصف الموجود في الحديث .. فهو يقول في "آثار البلاد وأخبار العباد" ص (591): "روما هي مدينة لها ثلاثة جوانب في البحر والرابع في البرد" وأستطيع أن أفهم أن القزويني ربما عني بروما إيطاليا كلها الآن فهي على هذه الصفة، وربما كانت روما قديمًا على البحر بهذه الصفة وذلك لأنها الآن ليست على البحر، وربما عني مدينة البندقية الإيطالية التي ينتقل الناس بين شوارعها بالقوارب). اهـ. من "المهدي: دولة الإسلام القادمة" ص (172، 173).
وقال الدكتور عمر الأشقر -حفظه الله تعالى-: "ذهب العلماء إلى أن هذه المدينة هي (القسطنطينية)، وإن لم يسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خطر ببالي أن هذه المدينة قد تكون "البندقية" في إيطاليا؛ فإن جزءًا كبيرا من بيوتها مبنيٌّ في داخل البحر، وجزء في البر، وقد نظرت إلى المدينتين خلال زيارتي لكل واحدةٍ منهما؛ فرأيت "البندقية" أقربَ إلى المراد بالحديث، والله أعلم". اهـ. من "القيامة الصغرى" ص (230)، وعلي أي حال فلا يمكن الجزم في مثل هذا، والعلم عند الله تعالى.
والظاهر كما أن مدنيات قديمة كثيرة قد اندرست على مر العصور؛ فإن مدنيتنا الحاضرة لن تستمر؛ إذ إن النصُوص الكثيرة تفيد أن الناس قبل قيام الساعة لن يكونوا على شيء من العلم (1)، وهذا يؤكد أن بيننا، وبين القيامة شيئا من الفترة الزمنية الله أعلم به، ولكن أشراطًا كثيرة وردت في السنة الثابتة لم تقع، ويبدو أن وقوعها يحتاج إلى زمان طويل، والمسألة -بعد ذلك كله- هكذا:
- ما ورد من علامات الساعة؛ إن كان وقع، فهو معجزة، وقد رأينا نماذجه في النبوءات.
- وما ورد من علاماتها مما لم يقع؛ فالإيمان به واجب، والله أعلم بزمانه، وظروفه، وكيفية وقوعه.
- ولن تقوم الساعة حتى تستنفد علاماتها، وأشراطها التي وردت في الكتاب، والسُّنَّة. وشيء ننبه إليه هو: أن لا يدفعنا واقع عصرنا إلى تأويل شيء من علامات الساعة التي لم تقع؛ لأن واقع عصرنا، وما فيه قد ينتهي بحرب ذرية تعود الإنسانية فيها إلى بدايتها الأولى، ولا يبقى فيها إلَّا الجاهلون" (2). اهـ.
(1) انظر: "القيامة الصغرى" للدكتور/ عمر الأشقر -حفظه الله تعالى- (ص 274، 275).
(2)
"الإسلام"(4/ 85).