الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فترك الجهد والعمل في نصرة الدين والإسلام جريمة، وترك دفع المبطلين والظالمين والكافرين الصائلين على المسلمين -بسبب هذا الاعتقاد الباطل- جريمة فوق جريمة ومصيبة عظيمة أصيب بها عقل المرضى بهذا الاعتقاد، ويجب الإسراع بعلاجهم وإنقاذهم من هذا الداء الوبيل" (1). اهـ.
رابعًا: قال الدكتور/ عبد العزيز مصطفى -وفقه الله تعالى-:
"جهاد الكفار -أيًّا كانوا، وأينما كانوا، وفي أي زمان كانوا- واجبٌ بالشرع المحكم غير المنسوخ
، وهذه حقيقة إسلامية ثابتة، وهذا الجهاد واجب بشروطه، وضوابطه، وأحكامه، وليس من هذه الشروط، أو الضوابط، أو الأحكام، أن يُؤَخَّرَ الجهادُ انتظارَا لتحول الغيب إلى شهادة، ما هكذا فَهِمَ المسلمون الأوائل، وما هكذا فعلوا، بل إنهم لما أُخْبِرُوا بأن الله -تعالى- سيكسر مُلك كسرى بسيوفهم؛ ما قبعوا في البيوت ينتظرون تحقق الخبر، ووقوع الأمر بلا مقدمات يبذلونها، وجهود يقدمونها، لا؛ بل أعدوا للأمر عُدَّتَهُ، وأخذوا للشأن أُهْبَتَهُ، حتى وقع النصر، وتطابق أمر الشرع مع أمر القدر.
وإن المسلمين الأوائل لما أُنْبِئُوا بأن اللهَ سيكسر مُلك قَيْصَرَ على أيديهم لم يناموا على الأسِرَّة منتظرين تحقق النبوءة، ووقوع المعجزة؛ بل شمَّروا عن ساعد الجد، وجردوا الحسام من الغِمْد، وانطلقوا في أرض الله يقاتلون باسم الله مَن كفر بالله، حتى سقطت مملكةُ قيصرَ، وتطابق المشروع مع المقدور، وهكذا كان الشأن في النبوءات الأخرى عن فتح مصر، والشام، والعراق، وحتى القسطنطينية، لم يقل السلطان
(1) مقدمة "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" ص (ذ، ر).
محمد الفاتح: "إن فتحها ليس وقته الآن"، بل قامت موجبات الجهاد الشرعية في عهده، فامتثل، وجاهد، وفتح، وانتصر، أما بعض مسلمي اليوم، فيقولون:"لا، إن جهاد اليهود لن يكون حتى يخرج الدجَّال"، ولعله هذا من جملة فِتَنِ الدجَّال في هذه الدنيا.
وانطلى هذا الكلام السخيفُ على قطاعات من الشباب المسلم، فألقوا عن كواهلهم تحمل أية مسئولية تجاه المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله؛ تماما كما انطلى على كثير منهم مِن قبلُ كلامٌ أسخفُ منه؛ مُؤَدَاهُ أن الدولةَ الإسلاميةَ والخلافةَ لن تقومَ حتى يخرجَ المهدي! وعجبا لمروجي هذا الكلام، ومردديه، كأنهم يقولون بلسان حالهم لليهود:"اشتدوا في عدائكم"، وللنصارى:"استمروا في طغيانكم"، وللمسلمين:"استمروا في تَشَتُّتِكُمْ، وتفرقكم، وتنازعكم، وغُثَائِيَّتِكُمْ، حتى يخرج المهدي إليكم"، ولا أدري: بأيَّة حُجَجِ وأدلة يقعون في هذه الزَّلة، متوهمين أن المهدي سيخرج إلى قوم قاعدين، أو سينصره أُناسٌ خاملون؟ " (1).
"لقد تبين لنا أن اليهودَ والنصارى ينطلقون من خلال نبوءاتهم التي دخلها كثير من التحريف إلى وضع تصورات عملية لما يمكن أن تدار على أساسه الصراعاتُ، وإلى بذل الوُسْعِ من أجل الوصول إلى أهدافٍ دينية تسَلُّطِيَّةٍ على العالم، ولم يمنعهم الاقتناع ذهنيًّا بهذه الأمور من الانصراف -أيضًا- إلى بناء الحضارة، وتوسيع العمران، وزيادة الإعداد والاستعداد للمستقبل، فماذا أقول؟! أأقول: إنهم يفهمون الروح المقصودة من التدين أكثر منا وهم على غير دين صحيح؟! أأقول: إنهم إلى
(1)"قبل أن يهدم الأقصى"، ص (276، 277).
جانب فهمهم للدنيا، وكيفية التعامل معها، يَفْهَمُونَ -وهم على ضلال- أن ما يجيء به الدين هو قضايا من صُلْبِ الحياة، وصميم الواقع؟! إن اليهود والنصارى بين أيديهم أخبارٌ غير موثوقة، وتفسيرات غير مأمونة، وعقائدُ مضطربةٌ تزيدها التأويلات اضطرابًا، واختلافاتٌ فيما بينهم في الأصول والفروع، يستحيلُ معها الجمع بين الأقوال، ومع كل ذلك فهم جعلوا هذه الأخبارَ، وتلك النبوءاتِ، منارًا يسيرون على ضوئه خلال أحقاب طويلة؛ ففي مسيرة اليهود خلال الألفي سنة الخالية لم تكن تدفعهم إلا نبوءاتُ العهدِ القديم، ولم تستحثَّ آمالَهم إلا أخبارُ الأنبياء السابقين، ولم تستنهض هممهم إلا أمانيُّ بعيدةٌ في العودة، والعلو، والسيطرة.
وفي المقابل نرى مِن بعض قومنا مَنْ إذا أخذ بأخبارٍ من الدين عن المستقبل فإنه يجعلها سدَّا أمام الحركة، وعائقًا في وجه التقدم، ويتخذ منها وسادة وثيرة ينام عليها، أو أريكة وطيئة يقتعدها" (1). اهـ.
إن مما يؤسف له أشد الأسف شيوع هذه "السلبية" بحجة انتظار خروج المهدي، مع أن أشد الناس سلبية -فيما مضى- طوَّروا مفاهيمهم تحت وطأة العقل والمصلحة والخوف من خطر الانقراض، وتحرروا من أسر السلبية والتخاذل، وترقب ما يمليه الأمر الواقع، فرأينا الرافضة يطورون مفهوم "الانتظار السلبي" لمهديهم المزعوم، ويخترع لهم الخميني مفهوم "ولاية الفقيه" ليُخرج الرافضة من "شرنقة" الانتظار السلبي لمهديهم الموهوم إلى التحرك الإيجابي وإقامة دولة قبل أن يخرج المهدي من السرداب، الأمر الذي كان مرفوضًا من قبل، ومن بعد أن
(1) السابق، ص (247، 248).
مرت قرون كانوا خلالها السَّندانَ، حولتهم "وِلاية الفقيه"(1) إلى مِطرقة مؤثرة فعالة، وَوَدعوا الانتظارَ السلبي المُمِلَّ.
وكذلك فعلت "الصِّهْيَوْنيَّةُ السياسية" التي طورت مفهوم الانتظار السلبي عند اليهود، بل تمردت عليه، وقفزت منه إلى العمل الإيجابي (2).
أما نحن -معشرَ المسلمينَ- فلسنا في حاجة إلى ابتداع منهج: ولا تعطوير مفهوم؛ لأن ديننا هو دين الحق، دين يُبغِض السلبية والسلبيين، ويكره القاعدين المتخاذلين، ويحث على الأخذ بالأسباب مع التوكل علىَ الملك الوهَّاب، ونحن في الحقيقة متخلفون عن ذروته السامية، وقمته السامقة، قال تعالى:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} [الأنبياء: 10].
وإذا كانت "الانتصارات" قد أسكرت أعداءنا، وفَتَنَتْهم بباطلهم؛ فإن "الانكسارات" ينبغي أن توقظنا من سباتنا، وتفعلَ بنا ما تافعله الأحجار إذا ألقيت في الماء الراكد.
إن الإيمان بالغيب هو أقوى حافز ودافع للعمل في عالم الشهادة، وقد رأينا ذلك ماثلًا في واقع خير أجيال البشرية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَن تبعهم بإحسان؛ حيث لم يتخذوا من إيمانهم بأشراط الساعة تُكَأَةً يقعدون عليها بحجة انتظار تحققها في المستقبل، أفلم يَأنِ لنا أن نقوم بدور "المطرقة"، ونودِّعَ دور "السَّنْدانِ"؟ سؤال ينتظر الإجابة في زمن "الانتظار".
(1) انظر: نقد فكرة "ولاية الفقيه" في "أصول مذهب الشيعة" للدكتور ناصر القفاري، (3/ 1405 - 1420)، و"نقد ولاية الفقيه" للشيخ محمد مال الله.
(2)
انظر: "خدعة هرمجدون" للمؤلف، نشر دار بلنسية -الرياض- 1424 هـ.