الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
الغُلُوُّ في تَقبُّلِ الإِسْرائيليَّاتِ
(1)
تمتلئ كتب "العابثين بأشراط الساعة" بعشرات الأخبار الإسرائيلية المنقولة عن كتب اليهود والنصارى، وقد فصَّل العلماء الموقف من هذه الإسرائيليات، وبينوا أنها على ثلاثة أقسام (2):
الْقِسمُ الْأَوَّلُ
ما علمنا صحته مما بأيدينا من القرآن والسنة، والقرآن هو الكتاب المهيمن، والشاهد على الكتب السماوية قبله، فما وافقه فهو حقٌّ وصدق، وما خالفه فهو باطل وكذب، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
(1) الإسرائيليات: جمع إسرائيلية، نسبة إلى بني إسرائيل؛ والنسبة في مثل هذا تكون لِعَجُزِ المركب الإضافي، لا لصدره، وإسرائيل هو يعقوب عليه السلام أي: عبد الله؛ وبنو إسرائيل هم: أبناء يعقوب، ومن تناسلوا منهم فيما بعد إلى عهد موسى، ومن جاء بعده من الأنبياء، حتى عهد عيسى عليه السلام وحتى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وانظر:"الإسرائيليات، والموضوعات في كتب التفسير"، ص (21).
(2)
انظر: "التفسير والمفسرون"، (1/ 165 - 183)، و"الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير"، ص (150 - 156).
وهذا القسم صحيح وفيما عندنا غُنْيَة عنه، ولكن يَجوز ذكره، وروايته للاستشهاد به، ولإقامة الحجة عليهم من كتبهم؛ وذلك مثل ما ذُكر في صاحب موسى عليه السلام وأنه الْخَضِرُ، فقد ورد في الحديث الصحيح، ومثل ما يتعلق بالبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبرسالته، وأن التوحيد هو دين جميع الأنبياء، مما غفلوا عن تحريفه، أو حرفوه، ولكن بقي شعاع منه يدل على الحق.
وفي هذا القسم: ورد قوله صلى الله عليه وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (1)، قال الحافظ في "الفتح":"أي: لا ضيق عليكم في الحديث عنهم؛ لأنه كان تقدَّم منه صلى الله عليه وسلم الزجر من الأخذ عنهم، والنظر في كتبهم، ثم حصل التوسع في ذلك، وكان النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية؛ خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك؛ لما في سماع الأخبار التي كانت في زمنهم من الاعتبار"(2).
الْقِسمُ الثَّانِي
ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه؛ وذلك مثل ما ذكروه في قصص الأنبياء، من أخبار تطعن في عصمة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كقصة يوسف، وداود، وسليمان، ومثل ما ذكروه في توراتهم: من أن الذبيح إسحاق، لا إسماعيل، فهذا لا تجوز روايته وذكره، إلَّا مقترنًا
(1) رواه البخاري (3461)، (6/ 496 - فتح).
(2)
"فتح الباري "، (6/ 498).
ببيان كذبه، وأنه مما حرفوه وبدلوه، قال تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41].
وفي هذا القسم: ورد النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عن روايته، والزجر عن أخذه عنهم، وسؤالهم عنه، قال الإمام مالك -رحمه الله تعالى- في حديث "حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ": المرادُ جوازُ التحدث عنهم بما كان من أمر حَسَنٍ، أَما ما عُلِمَ كذِبُهُ فلا (1).
ولعل هذا هو المراد من قول ابن عباس رضي الله عنهما:
" يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ (2) الأَخْبَارِ بِاللَّهِ، مَحْضًا لَمْ يُشَبْ (3)، وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ: أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَغَيَّرُوا، فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الكُتُبَ، قَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَوَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ العِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟ فَلَا وَاللَّهِ، مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ "(4).
(1)"نفسه"(6/ 498،499).
(2)
أحدث: آخر الكتب السماوية نزولًا من عند الله -تعالى- وفي رواية: "أحدث الأخبار بالله".
(3)
لم يُشَب: لم يُخْلَط بغيره قط؛ لأنه محفوظٌ من التبديل والزيادة.
(4)
رواه البخاري في صحيحه (2685)(5/ 291 - فتح)، (7523)، (13/ 334،333)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ
ما هو مسكوت عنه: لا من هذا، ولا من ذاك، فلا نؤمن به، ولا نُكَذِّبُهُ؛ لاحتمال أن يكون حقّا فنكذبه، أو باطلًا فنصدقه، ويجوز حكايته لما تقدم من الإذن في الرواية عنهم (1).
ولعل هذا القسم هو المراد بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ» وَقُولُوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136](2)، ومع هذا فالأولى عدم ذكره، وأن لا نضيع الوقت في الاشتغال به (3)، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: (وَرَدَ حديث أخرجه الإمام أحمد، وابن أَبي شيبة والبزار، من حديث جابر: أن عمر أَتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أَصابه من بعض أَهل الكتاب، فقرأَه عليه، فغضب، وقال:"لقد جِئْتكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لا تَسْأَلُوهُم عَنْ شَيءٍ فيُخْبِرُوكُم بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِباطِلٍ، فَتُصَدِّقُوا به، والذي نَفْسِي بِيَده، لَوْ أن مُوسَى كَانَ حَيُّا مَا وَسِعَهُ الَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي"، ورجاله موثقون: إلَّا أن في مجالدٍ -أحدِ رواته- ضَعْفًا، وأخرج البزَّارُ أيضًا من طريق عبد الله بن ثابت الأَنصاري: أَن عُمَرَ نسخ
(1) انظر: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" للإمام المفسر برهان الدين البقاعي، (1/ 272 - 277).
(2)
رواه البخاري (7362)، (13/ 333 - فتح).
(3)
وهذا القسم غالبه مما ليس فيه فائدة تعود إلى أمر ديني مما أبهمه الله تعالى في القرآن، ولا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم، أو دنياهم.