الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
مَن المُجتهد الذي يؤجر على اجتهاده وإن أخطأ
؟
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» (1).
ورد هذا الحديث في شأن القاضي، إلا أن المفتيَ ملحق به، بجامع أن كلًّا منهما مأمور بأن يَصْدُرَ عن حكم شرعي، ولذا يُعذر كلاهما في الخطأ.
والمفتي إن كان من أهل العلم، ممن اجتمعت فيه شرائط الفتيا، وبذل وُسْعَه للوصول إلى الحق، ثم أفتى بما غلب على ظنه. أنه الحق بمقتضى الأدلة؛ فأخطأ، فلا إثم عليه في الخطأ؛ لدخوله في القاعدة الذهبية التي دل عليها قوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الاحزاب:5] ، ولدخوله في هذا الحديث الشريف المشار إليه.
وأجر اجتهاده باقٍ محفوظٌ لا يبطل بخطئه؛ لأن الشرع يأمره بأن يفتيَ لوجوب الإفتاء، وقد فعل ما أُمِرَ به، فاستحق بذلك الأجر "على العمل
(1) رواه من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه البخاري (13/ 268)، ومسلم (1716).
الذي قام به، ولكن لا يكون أجره بقدر أجر المصيب، إذ إن المصيب دلَّ على الحق، وهذا -أي: المخطئ- لم يدل عليه.
أما إذا أفتى مَن ليس بأهلٍ للفُتيا فأخطأ، أو كان أهلًا ولم يبذل جهده لإحقاق الحق فأخطأ؛ فإنه لا يكون معذورًا بذلك، بل يكون آثمًا؛ لأنه أضلَّ عن سبيل الله، وقد قال الله تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25](1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (2).
قال ابن المنذر -رحمه الله تعالى-: "وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالمًا بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالمًا فلا".
واستدل بحديث: "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ"، وفيه:"وقَاضٍ قَضَى بِغَيرِ حَق، فَهوَ في النَّارِ، وقَاضٍ قَضَى وهو لا يَعْلمُ؛ فَهو في النَّارِ".
وقال الخطابي -رحمه الله تعالى- في "معالم السنن": "إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بألخطأ، بخلاف المتكلِّفِ، فيُخاف عليه ". اهـ.
(1) انظر: "الفتيا ومناهج الإفتاء" ص (134 - 136).
(2)
رواه البخاري: (1/ 173، 174)، ومسلم (2673).
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "لا يلزم من رد حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وُسْعَه أُجِر، فإن أصاب ضُوعف أجرُه، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير، علم لحقه الإثمُ"(1).
وقال محيي السنة البغوي -رحمه الله تعالى-: (2) وقوله في الحديث: "وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" لم يُرد به أنه يؤجر على الخطأ، بل يؤجر في اجتهاده في طلب الحق؛ لأن اجتهاده عبادة، والإثم في الخطأ عنه موضوع إذا لم يألُ جهدَه، وهذا فيمن كان جامعًا لآلة الاجتهاد، فأما من لم يكن محلًّا للاجتهاد، فهو متكلِّفٌ لا يُعْذَرُ بالخطأ في الحكم، بل يُخاف عليه أعظم الوزر،
رُويَ عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ "(3).
(1)"فتح الباري"(13/ 318، 319).
(2)
"شرح السنة"(10/ 117، 118).
(3)
أخرجه أبو داود (3573)، والترمذي (1322)، وابن ماجه (2315)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي (4/ 90).
فارغ