الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثاني
في وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَعَدَمِ مُنَافَاةِ ذَلِكَ لِلتَّوَكُّلِ
(1)
قال الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا} [النساء: 71]، وقال سبحانه:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]،
وقال -عزَّ
وجلَّ-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [الملك: 15]، وقال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين]، وقال سبحانه:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} [الصافات: 61]،
وقال -جلَّ وعلا-: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 19]، وقال تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، وقال تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159].
وأمر الله مريم عليها السلام أن تأخذ بالأسباب، وهي في أشد
ضعفها، فقال عز وجل:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} [مريم: 25].
(1) التوكل شرعًا: هو الثقة بالله، والإيقان بأن قضاءه ماضٍ، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لابد منه من الأسباب، انظر "تفسير القرطبي"(4/ 189).
ومن التوكل على الله: أن يراعيَ الإنسانُ الأسبابَ الظاهرة، ولكن لا يُعَوِّل بقلبه عليها، بل يعول على الله تعالى.
ألم تر أن الله قال لمريم
…
وهُزِّي إليكِ الجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبُ ولو شاء أن تجنيه مِن غيرِ هَزِّهِ
…
جَنَتْهُ ولكنْ كلُّ شيءٍ له سببُ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعِدُّ لكل أَمْرٍ عُدَّتَهُ، ويرسم له خُطَّتَهُ، كما حدث في رحلة الهجرة؛ فقد أَعَدَّ الرواحِلَ والدليلَ، واختارَ الرَّفِيقَ، وَحَدَّدَ مكانَ الاختفاء إلى أن يهدأ الطلب، وأحاط ذلك كله بسياجٍ من الكتمان، وكذلك كانت سيرته في غزواته كُلِّهَا، وعليه رَبَّى أصحابه الكرام، فكانوا يَلْقَوْنَ عدوهم متحصنين بأنواع السلاح، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، والبيضة على رأسه، مع أن الله سبحانه وتعالى قال:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وكان إذا سافر في جهاد، أو حج، أو عمرة، حمل الزاد والمزاد.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "فحال النبي صلى الله عليه وسلم، وحال أصحابه، مَحَكُّ الأحوال، وميزانها، بها يُعْلَمُ صحيحُها من سقيمها، فإن هِمَمَهُمْ كانت في التوكل أعلى من همم مَن بعدهم"(1).
وقال سهل: "من قال: التوكل يكون بترك العمل، فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2).
فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أن الأخذ بالأسباب لا يُنافي التوكل على الله سبحانه وحده؛ فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ:«اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» (3).
(1)"مدارج السالكين"(2/ 135).
(2)
"تفسير القرطبي"(4/ 189).
(3)
رواه الترمذي رقم (537)، (4/ 668)، وابن حبان في "صحيحه" رقم (2549)، "موارد" ص (633)، وقال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار":"إسناده جيد"(4/ 279)، بهامش "الإحياء".
وعن أمير المؤمنين عمر-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» (1)، وهو ظاهر في أن التوكل يكون مع السعي، لأنه ذكر للطير عملًا، وهو الذهاب صباحًا في طلب الرزق، وهي فارغة البطون، والرجوع وهي ممتلئتها.
قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "ليس في الحديث دلالة على القعود عن الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق؛ لأن الطير إذا غدت فإنما تغدو لطلب الرزق"(2).
وقيل للإمام أحمد -أيضًا-: ما تقول فيمن جلس في بيته ومسجده، وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتي رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجلُ جَهِل العلم، أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم:"جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي"(3)؟!
وقال صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» (4).
(1) رواه الإمام أحمد (1/ 30، 52)، والترمذي رقم (2344)(4/ 573)، وقال:"حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وابن ماجه رقم (4164)(2/ 1394)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 381)، وصححه، ووافقه الذهبي، ورواه أبو نعيم في "الحلية"(10/ 69).
(2)
"شعب الإيمان"(2/ 66، 67).
(3)
رواه البخاري رقم (4/ 40).
(4)
أخرجه البخاري (3/ 335 - سلفية)، ومسلم (2/ 721).
وقال صلى الله عليه وسلم: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ"(1) الحديث.
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: لَمَّا أَدْبَرَ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» (2).
ونَدَّدَ عمر رضي الله عنه بالكسالى القاعدين عن طلب الرزق، فقال: "لا يَقْعُدَنَّ أحدُكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تُمْطِرُ ذهبًا، ولا فِضَةً، وإن الله تعالى يقول:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10].
قالوا جُدودٌ (3) وأقسامٌ فقلتُ لهم
…
بلى ولكن علينا السعيُ والطلبُ
وللمطالبِ أسبابٌ فقدَّرةٌ
…
وبعض سعيِكَ في مطلوبك السببُ
لقد كانوا يُدْرِكُونَ أن لله تعالى سُنَنًا في هذا الكون، وفي حياة البشر، غير قابلة للتغيير، ومع أن لله سبحانه سننًا خارقةً لا يعجزها شيء، إلَّا
(1) رواه مسلم رقم (2664)، (4/ 2052)، وابن ماجه في "المقدمة" رقم (79)، (1/ 31)، والإمام أحمد (2/ 366، 370).
(2)
رواه الإمام أحمد (6/ 24، 25)، وأبو داود رقم (3610)، وضَعَّفَهُ النووي في "الأذكار"، وقال المنذري:"في إسناده بقية بن الوليد، وفيه مقال"، وضَعَّفَهُ الألباني في "تحقيق الكلم الطيب" ص (79).
(3)
الجُدود: جمع جَدٍّ، وهو الحظ والبخت.
أن الله عز وجل قضى أن تكون سنته الجارية هي الأصل الثابت في الحياة الدنيا، وأن تكون سُنَّته الخارقة استثناءً من هذا الأصل، وكلتا السُّنَّتين مرتبطة بمشيئته جل وعلا؛ ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يحترمون السنن، ويأخذون بالأسباب دون تعليق القلوب بها، أو التوكل عليها؛ لأن الله عز وجل أمرهم بها، وعَلَّمهم أن الوصول إلى نتيجة معينة في واقع حياتهم مَنُوطٌ بالأخذ بالأسباب المؤدية إليها، وعلى ذلك جرت سُنَّة الله سبحانه في خلقه.
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "واعلم أن تحقيق التَّوَكُّلِ لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها، وجرت سُنَّته في خلقه بذلك؛ فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له، والتوكل بالقلب عليه إيمانٌ به"(1).
ولنا أن نتخيل الحال التي كان يمكن أن يئول إليها مصير الدعوة والأمة؛ لو أن الأجيال السابقة أصغوا إلى نداءات الاستسلام، وأحلام الانتظار حتى يخرج المهدي، هل كانوا سيهزمون التتار والصليبيين، ويفتحون القسطنطينية؟!
(1)"جامع العلوم والحكم" ص (409).