الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أجزائه، وحينئذٍ فلا شَكَّ أنها النبوة، وأن صاحبها مُتَّصلٌ بالله تعالى عالم الغيب والشهادة؛ كما قال عز وجل:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} الآيتان: [الجن: 26 - 27].
وقال -سبحانه وتعالي-: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} [المؤمنون: 92].
ومن ثمرات وقوع تلك الْمغُيَّبَاتِ -على كثرتها- مُطَابِقَةً لخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن يثبت إيمان المؤمن، ويطمئن قلبه، ويزداد يقينه، ويقول كما قص الله عن المؤمنين:{هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} [الأحزاب: 22].
ومن ثمرات ذلك أيضًا: إقامة الحجة على الكافرين، وإقناعهم بصدق نبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالمين.
رَابِعًا: تَعَلُّمُ الكيفية الصحيحة التي دَلَّنَا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كي نتعامل بها مع بعض الأحداث المقبلة
التي قد يلتبس علينا وجه الحق فيها.
قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا منزلَّا
…
" الحديث، وفيه: "إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ
لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ
…
" الحديث (1).
لقد نصح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه الذين عاصروه نصائحَ انتفعوا بها كثيرًا:
- فقد بَشَّرَ عثمان رضي الله عنه بالجنة، على بلوَى تصيبه.
- وأخبر عمَّارًا رضي الله عنه أنه تقتله الفئة الباغية.
- وأمر أبا ذزّ رضي الله عنه بأن يعتزلَ الفتنة، وأن لا يقاتل، ولو قُتِلَ.
- وكان حذيفَةُ رضي الله عنه يسأله عن الشر؛ مخافَةَ أن يدرِكَهُ، ودلَّه صلى الله عليه وسلم كيف يفعل في الفتن.
- ونهى المسلمين عن أخذ شيء من جبل الذهب الذي سوف ينحسر عنه الفرات.
- وبصَّر أمته بفتنة الدجال، وأفاض في وصفها، وبَيَّنَ لهم ما يعصمهم منها؛ ومِن ثَمَّ قال عبد الرحمن المحاربي:"يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ هَذَا الْحَدِيثُ (2) إِلَى الْمُؤَدِّبِ، حَتَّى يُعَلِّمَهُ الصِّبْيَانَ فِي الْكُتَّابِ."(3).
(1) رواه مسلم (1844)، وأبو داود (4248)، والنسائي (7/ 153).
(2)
يعني: حديث أبي أمامة رضي الله عنه في شأن الدجال.
(3)
رواه ابن ماجه (2/ 516).
وقال السفاريني -رحمه الله تعالى-: "مما ينبغي لكل عالم: أن يبث أحاديث الدجَّال بين الأولاد، والنساء، والرجال، ولا سيما في زماننا هذا الذي اشرأبت فيه الفتن، وكثرت فيه المحن، واندرست فيه معالم السنن"(1). اهـ.
وامتدت شفقته صلى الله عليه وسلم لتشمل إخوانه الذين يأتون من بعده، ولم يروه؛ فبذل لهم النصحَ، ودلَّهم على ما فيه نجاتهم، وحسنُ عاقبتهم (2).
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "
…
وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ» (3) الحديث.
فمن ثم أمسك المسلمون عن استفزاز واستثارة الترك، فَسَلِمُوا من غائلتهم، إلى أن خالفوا التوجيه النبوي، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وقد قَتَلَ جنكيز خان من الخلائق ما لا يَعْلَمُ عددَهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البُداءة من خوارزم شاه، فإنه لما أرسل جنكيز خان تُجَّارًا من جهته معهم بضائعُ كثيرةٌ من بلاده، فانتهوا إلى إيرانَ، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وأخذ جميعَ ما كان معهم، فأرسل جنكيز خان إلى خوارزم شاه يستعلمه: هل وقع هذا الأمر عن رضًى
(1)"لوامع الأنهار البهية"(2/ 106، 107).
(2)
انظر شيئًا من ذلك بهامش ص (37).
(3)
شَطْر حديثٍ رواه أبو داود، رقم (4302)، في كتاب الملاحم، باب في النهي عن تهييج الترك والحبشة، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود (3615)، وانظر "السلسلة الصحيحة"(772).
منه، أو أنه لا يعلم به، فأنكره؟ وقال فيما أرسل إليه من المعهود من الملوك أن التجار لا يُقتلون؛ لأنهم عمارةُ الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التُّجَّار كانوا على دينك، فقتلهم نائبك، فإن كان أمرًا أمرتَ به، طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تُنْكِرُهُ، وتقتصُّ من نائبك.
فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان، لم يكن له جواب سوى أنه أمر بضرب عُنُقِهِ، فأساء التدبيرَ، وقد كان خَرَّفَ وكَبُرَتْ سِنُه، وقد ورد الحديث: "اتْرُكُوا الترْكَ مَا تَرَكوكمْ
…
"، فلما بلغ ذلك جنكيز خان، تجهز لقتاله، وأَخْذِ بِلادِهِ، فكان بِقَدَرِ الله تعالى ما كان من الأمور التي لم يُسْمَعْ بأغرَبَ منها، ولا أبشعَ"(1).
فهنا نرى أن المسلمين لما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك التُّرك؛ جاءت العاقبةُ عنيفةً مريرةً، حيث اجتاح التتار ديار الإسلام في كارثة لم يسبق لها مثيل في التاريخ (2).
وفي أكثر من موضع ذكر الحافظ ابن كثير وقائع القتال بين المسلمين والتتار، وبيَّن أن المسلمين لم يكونوا يتعقبون التتار إذا فروا هاربين أمامهم، ولو كانت الرماحُ تنالهم؛ ومثال ذلك ما ذكره في حوادث سنة ثلاث وأربعين وستمائة: "وفي هذه السنة كانت وقعةٌ عظيمةٌ بين جيش الخليفة وبين التتار -لعنهم الله-؛ فكسرهم المسلمون كسرةً عظيمةً،
(1)"البداية والنهاية"(13/ 119).
(2)
انظر تفصيل ذلك في "المصدر نفسه"(86/ 13 - 91)، وصدق عمرو بن العاص الذي قال لابنه عبد الله رضي الله عنهما:"الخَرَقُ: معاداةُ إمامك، ومناوأة من يقدر على ضررك"، كما في "الإحياء"(3/ 188).