الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-:
"فلهذا تجد عامة مَن في دينه فساد يدخل في الأكاذيب الكونية، مثل أهل الاتحاد، فإن ابن عربي -في كتاب "عنقاء مُغْرِب" وغيرِه- أخبر بمستقبلات كثيرة عامتها كذب، وكذلك ابن سبعين، وكذلك الذين استخرجوا مدة بقاء هذه الأمة من حساب الجُمَّل من حروف المعجم الذي ورثوه من اليهود، ومن حركات الكواكب الذي ورثوه من الكصابئة، كما فعل أبو نصر الكندي، وغيُره من الفلاسفة، وكما فعل بعضُ من تكلم في تفسير القرآن من أصحاب الرازي، ومن تكلم في تأويل وقائع النساك من المائلين إلى التشيع.
وقد رأيت من أتباع هؤلاء طوائفَ يدَّعون أن هذه الأمور من الأسرار المخزونة والعلوم المصونة، وخاطبت في ذلك طوائف منهم، وكنت أحلف لهم أن هذا كذب مفترى، وأنه لا يجري من هذه الأمور شيءٌ، وطلبت مباهلة بعضهم؛ لأن ذلك كان متعلقًا بأصول الدين" (1). اهـ.
ويدخل ضمن هذه الصناعة ما يسميه الرافضة بعلم أسرار الحروف، وأهم مؤلف فيه عندهم
كتاب الجفر، المنسوب كذبًا وبهتانًا إلى جعفر الصادق -رحمه الله تعالى
-، ونسبته إليه كَذِبٌ عليه باتفاق أهل العلم به (2)،
(1)"نفس المرجع"(4/ 81، 82).
(2)
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "ونحن نعلم من أحوال أمتنا أنه قد أضيف إلى جعفر الصادق -وليس هو بنبي من الأنبياء- من جنس هذه الأمور -أي علم النجوم- ما يعلم كل عالم بحال جعفر رضي الله عنه أن ذلك كذب عليه؛ فإن الكذب عليه من أعظم الكذب، حتى أنهم قد نسبوا إليه أحكام الحركات السفلية، =
إذ إن واضع هذا الكتاب هو هارون بن سعيد العجلي (1)، وهو رأس الزيدية، وكان له كتاب يزعم أنه يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص، وقع ذلك لجعفر الصادق ونظائره عن طريق الكشف والكرامة كما يزعمون، ويزعمون أنه كان مكتوبًا عند جعفر في جلد جفر صغير، فرواه عنه هارون العجلي وكتبه، وسماه الجفر، باسم الجلد الذي كُتِبَ فيه، وصار هذا الاسم علمًا على هذا الكتاب عندهم.
وهذا الكتاب لم تتحمل روايته، ولا عُرِفَ عينه، وإنما تَظْهَرُ منه شواذُّ من الكلمات التي لا يصحبها دليل (2)، ويزعمون أن هذا الكتاب مشتمل على حوادث الأزمان على مر العصور، عُرِفَتْ عن طريق علم الحروف المتعلق بآثار النجوم (3).
= والعلماء يعلمون أنه برئ من ذلك كله". اهـ. من "الفتاوى الكبرى"، (1/ 332)، بل قد أورد بعضهم عنه -أي: جعفر الصادق- أنه سُئل عن النجوم؛ فقال: "هو علم قلَّتْ منافعه، وكثرت مضراته؛ لأنه لا يدفع به المقدور، ولا يُتقى به المحذور، وإن أخبر المنجم بالبلاء، لم ينجه التحرز من القضاء، وإن أخبرهم بخبر لم يستطع تعجيله، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه، والمنجم ينازع الله في علمه بزعمه أنه يرد قضاء الله عن خلقه ". اهـ. من "مرآة العقول" (4/ 462).
(1)
هو هارون بن سعيد العجلي، ويقال: الجعفي، الكوفي الأعور، كان من غلاة الرافضة، توفي سنة خمس وأربعين ومائة.
انظر: "الجرح والتعديل"، (9/ 90)، و"ميزان الاعتدال"، (4/ 284)، و"تهذيب التهذيب"، (11/ 6)
(2)
انظر: "مقدمة ابن خلدون"، ص (334).
(3)
انظر: "نفس المصدر".
ومما يتشبثون به لتعضيد هذا المعتقد عندهم ما رواه الكليني عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: "وإن عندنا الجفرَ، وما يدريهم ما الجفرُ؟ فقيل له: ما الجفرُ؟ قال: وِعَاءٌ من أَدَمٍ فيه علم النبيين والوَصِيِّينَ، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل"(1).
وما رواه -أيضًا- أن أبا عبد الله سُئِلَ عن الجفر، فقال:"هو جلد ثور (2) مملوء علمًا"(3)، وتارة يذكرون أن هذا العلم مأثور عن آدم عليه السلام؛ فقد نقل عن اليزيدي الحائري عن كتاب الينابيع:"أما آدمُ عليه السلام فهو نبيٌّ مرسل خلقه الله -تعالى- بيده، ونفخ فيه من روحه، فأنزل عليه عَشْرَ صحائفَ، وهو أول من تكلم في علم الحروف، وله كتاب سفر الخفايا، وهو أول كتاب كان في الدنيا في علم الحروف، ثم ذكر أن آدم عليه السلام وَرَّثَهُ لأبنائه من بعده، وأبناؤه وَرَّثوهُ لمن بعدهم"، وهكذا إلى أن قال:"ثم وَرِثَ هذا العلمَ عن أبيه جعفر الصادقُ، وهو الذي حَلَّ مَعَاقِدَ رموزه، وفك طلاسم كنوزه".
ثم ذكر أن له كتابَ الجفرِ الأكبر، والجفر الأصغر، وأن الجفرَ الأكبرَ إشارة إلى المصادر الوفقية التي هي من أ، ب، ت، ث،
…
إلى آخرها، وأنها أَلفُ وفق، وأن الجفر الأصغر إشارة إلى المصادر الوفقية التي هي مركبة من أبجد إلى قرشت، وهي سبعمائة وفق (4).
(1)"الأصول من الكافي"، (1/ 186).
(2)
هذا مخالف لأصل التسمية؛ إذ إن الجفر ولد الماعز، لا الثور، انظر:"الصحاح"، (2/ 615).
(3)
"الأصول من الكافي"، (1/ 187).
(4)
انظر "إلزام الناصب"، (1/ 232 - 235)، "رسالة شريفة" للصنعاني ص (20 - 28).
وهذا كلُّهُ من أكاذيب الرافضةِ على ال بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتابُ كما ذكرتُ آنفًا نُسبَ كَذبا إلى جعفَر الصادق -رحمه الله تعالى- وليس لهم برهان على إثباته سوى القول المجرد عن الدليل، بل قد نفى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يكون هو وذريته مخصوصين بشيء من الوحي دون الناس، وذلك فيما رواه البخاري -رحمه الله تعالى-:"أنه قيل لعلي رضي الله عنه هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: " لَا، إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ (2)، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ " (3)
أما نسبة هذا العلم إلى آدَمَ عليه السلام فليست صحيحة، إذ إن كل ما رُوي في ذلك عن آدَمَ عليه السلام من أنه كان عالمًا بحروف أبي جاد، وأن الله أنزلها عليه، فقد نُقِلَتْ عن أخبار إسرائيلية، لا يُوثَقُ بها، وقد أجمع المسلمون على أن ما روي عن بني إسرائيل في الأنبياء المتقدمين لا يُجْعَلُ عُمدَةً في ديننا، ولا يجوز التصديقُ بصحتها إلا بحجة صحيحة واضحة (4)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة: "لَا تُصَدّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَا تكَذِّبُوهُمْ، و {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}
…
" (5).
(2) العقل: الدية، "النهاية في غريب الحديث"، (3/ 278).
(3)
أخرجه البخاري، (1604)، كتاب الجهاد والسير.
(4)
انظر: "مجموع الرسائل والمسائل"(1/ 383).
(5)
أخرجه البخاري، (9/ 280)، كتاب التوحيد.