الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإفرَاطُ في الإِحسَاسِ بالعَجزِ
يَنشَاُ عَنهُ التَّفرِيط في إزَالهِ العَجزِ
حينما يحاول الناس ملء الفجوة بين الواقع المشهود، وبين الأمل المنشود، يختلف موقفهم تبعًا لنوعية مفاهيمهم، والذي نقصده هنا ذلك الفريق الذي إذا فكر في حل هذه المعضلة، وملء هذه الفجوة، وكان هناك اتجاهان:
أحدهما: إيجابي يَطْلُبُ منه مواجهة الواقع، ومجابهة الباطل، والمثابرة على الأخذ بأسباب نهوض الأمة.
والثاني: سلبيٌّ يَؤُزُّهُ على التخلي عن المسئولية الحاضرة، والفرار إلى الأماني المستقبلية، فإنه ينحاز بلا تردد، إلى الاتجاه السلبي (1).
قال الشاعر:
من عادة الإسلام يَنْصُرُ عالماً
…
ويُسَوِّدُ المِقدامَ والفَعَّالا
ظَلَمَتْهُ ألسنةٌ تؤاخِذه بكم
…
وظلمتموه مقصِّرينَ كُسالى
(1) ولعل أوضح أنموذج لهذا الاتجاه "جماعة شكري مصطفى" المعتنقين لمذهب الخوارج، والذين كانوا يرسمون خططهم المستقبلية وكأنهم يعيشون في الدنيا وحدهم، وأن ما سوف يقررونه بتفكيرهم "الذاتي" ومن تلقاء أنفسهم، هو حتمَا سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير، وكأنما يمسكون بأيديهم عجلة قيادة الأقدار، (إذ ترى جماعة شكري أن دورهم يبدأ بعد تدمير الكافرين؛ أي: بعد حرب لا تُبقي ولا تذر بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، ومن المستحيل -عندهم- قيام الخلافة الإسلامية قبل نشوب هذه الحرب، ويؤكدون أنه من سنن الله تعالى أن يكون القتال بالسلاح القديم؛ أي: بالسيوف، والحراب، والرماح، والخيول، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يكون هذا إلا بعد انقراض الأسلحة الحديثة؛ كالصواريخ، والقنابل الذرية، والطائرات الحربية، وغيرها.
جاء في رسالتهم "التوسمات": "لا بد أن تُدمَر الأرض بمن عليها، وتبقى القوة المؤمنة، ويبقى السلاح الفطري".
وجاء في الرسالة نفسها تحت عنوان: كيف تقوم دولة الإسلام؟ "إقامة دولة الإسلام على أنقاض دولة الكفر، ومن سننه تعالى الصراعات بين القوتين العظميين المختلفتين فكريًا، وهذا قائم بين الروس والأمريكان، كما كان قائما بين الفرس والرومان، ومن سُنَّة الله في نشوء الدعوات أن تصطرع هاتان القوتان العظيمتان في حروب طاحنة تهلك بعضها بعضًا، والجماعة المسلمة ليست على مستوى هاتين القوتين؛ فتفكير الجماعات التي تزعم الانتساب للإسلام بالانقلابات العسكرية هو سذاجة وانحراف: أن نتصور أننا سنتفوق ماديًا وعسكريًا على الجاهلية، والنصر الجاد للجماعة المسلمة هو أن تعبد الله؛ وبعد هذا يُمكن الله تعالى لها بِقَدَرِه، وبأن تقضي القوتان المتصارعتان على بعضهما تمهيدًا لنصر المؤمنين، وهذا له صلة بأسلوب القتال وسلاحه، فتدمير الكافرين بتدمير سلاحهم، وأصول قتال المسلمين هو قتال رجل لرجل، وليس قتال الجاهلية في تدمير الأرض بمن فيها بالصواريخ والقنابل الذرية، ومن سنة الله أن يكون القتال بالسلاح القديم للجماعة المؤمنة: "الجنة تحت ظلال السيوف"، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، و"يُحرِق أحدهم وَتَر قوسِه فيأكله" رواه أحمد (4/ 217). ومن سنة الله تعالى أن يدمر الأرض بالكافرين يوم يملكون الأرض ويتبجحون فيها، {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} ". اهـ.
وفي كتابهم "الخلافة" تحدثوا عن الجهد البشري والإعداد وسنن الله في أرضه، فكان مما قالوه:"وأنا لا أقول ذلك لأثبت وجوب التسابق مع الشرق والغرب في عمل قنبلة أو صاروخ، وإنما على العكس من ذلك تماما؛ فلا يمكن أن يكون ذلك التسابق هو الحل؛ حيث إن العدو قد سبق في هذا المجال، مما لا يدرك حتى لو سرنا على درب السنن الذي قد سار هو عليها، وحتى لو سمح لنا بذلك، ولن يسمح".
وفي أقوال هذه الجماعة مغالطات كثيرة، من أهمها ما يلي: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
1 - لو قرءوا التاريخ الإسلامي جيدًا وسبروا أغواره، لعلموا أن الجماعة المسلمة الأولى لم تقعد عن الجهاد بعد أن أوجبه الله عليها، وتسوغ لنفسها الأعذار، وتنتظر هلاك الفرس والرومان، وإنما خاضت حربا ضروسًا مع الدولتين، استخدمت فيها كل ما تمكنت من الحصول عليه من أسلحة عصرية حديثة، وقدمت قوافل الشهداء قافلة تلو الأخرى، وأكرمها الله بالنصر رغم أنها كانت أقل عددًا وعدة من عدوها، ورغم أن المسلمين كانوا يخوضون حربًا هجومية؛ ولهذا كان قياس جماعة شكري فاسدًا، وجميع النتائج التي انتهوا إليها ليست صحيحة.
2 -
زعموا أن الجهاد الإسلامي لا يكون إلَّا بالسلاح القديم؛ كالسيف والقوس؛ ومن ثَمَّ فلا يصح أن يكون الجهاد الإسلامي المشروع -على حد زعمهم- إلَّا قتال رجل لرجل. ومن أدلتهم على ذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. وهذا الدليل حجة عليهم، وليس لهم؛ فقوله تعالى:{وَأَعِدُّوا} الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل.
{مَا اسْتَطَعْتُمْ} : {مَا} من ألفاظ العموم والاستغراق؛ أي: كل ما تقدرون عليه من أسباب القوة المادية والمعنوية.
روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر- يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي". وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث "الحج عرفة" بمعنى: أن كلا منهما أعظم الأركان في بابه، وذلك أن رمي العدو عن بُعْدٍ بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يُرمى به العدو من سهم أو قذيفة منجنيق أو طيارة أو بندقية أو مدفع وغير ذلك، وإن لم يكن هذا معروفًا في عصره صلى الله عليه وسلم، فإن اللفظ يشمله، والمراد منه يقتضيه، ومن قواعد الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن صنع المدافع بأنواعها، والبنادق، والدبابات، والطيارات، والمناطيد، والصواريخ، والسفن الحربية، والغواصات، ويجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب، بدليل: =
فمنهم من يقول: فلننتظر على أمل أن تخرب الدنيا، وتقع حرب نووية شاملة تدمر معظم البشرية، وتقضي على كل أنواع الأسلحة المتطورة، وعندها يشير إلينا التاريخ برأسه:"أن هلموا! قد جاء دوركم"، إن هذا ليس رجاءً محمودًا، ولكنه "اليأس" الْمُقَنَّعُ.
ومن هؤلاء من يستبشر بانهيار المذاهب الملحدة؛ كالشيوعية، وإفلاس الرأسمالية، وتهافت الأديان الوثنية والْمُحَرَّفَة، ويحسب أن هذا وحده يعني انتصار الإسلام، كلا؛ إن هذا لا يعني التمكين للإسلام، حتى يعود المسلمون إلى دينهم، ويثوبوا إلى ربهم، ويؤدوا واجبهم في إبلاغ الإسلام إلى البشرية، ويبذلوا الجهد في النهوض من كبوتهم.
ومنهم من يترقب حصول خوارق عادات يترتب عليها التمكين لدين الله في الأرض، وهؤلاء يتناسون سُنة الله في الذين خلوا من قبلُ، وأن الابتلاء حتمي قبل التمكين؛ كما قال تعالى:{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]، وقال عز وجل: {الم (1)
= ما لا يتم الواجب المطلق إلا به، فهو واجب. وقد ورد أن الصحابة استعملوا المنجنيق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر وغيرها. وكل الصناعات التي عليها مدار المعيشة من فروض الكفاية؛ كصناعات آلات القتال.
وقوله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} رباط الخيل: حبسها واقتناؤها. ورَابَطَ الجيشُ: أقام في الثغر. والغرض من هذه المرابطة يُبَيِّنه قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، ولن نرهب أعداء الله بالخيل إذا كانوا يواجهوننا بالطائرات والصواربخ والمدرعات.
وجملة القول: إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا ان القوة الرمي" ينسف أباطيلهم كلها، ولا يُبقي لها أثرًا). اهـ. بطوله من "الحكم بما أنزل الله وأهل الغلو"(ص 265 - 268). وتجدر الإشارة إلى أن المؤلف دَوَّنَ في هذا الكتاب -بأمانة وموضوعية- ما كاد يندثر من وثائق تلك الجماعة وأخبارها.
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]، وقال سبحانه:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} الآية [آل عمران: 140]، وقال -عز من قائل-:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
لقد اقترن ميلاد الدعوة الإسلامية في غار حِرَاء بالإخبار عن حتمية جريان سُنَّة الابتلاء؛ إذ قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: "لم يَأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلَّا عُودِيَ". وقال الراهب للغلام: "أيْ بُنَيَّ، إنك خيرٌ مني، وإنك سَتُبْتَلَى". وقال صلى الله عليه وسلم: "أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأمْثَلُ، فَالأمثَلُ"، ولما سُئِلَ الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: أَيُّهُمَا خيرٌ للرجل: أن يُمَكَّنَ أو يُبْتَلَى؟ قال: "لا تُمَكَّنُ حتى تُبْتَلَى".
فمع أن الله عز وجل قادر على أن يجعل البشر جميعًا على أتقى قلب رجل واحد منهم بكلمة من حرفين: "كن"، فيكون؛ إلَّا أن حِكْمَتَهُ -جل وعلا- اقتضت أن يُبْتَلَى الناس بعضهم ببعض؛ لتكون العاقبة للتقوى.
واقتضت حكمته تعالى -أيضًا- أن تُربط المسبَّباتُ بأسبابها، والنتائج بمقدماتها، وقد أودع الله سبحانه في هذا الوجود قوانين وسننًا تحكمه، وهذه السنن تحترم من يحترمها، ولو كان كافرًا، ولا تحابي أحدًا إذا أهملها، ولو كان مؤمنًا.
ولو تصور مسلم أنه إذا ألقى نفسه من مبنى شاهق فإن سنَّة أو ما يسمى "قانون الجاذبية" سوف تحابيه لإيمانه، أو تجامله ليهبط بسلام؛ فهو واهم، لأن الأصل هو إعمال تلك السنن التي لا تتبدل ولا تتحول إلَّا أن يشاء الله تعالى أن يخرق العادة، وهذا استثناء، وليس الأصل.