الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كشف حقيقة التنجيم والمنجمين
لقد انبهر صاحب "هرمجدون" بتنبؤات اليهودي اللئيم، وراح يلتمس المعاذير والمسوِّغات؛ ليضفي عليها المصداقية كما رأيت، مع أن الغالب كذب المنجمين، والصدق فيهم نادر، ولا أدري كيف خاض هذا الإنسان في مستنقع "المنجم اليهودي"، وأهمل تفسير من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم لظاهرة صدقِ بعض أقوال الكُهَّان أحيانًا، وهو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
" إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ - وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا، وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ الكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا، فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ "(1).
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْكُهَّانِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُم لَيْسُوا بِشَئءٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّئءِ يَكُونُ حَقّا، قَالَ: فَقَالَ
(1) رواه البخاري (4800)، (8/ 537).
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ» (1).
وعن معاوية بن الحكم رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ:«فَلَا تَأْتِهِمْ» (2).
قال النووي -رحمه الله تعالى-: "قال العلماء: إنما نهى عن إتيان الكُهَّان؛ لأنهم يتكلمون في مُغَيّبَات قد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك؛ لأنهم يُلَبِّسُونَ على الناس كثيرًا من أمر الشرائع، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم"(3) اهـ.
وعن بعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (4).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ " صلى الله عليه وسلم" (5).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ،
(1) رواه البخاري (7561)، (13/ 535).
(2)
رواه مسلم (5/ 20 - نووي).
(3)
"شرح النووي"(5/ 22).
(4)
رواه مسلم (2230)، (4/ 1751).
(5)
البيهقي في السنن الكبرى (16496).
أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ عَقَدَ عُقْدَةً - أَوْ قَالَ: مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً - وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم " (1).
قال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: "إنما يدخل الشبه على الناس في أمر المنجمين من قبيل أنهم يرون المنجمَ يُصيب في مسألة تقع بين أمرين؛ كالجنين الذي لا يخلو من أن يكون ذكرًا أو أنثى، أو المريض الذي لا يخلو من أن يصح أو يموت، والغائب الذي لا يخلو من أن يقيم بمكانٍ أو يئوب.
ومن شأن الناس أن يحفظوا الصوابَ؛ للعُجْبِ به والشَّغَف، ويتناسوا الخطأ؛ لأنه الأصل الذي يعرفونه، والأمرُ الذي لا يُنكرونه، ومن ذا الذي يتحدث بأنه سأل المنجمَ فأخطأ؟! وإنما التحدث بأنه سأله فأصاب (2).
والصواب في المسألة إذا كانت بين أمرين قد يقع أحيانًا للمعتوه والطفل، فضلًا عن المتلطف الرفيق، والقولُ في إصابة المنجِّم كقول الشاعر في الطيرة:
تَعَلَّم أَنّهُ لَا طَيرَ إِلَّا
…
عَلَى مُتَطَيرٍ وَهيَ الثُّبُورُ
وَشَيءٌ قَدْ يُوَافِقُ بَعْضَ شَيءٍ
…
أَحَايِينًا وَبَاطِلُهُ كَثِيرُ
(1) أخرجه البزَّار؛ كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار"(3044)، وقال الهيثمي:"رجاله رجال الصحيح، خلاف إسحاق بن الربيع، وهو ثقة" اهـ من "مجمع الزوائد"(5/ 117)، وصححه في "صحيح الجامع" رقم (5311).
(2)
وهذا ما فعله بعض العابثين بأشراط الساعة؛ فإنهم أهملوا ذكر ما خابت فيه ظنون "نوستراداموس" وما أكثره! واقتصروا على ذكر القسم الآخر، وراجع: ص (103 - 104).
وإن وُجِد لمن يَدَّعي الأحكامَ إصابه في شيء، فخطؤه أضعافُه، ولا تبلغُ إصابتهُ عُشْرَ مِعْشاره، وتكون الإصابة اتفاقًا كما يظن الظانّ المنافي للعلم المقارن للجهل الشيءَ، فيكونُ على ظنه، ويخطئ فيما هو معلومٌ أكثرَ عُمُره، ولا يُقَالُ: إن هذه إصابة يُعَوَّل عليها، ويُرْجَع إليها، بل إذا تكررت منه الإصابة في قوله، وكثر الصدقُ في لفظه، والصحة في حكمه، ولم يُخْرَمْ منه إلا الأقل، حينئذ سلمت له هذه الفضيلة، وشُهِدَ له بهذه المعجزة، ولا فرق بين المنجم والكاهن؛ إذ كلّ واحدٍ منهما يدَّعي الإخبارَ بالغيوب، وكيف يُسَلَّمُ للمنجمين ما يَدَّعونه، وأحدهم على التحقيق ما يعرف ما حدث في منزله، ولا ما يُصلح أهلَه وَوَلَدَهُ؟ بل لا يعرف ما يُصلحهُ في نفسه، ويؤثر عنه أن يخبر بالغيب الذي لم يُؤْتِهِ الله أحدًا، ولم يستودعه بشرًا، إلا لرسول يرتضيه، أو نبيِّ يصطفيه" (1). اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:
"ولما أراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يسافر لقتال الخوارج عرض له منجم، فقال: يا أمير المؤمنين! لا تسافر؛ فإن القمر في العقرب؛ فإنك إن سافرت والقمر في العقرب هُزِمَ أصحَابُك -أو كما قال- فقال عليّ: بل أسافر ثقة بالله، وتوكلًا على الله، وتكذيبًا لك؛ فسافر، فبورك له في ذلك السفر، حتى قتل عامَّة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سُرَّ به؛ حيث كان قتاله لهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم"(2)
(1)"القول في علم النجوم" ص (192 - 194).
(2)
"مجموع الفتاوى"(35/ 178 - 179).
إلى أن قال -رحمه الله تعالى-: "وكذلك أيضًا الاستدلال على الحوادث بما يستدلون به من الحركات العلوية، والاختيارات للأعمال: هذا كله يُعلم قطعًا أن نبيًّا من الأنبياء لم يؤمر قطّ بهذا؛ إذ فيه من الكذب والباطل ما ينزه عنه العقلاء الذين هم دون الأنبياء بكثير" اهـ (1).
وقال الإمام محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي -رحمه الله تعالى- عند تفسيره قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن: 26، 27]: (قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدَّح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيبَ أحدٌ سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزةً لهم ودلالةً صادقةً على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى، وينظر في الكتب، ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه؛ بل هو كافر بالله، مفترٍ عليه بحَدْسِه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم، وتباين رتبهم، فيهم الملك والسُّوقة، والعالم والجاهل، والغنيُّ والفقير، والكبير والصغير، مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم؛ فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة؟ فإن قال المنجم قبحه الله: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه
(1)"السابق"(35/ 182)، وا نظره:(35/ 191 - 197).
المخصوص به، فلا فائدة أبدًا في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقيٍّ ولا سعيد، ولم يبقَ إلَّا معاندة القرآن العظيم. وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال:
حَكَمَ المنَجِّمُ أن طالعَ مولِدِي
…
يقضِي عليَّ بِميتةِ الغَرقِ
قُلْ لِلْمُنَجِّمِ صَبحَةَ الطّوفانِ هَل
…
وُلِدَ الجمِيعُ بكوكَبِ الغَرَقِ
وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: "أتلقاهم والقمر في العقرب؟ "، فقال رضي الله عنه:"فأين قمرهم؟ "، وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الرد على مَن يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف:"يا أمير المؤمنين! لا تَسِرْ في هذه الساعة، وسِرْ في ثلاث ساعات يمضين من النهار"، فقال له علي رضي الله عنه:"ولمَ؟ "، قال:"إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت". فقال علي رضي الله عنه: "ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم مُنَجِّم، ولا لنا من بعده" -في كلام طويل يَحتجُّ فيه بآيات من التنزيل- "فمن صَدَّقَكَ في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نِدًّا أو ضدًّا، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلَّا خيرك". ثم قال للمتكلم: "نكذّبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي تنهانا عنها".
ثم أقبل على الناس، فقال: "يأيها الناس، إياكم وتعلمَ النجوم إلَّا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر؛ وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم،
وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيتَ وبقيتُ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان". ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم، وهي وقعة النَّهْرَوَان الثابتة في الصحيح لمسلم، ثم قال: "لو سِرْنا في الساعة التي أمرنا بها، وظفرنا، وظهرنا، لقال قائل: سار في الساعة التي أمر بها المنجم، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا مِن بعده، فتح الله علينا بلاد كِسرى وقيصر وسائر البُلدان"، ثم قال: "يأيها الناسُّ؛ توكلوا على الله وثقوا به؛ فإنه يكفي ممن سواه" (1) اهـ.
قال الخليل بن أحمد -رحمه الله تعالى-:
خَبِّرا عني المنجمَ أني
…
كافرٌ بالذي قضته الكواكبْ
عالمٌ أن ما يكون وما كان
…
قضاءٌ من المهيمنِ واجبْ (2)
وقال القاسم بن محمد الأنباري -رحمه الله تعالى-:
إني بأحكام النجوم مُكذِّبٌ
…
وَلمُدَّعيها لائمٌ ومؤنِّبُ
الغيبُ يعلمُه الهيمنُ وحدَه
…
وعن الخلائق أجمعين مُغَيَّبُ
الله يُعطي وهْوَ يمنع قادرًا
…
فمن المنجم وَيْحَهُ والكوكبُ (3)
وقال المتنبي:
فتبًّا لدينِ عبيدِ النجومِ
…
ومن يدَّعي أنها تعقلُ (4)
(1)"الجامع لأحكام القرآن"(19/ 28، 29).
(2)
"بهجة المجالس" لابن عبد البر (3/ 115).
(3)
"معجم الأدباء" لياقوت الحموي (4/ 634).
(4)
"ديوان المتنبي" ص (256).
فارغ