الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض الناس حاول تحديد عمر هذه الأمة عن طريق "عدد أبي جاد"، ثم قال:"وقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عَدِّ أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد؛ فإنه لا أصلَ له في الشريعة"(1)، وقال -أيضًا-:"وأما عَدَدُ أبي جاد فليس بِلُغَوِيٍّ، ولا شرعي، بل هو اصطلاح يهودي"(2).
أَصْلُ طَرِيقَةِ "حِسَابِ الْجُمَّلِ
"
التي اعتمد عليها البعض في تحديد عمر الدنيا، وبعض أشراط الساعة، وبيان بدعية اعتمادها في تفسير فواتح السور: رُوِيَ أن أول من أدخل حساب الجُمَّل في تأويل حروف المعجم التي وردت في أوائل السور هم اليهود -لعنهم الله- كيدًا للإسلام وأهله، وأن حُييَّ بن أخطبَ عَدَّ جملة السنين التي تدل عليها هذه الحروف، وحسب عمر الأمة المحمدية؛ طبقًا لحساب الجُمَّل، غير أن هذا الحديث ضعيف (3)، ولو صح؛ فكيف يكون لنا في هذا اليهودي أسوةٌ؟
(1)"نفسه"(9/ 396).
(2)
"نفسه"(9/ 397).
(3)
رواه -مختصرا- البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 2/ 208)، والطبري في "التفسير"(1/ 216) رقم (246) من طريق ابن إسحاق بأسانيد ضعيفة مضطربة، وقال ابن كثير:"وهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي؟ وهو ممن لا يُحتج بما انفرد به، بل قد رُمي بالكذب"، وقال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- عند ذكره الخلاف في تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور:"وقال بعضهم: هي حروف من حساب الجُمَّل، كرهنا ذكر الذي حُكي ذلك عنه؛ إذ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله". اهـ من تفسير الطبري (1/ 208).
ولقد ذهب البعض إلى أن "المتشابهات" الواردة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية [آل عمران:7]، يُرَادُ بِهَا "الحروف المقطعة في أوائل السور"، وحكى الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- قَوْلَ من ذهب إلى أن الحروف المقطعة في أوائل السور من "المتشابه" وقولهم في تعليل ذلك:"لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجُمَّل"، ثم قال -رحمه الله تعالى-:"وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طَمِعوا أن يدركوا مِن قِبَلها معرفة مدة الإسلام وأهله، ويعلموا نهاية أُكْلِ (1) محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؛ فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أن ما ابتغوا علمه من ذلك من قِبَل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه، ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله".
ثم قال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: "وهذا القول أشبه بتأويل الآية"(2).
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا رَأَيْتِ (3) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ؛ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ؛ فَاحْذَرُوهُمْ":
(1) الأُكْل: مدة العُمُر.
(2)
"جامع البيان عن تأويل آي القرآن"(6/ 179، 180).
(3)
بكسر التاء؛ لأنه كان يخاطب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
"والمراد التحذير من الإصغاء إلى الذين يَتَّبِعُونَ المُتَشَابِهَ من القرآن، وأول ما ظهر ذلك من اليهود؛ كما ذكره ابن إسحاق في تأويلهم الحروف المقطعة، وأن عددها بالجُمَّل مقدار مدة هذه الأمة"(1).
وإن مما يُؤْسَفُ له أن فكرة "حساب الجمَّل" هذه انتقلت إلى بعض كتب التفسير التي تَقَبَّلَتْهَا دون رَوَّية؛ ولهذا استخرج بعض أئمة المغرب من: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} [الروم: 1، 2] فتح بيت المقدس، واستنقاذه من يد العدو في سنة معينة (2).
وقال العز بن عبد السلام عند تفسيره {الم (1)} [البقرة:1]: "هي حروف من حساب الجُمَّل"، ثم ذكر حكاية حُييِّ بن أخطب مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال السهيلي: "لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر؛ للإشارة إلى بقاء هذه الأمة"(3).
ونقل السيوطي عن أبي الفضل المرسي قوله في الحروف المقطعة: "وإن فيها ذكر مدد، وأعوام لتواريخ أمم سالفة، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة، وتاريخ مدة أيام الدنيا، وما مضى وما بقي مَضْرُوبٌ بعضها في بعض"(4).
(1)"فتح الباري"(8/ 211).
(2)
"الحروف المتقطعة" ص (56)، نقلَا عن "البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن" ص (60).
(3)
"الإتقان في علوم القرآن"(2/ 10).
(4)
"نفسه"(2/ 128).
ويقول السهيلي (1) كذلك تعليقًا على الحساب اليهودي: "وهذا القول من أحبار يهود، وما تأولوه من معاني هذه الحروف محتمل- حتى الآن- أن يكون من بعض ما دلت عليه الحروف المُقَطَّعَة
…
".
ولقد أدى تَسَربُ هذه الفكرة إلى أن توقع بعض العلماء انقضاء هذه الأمة المحمدية بعد الخمس مائة سنة الأولى، وها نحن الآن في عام 1428هـ، والأمة باقية بحمد الله -تعالى-، ومَنِّه، وكرامته، وهي تزيد عددًا، ويكثر أتباع دين الحق.
يَقُولُ الدُّكتُورُ مُحَمَّدُ أَبُو فراخ مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا المسْلَكِ:
"وإني لأعجب أشد العجب من قوم يَعْلَمُون أن الله -تعالى- قد استأثر بعلم الغيوب، ورأوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه قال في شيء من ذلك كلامًا صريحًا؛ كيف يشقون على أنفسهم، ويتحملون العناء؛ ليذكروا من هذا ما لا يقبله العقل، ولا يطمئن إليه، ثم إنهم إذا أرأدوا أن يجعلوا الحروف التي وقعت في أوائل السور تدل -فيما تدل عليه- على ذلك المعنى، لماذا اقتصروا على بعضها دون بعض؟ وَهَلَّا جمعوها كلها؛ سواءٌ أتكَررت، أم لم تتكرر، ثم ذهبوا إلى أن مجموع جميعها هو المقصود" إلى أن قال: "وبعد؛ فإنَّا لا نسيغ لأنفسنا، ولا نرضى لأحدٍ سوانا أن يخوض في هذا، وفيما أشبه هذا؛ فإن علم ذلك كله عند الله وحده"(2).
(1) وعلَّق الحافظ ابن حجر على موقف السهيلي هنا بقوله: "ولم أذكر ذلك -أي تطبيق حساب الجمَّل على الحروف المقطعة- ليُعتمد عليه؟ إلا لأبين أن الذي جنح إليه السهيلي لا ينبغي الاعتماد عليه لشدة التخالف فيه". اهـ من الفتح (11/ 352).
(2)
"الحروف المتقطعة" ص (59).
ثم قا ل: "قال الخويبي: وقد استخرج بعضهم من {الم (1)} [الروم:1] فتح بيت المقدس؛ يفتحه المسلمون في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، ووقع كما قاله"، ويوضح ابن عربي الكيفية التي تَمَّ بها ذلك الحساب الغريب، فَارْجِعْ إلى "روح المعاني" في ذلك إن شئت".
وذكر بعضهم أن "طه" معناه: يا بدر؛ لأن الطاء بتسعة، والهاء بخمسة؛ فذلك أربع عشرة؛ إشارةً إلى البدر؛ لأنه يتم فيها، وقريب من هذا ما عُنِيَ به بعض الشيعة من حذف المكرر من هذه الحروف، وصياغة جمل مما بقي منها في علي رضي الله عنه، أو تفضيله، وترجيح خلافته؛ كقولهم:"صراط علي حق نمسكة"، ولكنهم قوبلوا بجمل أخرى مثلها من بعض السنيين تنقض ما قالوه؛ كقولهم:"صح طريقك مع السنة"(1)، إلى غير ذلك من الأقوال الغريبة الأخرى، ليس هذا موضع بسطها (2).
ولقد نهى ابن عباس رضي الله عنهما عن مثل هذا المسلك، الذي اعتبره من جملة السحر، واعتبر أصحابه من الذين يتبعون المتشابه؛ لما في قلوبهم من الزيغ، والفتنة، والضلال، وذكر ابن حجر أن حساب الجمل:"باطلٌ لا يُعْتَمدُ عليه، ولا أصل له في الشريعة"(3).
وقال ابن كثير: "وأما من زعم أنها دَالَّةٌ على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث، والفتن الملاحم؛ فقد ادَّعى ما ليس
(1) وقال بعضهم: "نص حكيمٌ قاطعٌ له سِرٌّ"، وما صح معناه من ذلك فإنما هو من "المُلَح"، وليس من "صُلْب" العلم.
(2)
انظرها في "الإتقان"(2/ 8 - 13)، "روح المعاني"(1/ 104)، "المنار"(1/ 123)، "سيرة النبي صلى الله عليه وسلم" لابن هشام (172/ 2).
(3)
"فتح الباري"(8/ 211)، وانظر:"الإتقان"(2/ 11).
له، وطار في غير مطاره" (1)، وفي "تفسير المنار": "أضعف ما قيل في هذه الحروف وأسخفه: إن المراد بها الإشارة بأعدادها في حساب الجملة إلى مدة هذه الأمة، أو ما شابه ذلك".
وقال القاضي أبو بكر: "ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل لي فيها عشرون قولًا وَأَزْيَدُ، ولا أعرف أحدًا يحكم عليها بعلم، ولا يصل منها إلى فَهْمٍ، والذي أقوله: إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا، متداولًا عندهم؛ لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم؛ تلا عليهم {حم (1)} [فصلت:1]، {ص} وغيرها، فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في بالبلاغة، والفصاحة مع تشوقهم إلى عثرة، وحرصهم على زلة؛ فدل على أنه كان أمرًا معروفًا بينهم لا إنكار فيه"(2).
إنه لم يُعْرَفْ عن هؤلاء العرب مثل هذه الحسابات العددية لتلك الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية؛ فوجب رد هذه التأويلات التي لم يقصد بها وجه الحق، {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء](3).
وممن استروح لمنهج حساب الجمل الشيخ "طنطاوي جوهري" الذي زَعَمَ إمكانية الرمز، والإشارة بالحروف إلى حساب الجمل، وقد نزل القرآن بذلك؛ ليأخذ الناس في فَهْمهَا؛ "حيث كان اليهود والنصارى
(1)"تفسير القرآن العظيم"(38/ 1).
(2)
انظر "الإتقان"(2/ 11).
(3)
"الحروف المتقطعة" ص (65 - 62).
يتخذون رموزًا، وإشاراتٍ مشهورةً في دينهم، فنزل القرآن بهذه الرموز؛ ليكون مفهومًا لجميع الطوائف؛ لأنه نزل للعرب، والعجم جميعًا".
قال الشيخ في ذلك: "اعلم أن القران كتابٌ سماويٌّ، والكتب السماوية تصَرِّحُ تارَةً، وترمز أخرى، والرمز والإشارة من المقاصد السامية، والمعاني والمغازي الشريفة، وقديمًا كان ذلك في أهل الديانات؛ ألم ترَ إلى اليهود الذين كانوا منتشرين في المدينة، وفي بلاد الشرق أيام النبوة، كيف كانوا يصطلحون فيما بينهم على أعداد الجُمَّل المعروفة اليوم في الحروف العربية؛ فيجعلون الألف بواحدٍ، والباء باثنين، والجيم بثلاثة، والدال بأربعة، وهكذا مارِّين على الحروف الأبجدية إلى الياء بعشرة، والكاف بعشرين، وهكذا إلى القاف بمائة، والراء بمائتين، وهكذا إلى الغين بألف، كما ستراه في هذا المقام؛ كذلك ترى أن النصارى في إسكندرية، ومصر، وبلاد الروم، وفي سوريا قد اتخذوا الحروف رموزًا دينية معروفة فيما بينهم أيام نزول القرآن، وكانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية في مصر، وكانوا يرمزون بلفظ "اكسيس" لهذه الجملة: "يسوع المسيح ابن الله المخلص" فالألف من "اكسيس" هي الحرف الأول من لفظ "ايسوس" يسوع، والكاف منها هي الحرف الأول من "كرستوس" المسيح، والسين منها هي حرف الثاء التي تبدل منها في النطق في لفظ "ثيو" الله، والياء منها تدل على "ايوث" ابن، والسين الثانية منها تشير إلى "ثوتير" المخلص، ومجموع هذه الكلمات "يسوع المسيح ابن الله المخلص" (1)، ولفظ "اكسيس" اتفق أنه يدل على معنى سمكة؛ فأصبحت السمكة عند هؤلاء رمزًا لإلههم.
(1) تعالى الله عما يقول الظالمون علوُّا كبيرًا.
فانظر، كيف انتقلوا من الأسماء إلى الرمز بالحرف، ومن الرمز بالحرف إلى الرمز بحيوان دلت عليه الحروف، قال الحَبْرُ الإنجليزي "صموئيل مونتج":"إنه كان يوجد كثيرا في قبور رومة صور أسماك صغيرة مصنوعة من الخشب، والعظم، وكان كل مسيحي يحمل سمكة؛ إشارةً للتعارف فيما بينهم "(1).
وجنح الشيخ "محمد عبد العظيم الزرقاني" صاحب "مناهل العرفان" إلى تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور بالرموز التي تعارفت عليها الطوائف اليهودية من حساب الجمل، وأن القرآن قد جاء بها؛ لتتفق مع مذاهبهم، قال الشيخ:"إذا كان من طبائع الأمم التي أحاطت بالبلاد العربية، وتغلغلت فيها، ونزل القرآن لجميع الناس من عرب، وعجم، كان لابد أن يكون على منهج تَلَذُّهُ الأمم، ويكون فيه ما يألفون".
ثم ذكر الشيخ حكاية حييِّ بن أخطب اليهودي؛ الذي عَدّ فيها عُمر الأمة الإسلامية (2)، وانتهى الشيخ بعد أن ذكر هذه الرواية -دون أن ينبه على ضعفها- إلى أن حساب الجمل كان للتعارف عند اليهود، وهو نوع من الرموز الحرفية؛ فكانت هذه الحروف لابد من نزولها في القرآن (3).
ويعلق الدكتور "محمد محمد أبو فراخ" -حفظه الله- قائلًا: "إن هذه الحروف لم تأتِ على منهج يَلُذُّهُ اليهود، أو غيرهم؛ وإنما جاءت على منهج القرآن العظيم المتلائم المتناسب، فيما قدمه من حروف وكلمات،
(1)"الجواهر في تفسير القرآن الكريم "(2/ 5).
(2)
تقدم تضعيفها ص (218).
(3)
"مناهل العرفان"(1/ 224، 225).
ومع المعاني المرادة منها، والمقاصد التي أتى بها؛ لإثبات الحق، ونفي الباطل بأعظم وجه، وأتم بيان" (1) اهـ.
(1)"الحروف المتقطعة" ص (66).