الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علمائهم ومفكريهم لها، فإذا كانت هذه الإسرائيليات نفسها محل توقف في كونها وحيًا معصومًا أو لا، فهل هناك توقف أو تردد في أن علماءهم وأحبارهم ومفكريهم غارقون في التيه، والحيرة، والضلال المبين؟
ظَاهِرَة (التَّطْبِيعِ) مَعَ الإِسْرَائِيليَّاتِ
إن النقل عن أهل الكتاب لم يقف عند الحد المسموح به، وإنما خرج الأمر عن كونه استشهادًا مشروطًا بشروط إلى كونه "ظاهرةً ملحةً متكررةً"، أكسبت الإسرائيليات في نفوس العوام صفة المرجعية، ولأول مرة ترتقي الإسرائيليات -على يد هذه الكوكبة من رواد "التطبيع الفكري مع الإسرائيليات"- إلى مستوى الحجية والمصداقية، وإذا بالقوم يفخرون "بالتهوك"(1)، ويمعنون فيه حتى إنه لتؤلف كتب ممحضة للنقل من الإسرائيليات فحسب (2)، مع نبذهم المصادرَ الإسلاميةَ وراءهم ظهريًّا؛ عن أبي عبيدة قال:"من شغل نفسه بغير المهم، أضرَّ بالمهم"، وقال الإمام أحمد:"الاشتغال بهذه الأخبار القديمة يقطع عن العلم الذي فُرضَ علينا طلبُه"(3).
وإذا بالمناظرات الإسلامية النصرانية التي تجرى تحت ظل الهيمنة الثقافية الغربية في ديار الغرب تجوس أشرطتها السمعية والمرئية خلال
(1) راجع حديث جابر بن عبد الله، وحديث خالد بن عرفطة، ص (180، 181).
(2)
كما فعل صاحبا "تاريخ اليهود" في جزأين، "موسى في الأساطير الإسرائيلية"، في ثلاثمائة صفحة، ليس فيها آية قرآنية واحدة، ولا حديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم بل محض نقل من توراة اليهود، وإسرائيلياتهم، فالله المستعان.
(3)
"الجامع" للخطيب (2/ 160).
بيوت المسلمين؛ لتمرن قلوبهم على سماع سب الله عز وجل، وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والطعن في كتاب الله -تعالى- والتطاول على دين الحق على لسان شياطينهم، ويُغَضُّ الطرف عن هذه الجرائم بحجة لزوم الإنصاف والعدل بين المتناظرين، مع أن غالب استدلالات المناظر المسلم تحوم حول الإسرائيليات، وقلما يستدلّ بشيء من القرآن الكريم، أو السنة النبوية (1).
واذا أنكرت عليهم هذا "الإغراق" في إشاعة الإسرائيليات بادروا بذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وَحَدِّثُوا عَنْ بَي اِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ"، وبأن العلماء أجازوا حكاية "القسم الثالث" من الإسرائيليات.
(1) وإن مما يؤسف له أشد الأسف استمراء هذا الوضع، وعدم إنكاره، لقد قال تعالى:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الآية: [آل عمران:186]، وها نحن -الآن- نسمع الأذى من "بعض المسلمين" الذين يترجمون هذه المحاضرات السمعية البصرية بما فيها من طعن، وسب لدين الإسلام، ويذيعونها في أوساط العوام بغير فقه، ونحن لا ننكر مناظرة أهل الكتاب؟ فإن هذا أحد أساليب الدعوة إلى الله، وإقامة الحجة، ولكن للمناظرة ضوابط، وكلما كانت في دائرة محدودة، كلما كانت أعون على الإقناع؛ كي لا تأخذ المجادلَ العزةُ بالإثم أمام جمهور الحاضرين؟ فيستكبر عن الانصياع للحق، ولا بد أن يتولى المناظرة عن الجانب الإسلامي عالم فقيه بصير يحسن الاستدلال- أولًا، وقبل كل شيء- بأدلة القرآن، والسنة الصحيحة، وأن يكون مؤهلًا ذا خبرة بشبهات القوم؛ لأنه إذا رد ردًّا ضعيفًا زادهم فتنة بكفرهم، ثم ينبغي أن تحجب شبهات وطعون المناظر الكافر عن عوام المسلمين؛ خشية أن تفتن قلوبهم بشبهات أعداء الله الذين يجهرون بالسوء من القول، ويحترفون التشويه، والتضليل للصد عن سبيل الله -تعالى-.
نقول: نعم يجوز ذلك، لكن البياضَ إذا اشتد صار بَرَصًا، فلماذا نبدأ من حيث انتهى بنا الشرع؟ ونجعل نقطة النهاية نقطة انطلاق إلى الإفراط في الاستدلال بالإسرائيليات، "والتمحور" حول كتبهم الْمُحَرَّفَةِ، الأمر الذي ينعكس سلبًا على ارتباط الناس بالقرآن الكريم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم والاعتماد عليهما في المحاججة.
إن من أسلحة "الصهيونية النصرانية" في حربها ضد الإسلام الترويجَ للتأويلات الباطلة لما لديهم من نبوءات، ومن خلال ذلك تمارس حربًا نفسية لتخذيل المسلمين، وتثبيط هممهم (1).
فأين ما نحن فيه الآن من "التطبيع مع الإسرائيليات"، وموقفنا "البارد" تجاهه من سلفنا الصالح الذين كانت الدماء تغلي في عروقِهِم إذا رأوا من ينشغل بهذه الكتب عن القرآن الكريم، كتابِ الله المعجزِ المهيمن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
وما غَرَسَ في قلوبهم تلك الغيرةَ الأيمانيةَ على كتاب الله عز وجل إلا هَدْيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي وَرَدَ عنه أنه كان يغضب أشدَّ الغضب إذا وجد مِن أصحابه مَن يشتغل بكتب أهل الكتاب عن القرآن الكريم؛ فقد روى الإمام أحمد من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب، فقال: "أَمُتَهَوِّكُون فِيهَا يَا بْنَ الخطَّابِ؟ والَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا نَقِيَّةً،
(1) انظر: "خُدعة هرمجدون" للمؤلف، نشر دار بلنسية، الرياض.
لا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَئءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَق فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى صلى الله عليه وسلم كانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي".
قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: "رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والبزار، ورجاله موثقُون، إلا أن في مجالدٍ ضعفًا"(1). اهـ.
قال الألباني -رحمه الله تعالى-: "لكنَّ الحديثَ قَوِيٌّ؛ فإن له شواهدَ كثيرة"، ثم ذكر بعضها، ومنها: ما رُوي عن عقبةَ بنِ عامرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كانَ فِيكُم مُوسَى واتبعْتُمُوه وَعَصَيتُمُوني؛ لَدَخَلْتُمُ النَّارَ".
ومنها: ما رُوِيَ عن خالد بن عرفطةَ قال:
"كنت جالسا عند عمرَ رضي الله عنه؛ إذ أُتِيَ برجل من عبد القيس سَكَنُهُ بالسوس، فقال له عمر: أنت فُلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم، قال: وأنت النازلُ بالسوس؟ قال: نعم، فضربَهُ بعصَاة معه، فقال: ما لي يا أمير المؤمنين؟! فقال له عمر: اجلس، فجلس، فقرأ عليه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ
…
} [يوسف] الآية، فقرأها عليه ثلاثا، وضربه ثلاثًا، فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟! فقال: أنت الذي نسخت كتاب "دانيال"؟! فقال: مُرْنِي بأمرك أَتَّبِعْهُ، قال: انطلق فامْحُهُ بالحميم، والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه، ولا تُقْرِئْهُ
(1)"فتح الباري"(13/ 334).
أحدًا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته، أو أقرأته أحدًا من النَّاس، لَأُنْهِكَنكَ عقوبةً، ثم قال له: اجلس، فجلس بين يديه، فقال: انطلقتُ أَنا فانتسختُ كتابًا من أَهل الكتاب، ثم جئت به في أَديمٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَا هَذَا فِي يَدِكَ يَا عُمَرُ؟ " قال: قلت: يا رسولَ الله، كتاب نسختُهُ لِنَزْدَادَ به علمًا إلى علمنا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، ثم نُوديَ ب (الصَّلاةُ جَامِعَةٌ)، فقالت الأَنصار: أَغَضِب نبِيّكُم؟ هَلُمَّ السلاحَ السلاحَ، فجاءوا حتى أحدقوا بِمِنْبَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:"يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنّي أُوتيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَخَوَاتِيمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِيَ اخْتِصَارًا، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَا تتَهَوَّكُوا، وَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ"، قال عمرُ: فقمتُ، فقُلتُ: رضِيتُ بالله ربّا، وبالإسلام دينًا، وبك رسولًا، ثم نَزَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ومنها: ما رُوِيَ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "جاء عمرُ بجوامِعَ من التوراةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "
…
الحديثَ، نحوَ روايةِ جابر باختصارٍ، وفيه:"والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيده لَو كَانَ مُوسَى بَينَ أَظْهُركُم، ثمَّ اتَبعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُوني، لَضَلَلْتُمُ ضلَالًا بَعِيدًا، أَنْتُمُ حَظّي مِنَ الأمَمِ، وَأَنَا حَظكُمُ مِنَ النَّبِيينَ".
ومنها: ما رُوِيَ عن حفصةَ رضي الله عنها أنها: "جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب من قصَص يوسفَ في كِنْفٍ (1)، فجعلت
(1) الكِنْفُ: كل وعاءِ مثل العَيْبَة لحفظ الشيء، وكِنْفُ الراعي والصانع والتاجر: ما يحفظ فيه متاعه وأَسْقَاطَه.
تقرأ عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يتلون وجهه، فقال:"والَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَو أَتَاكُم يُوسُفُ وَأَنَا مَعَكُم، فَاتَبعْتُمُوهُ وَتَرَكتُمُوني؛ ضَلَلْتُمُ ".
ثم قال الألباني -عليه رحمة الله- بعد أن بَيَّنَ ضعفَ عامَّةِ هذه الشواهِد: "وجملة القول: إن مجيء الحديث في هذه الطرق المتباينة، والألفاظ المتقاربة، لَمِمَّا يدل على أن مجالد بن سعيد قد حَفِظَ الحديث، فهو على أقل تقدير حديثٌ حسنٌ، والله أعلم "(1).
ذَمُّ السَّلَفِ مَنِ انْكَبَّ عَلَى كتُبِ "أَخْبَارِ الْأَوَائِلِ" روى الخطيب بسنده عن ابن أبي أُويس قال: سمعت خالي مالكَ بن أنس، وسأَلَهُ رجلٌ عَنْ زَبُورِ داودَ، فقال له مالكٌ:"ما أَجْهَلَكَ! مَا أَفْرَغَكَ! أما لنَا في نافع، عن ابن عُمَرَ عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما شَغلنا بصحيحه عما بيننا وبين داود عليه السلام؟ "(2).
وعن صدقة بن يسار سمع عمرو بن ميمون يقول: "كنا جلوسًا في مسجد الكوفة، وذاك أولَ ما نُزِلَ (3)، فأقبل مِنْ نحو الجسر رجلٌ معه كتاب، قلنا: ما هذا؟ قال: هذا كتاب، قلنا: وما كتاب؟ قال: كتابُ "دانيال"، فلولا أن القوم تحاجزوا لقتلوه، وقالوا: كتاب سوى القرآن؟ أكتاب سوى القرآن؟ "(4).
(1)"إرواء الغليل"، (6/ 34 - 38).
(2)
"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "، (2/ 161).
(3)
أي: أول ما افتُتح المسجد للصلاة، والوعظ، وما أشبه ذلك.
(4)
"الجامع"، (2/ 162).
اللهُ أكبرُ إنَّ دينَ محمدٍ
…
وكتابَه أقوى وأقومُ قِيلا
لا تذكروا الكتبَ السوالفَ عنده
…
طلع الصباحُ فأطفأ القِنديلا
وصدق القائل: نور الصباح يُغني عن المصباح.
وقال الخطيبُ البغدادي -رحمه الله تعالى-: "ويترك المنْتَخِب -أيضًا- الاشتغالَ بأخبار الأوائلِ؛ مثل كتاب "المبتدأ" ونحوه؛ فإنَّ الشُغْلَ بذلك غيرُ نافعٍ، وهو عن التَّوَفُّرِ على ما هو أولى قاطع"(1)، ثم أُسنِدَ عن الإمام أحمد قوله:"الاشتغال بهذه الأخبار القديمة يقطع عن العلم الذي فُرِضَ علينا طلبه"(2)، ثم قال:"ونَظِيرُ ما ذكرناهُ آنفًا أحاديثُ الملاحِمِ، وما يكون من الحوادِثِ؛ فإِنَّ أَكثرها موضوع، وجُلَّها مصنوع، كالكتاب المنسوب إلى "دانيال"، والخُطب المروية عن علي بن أبي طالب"(3).
وأخرج الخطيب في "الجامع": "أن عُمَرَ رضي الله عنه بلغه أن رجلًا كتب "كتاب دانيال"، قال: فكتب إليه يرتفع إليه، قال: فلما قدم عليه جعل عُمَرُ يضرب بَطنَ كفِّه بيده، ويقول: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} فقال عمر: أَقَصَصُ أحسن من كتاب ربنا؟! فقال: يا أمير المؤمنين، أَعْفِنِي؛ فوالله لأمْحُوَنَّهُ"(4).
(1)"نفسه"، (2/ 160).
(2)
"نفسه"، (2/ 161).
(3)
"نفسه"، (2/ 161).
(4)
"نفسه"، (2/ 161 - 162).
وقال الإمام مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري -رحمه الله تعالى-: (وفي حديث ابن عمرٍو: "من أشراط الساعة أن يُقرأ فيما بينهم بالَمْثناة، ليس أحد يُغَيرها"، قيل: وما المَثْناة؟ قال: "ما استُكْتِبَ من غير كتاب الله تعالى" (1)، وقيل: إن المثناة هي أن أحبار بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام وضعوا كتابًا فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله، فهو المثناة، فكأن ابن عمرٍو كره الأخذ عن أهل الكتاب، وقد كانت عنده كُتُب وقعت إليه يوم اليرموك منهم، فقال هذا لمعرفته بما فيها) اهـ (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ما معناه: (وقد انتفع عُمَرُ رضي الله عنه في هذا بما وقع منه حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم بيده شيئًا من التوراة، فقال: "لَوْ كَانَ مُوسَى حَيا ثُمًّ تَبعْتُمُوه وَتَرَكْتُمُوني لَضَلَلْتُمُ"، وفي رواية: "مَا وَسِعَه إِلا اتباعِي"، وفي لفظ: "فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَرَضَ عليه عمر ذلك، فقال له بعضُ الأنصارِ: يا بنَ الخطَّابِ، ألا ترى إلى وجه رسول الله -صلى الله ص عليه وسلم-؟ فقال عمر: رَضِيْنَا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيُّا"؛ ولهذا كان الصحابَةُ يَنهون عن اتباع كتبٍ غيرِ القرآن)(3).
(1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتراب -وفي رواية: أشراط- الساعة أن ترفع الأشرار، وتوضعَ الأخيار، وُيفتح القول، وُيخزن العمل، ويُقرأ بالقوم المّثْناةُ، ليس فيهم أحد ينكرها، قيل: وما المثناة؟ قال ما اسْتُكتب سوى كتاب الله عز وجل" رواه الحاكم (4/ 554)، وقال الهيثميْ "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح" اهـ. من "المجمع"(7/ 326)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (2821).
(2)
"النهاية في غريب الحديث والأثر"(1/ 225 - 226).
(3)
"مجموع الفتاوى"، (17/ 41).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أيضًا:
"
…
ولما كان القرآن أحسن الكلام؛ نُهُوا عن اتباع ما سواه؛ قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51]، إلى أن قال -رحمه الله تعالى-:"وروى ابن أبي حاتم، حَدَثَّنَا أبي، حَدَثَّنَا إسماعيلُ بْنُ خليلٍ، حَدًثنَا عَلى بن مسهر، حَدَّثنَا عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس، عن خالد بن عرفطةَ، قال: كنت عند عمرَ بن الخظَاب رضي الله عنه إذ أُتِيَ برجلٍ من عبد القيس مَسْكَنُهُ بالسوس، فقال له عمر: "أنت فلانُ بن فلانٍ العبدي؟ " قال: نعم، قال: "وأنت النازلُ بالسوسِ؟ "قال: نعم، فَضَرَبَهُ بقناة معه، فقال له: ما ذنبي؟ قال: فَقَرَأَ عليه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} فقرأها عليه ثلاث مرات، وضربه ثلاث ضربات، ثم قال له عمر: "أنت الذي انتسخت كتاب دانيال؟ " قال: نعم، قال: "اذهب فامحُهُ بالحميم، والصوف الأبيض، ولا تقرأه، ولا تُقْرِئْهُ أَحَدًا من الناس".
فقرأ عليه عُمَرُ هذه الآية ليبين له أن القرآن أحسن القصص؛ فلا يُحتاج معه إلى غيره، وهذا يدل على أن القصصَ عَامٌّ لا يختصُّ بسورة يوسف، ويدل على أنهم كانوا يعلمون أن القرآنَ أفضل من كتاب "دانيال"، ونحوه من كتب الأنبياء، وكذلك مثل هذه القصة مأثورة عن ابن مسعود رضي الله عنه لَمَّا أُتِيَ بما كُتِبَ من الكُتُبِ مَحَاهُ، وذَكَرَ فضيلةَ القرآنِ كما فعل عُمَرُ رضي الله عنه، ثم شَرَعَ -رحمه الله تعالى- في بيان معنى كون القرآن المجيد مهيمنًا على الكتب السابقة إلى أن قال:
"ولهذا لم تَحْتَجِ الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر، وكتاب آخر، فضلًا عن أن تحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه عن غيره، سواء كان من علم المحدَّثين والملهمين، أو من علم أرباب النظر والقياس الذين لا يعتصمون مع ذلك بكتابٍ مُنَزَّلٍ من السماء"(1).
ونقل القرطبيُّ في "التذكرة" عن الحافظ أبي الْخَطَّاب بن دحية أنه قال عن "دانيال": "نبيّ من أنبياء بني إسرائيل، كَلَامه عبراني، وهو على شريعة موسى بن عمران، وكان قبل عيسى ابن مريم بزمان، ومن أسند مثل هذا إلى نبي عن غير ثقة أو توقيف من نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فقد سقطت عدالته، إلى أن يُبين وضعه، لتصح أمانته، وقد ذكر في هذا الكتاب من الملاحم، وما كان من الحوادث، وسيكون، وجمع فيه التنافي والتناقض بين الضب والنون، وأغرب فيما أعرب في روايته عن ضرب من الهوس والجنون، وفيه من الموضوعات ما يُكَذِّبُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا، ويتعذر على المتأول لها تأويلُها، وما يتعلق به جماعة الزنادقة، من تكذيب الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم أن في سنة ثلاثمائة يظهر الدجَّال من يهودية أصبهان، وقد طعنَّا في أوائل سبعمائة في هذا الزمان، وذلك شيء ما وقع ولا كان، ومن الموضوع فيه المصنوع، والتهافت الموضوع، الحديث الطويل الذي استفتح به كِتَابَهُ، فهلا اتقى الله! وَخَافَ عِقَابَهُ! وإِنَّ من أفضح فضيحة في الدين نقلَ مثل هذه الإسرائيليات عن المتهودين؛ فإنه لا طريق فيما ذُكِرَ عن دانيال إلا عنهم، ولا رواية تُؤْخَذُ في ذلك إلا منهم "(2).
(1)"نفسه"، (17/ 41 - 46) باختصار.
(2)
"التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة"، (716 - 717).