الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن كثيرًا من الجماعات الدعوية تبني خططها على أساس ترقب حصول هذا الاستثناء، وتهمل قانون السنن الإلهية الثابتة العادلة.
إن خرق العادة في كلّ موقفِ محنةٍ للمسلمين -ينافي كون الدنيا دار عمل وامتحان، والإيمان الذي ينشأ نتيجة الاضطرار لا اعتداد به؛ كإيمان الكافر عند حضور ملك الموت، واليقين الذي ينشأ اضطرارًا لا عبرة به {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة 12].
لقد أزعج هذا النمط العجيب من التفكير كثيرًا من الناصحين؛ فكتبوا يُصَحِّحُونَ المفاهيم، ويُحَذِّرُونَ الأمةَ من الذين {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} ، وهاك مقالات بعضهم:
أولًا:
قال العلَّامَةُ المجدِّد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى-: "لا يجوز للمسلمين اليوم أن يتركوا العمل للإسلام، وإقامة دولته على وجه الأرض انتظارًا منهم لخروج المهدي
، ونزول عيسى عليهما السلام يأسًا منهم أو توهمًا أن ذلك غير ممكن قبلهما، فإن هذا تَوَهُّم باطل، ويأسٌ عاطل؛ فإن الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم لم يخبرنا أن لا عودة للإسلام، ولا سلطان له على وجه الأرض إلَّا في زمانهما؛ فمن الجائز أن يتحقق ذلك قبلهما إذا أخذ المسلمون بالأسباب الموجبة لذلك؛ لقوله تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقوله":{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
ولقد كان هذا التوهم من أقوى الأسباب التي حملت بعض الأساتذة المرشدين، والكتاب المعاصرين، على إنكار أحاديث المهدي وعيسى عليهما السلام، على كثرتها وتواترها؛ لما رأوا أنها عند المتوهمين
مَدْعَاة للتواكل عليها، وترك العمل لعز الإسلام من أجلها؛ فأخطئوا في ذلك أشد الخطأ من وجهين:
الأول: أنهم أقرُّوهم على هذا التوهم؛ على اعتبار أن مصدره تلك الأحاديث المشار إليها؛ وإلا لم يبادروا إلى إنكارها.
والآخر: أنهم لم يعرفوا كيف ينبغي عليهم أن يعالجوا التوهم المذكور؟ وذلك بإثبات الأحاديث، وإبطال المفاهيم الخاطئة مِن حولها، وما مَثَلُهُمْ في ذلك إلا كَمَثَلِ من أنكر عقيدة الإيمان بالقدر خيرِهِ وشرّهِ؛ لأن بعض المؤمنين به فَهِمُوا منه أن لازمه الجبر، وأنَّ المكلَّف لا كسب له، ولا اختيار، ولما كان هذا الفَهْمُ باطلا بَدَاهةً سارعوا إلى إنكاره، ولكنهم أنكروا معه القدر أيضا؛ لتوهمهم -أيضا- مع المتوهمين أنه يعني الجبرَ، فوافقوهم في خطئهم في التوهم المذكور، ثم زادوا عليهم خطأً آخرَ -فِرَارا من الأول- وهو إنكارهم للقدر نفسه؛ فلولا أنهم شاركوهم في فَهْمِهِمْ منه الجبرَ لما أنكروه.
وهذا عين ما صنعه البعض المشارُ إليه من الأساتذة والكُتَّاب؛ فإنهم لما رأوا تواكل المسلمين، إلا قليلًا منهم، على أحاديث المهدي وعيسى، بادروا إلى إنكارها لتخليصهم -بزعمهم- من التواكل المذكور، فلم يصنعوا شيئًا؛ لأنهم لم يستطيعوا تخليصهم بذلك من جهة؛ ولا هم كانوا على هُدًى في إنكارهم للأحاديث الصحيحة من جهة أخرى.
والحقيقة: أن هؤلاء المنكرين الذين يفهمون من هذه الأحاديث ما لا تدلُّ عليه من التواكل المزعوم؛ ولذلك يبادرون إلى إنكارها تَخلُّصًا منه، قد جمعوا بين المصيبتين: الضلال في الفَهم، والكفر بالنص، ولكنهم عَرَفُوا أن الفَهْمَ المذكورَ ضلال في نفسه؛ فأنكروه بإنكار النص الذي فهموا ذلك منه.
وعَكَسَ ذلك العامَّةُ، فآمنوا بالنص مع الفَهْم المذكور، فمع كلِّ مِن الفريقين هدًى وضلال. والحق: الأخذ بهُدَى كل منهما، ونبذ الضلال الذي عندهما؛ وذلك بالإيمان بالنص دون الفهم الخاطئ.
وما مثل هؤلاء وهؤلاء إلا كمثل المعتزلة من جهة، والمشبّهة من جهةٍ أخرى؛ فإن الأولين تأوَّلوا آياتِ وأحاديثَ الصفات بتاَويلَ باطلةٍ، أودت بهم إلى إنكار الصفات الإلهية، وما حملهم على ذلك إلا فِرَارُهُمْ من التشبيه الذي وقع فيه المشبِّهة. والحقيقة: أن المعتزِلَة أنفسهم شاركوا المشبّهة في فَهْم التشبيه من آيات الصفات، ولكنهم افترقوا عنهم بإنكار التشبيه بطريق التأويل الذي هو باطل -أيضًا- كالتشبيه؛ لِمَا لزم منه من إنكار الصفات الإلهية، وأما المشبّهة فلم يقعوا في هذا الباطل، ولكنهم ثبتوا على التشبيه.
والحق: الجمعُ بين صواب هؤلاء وهؤلاء، وردُّ باطل هؤلاء وهؤلاء؛ وذلك بالإثبات والتنزيه؛ كما قال الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].
وكذلك أقول في أحاديث نزول عيسى عليه السلام، وغيرها؛ فإن الواجب فيها إنما هو الإيمان بها، وردُ ما توهمه المتوهمون منها؛ من ترك العمل، والاستعداد الذي يجب القيامُ به في كل زمان ومكان، وبذلك نكون قد جمعنا بين صواب هؤلاء وهؤلاء، ورددنا باطل هؤلاء وهؤلاء، والله المستعان" (1). اهـ.
(1)"قصة المسيح الدجال"، للألباني -رحمه الله تعالى- ص (36 - 38).