الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعْليقُ الْعَلَّامَةِ أحْمَد شَاكِر
عَلَى كَلام الحافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ وَمَنْ وافَقَهُ
قال رحمه الله في مقدمة "عمدة التفسير":
"إن إباحة التحدث عنهم -فيما ليس عندنا دليل على صدقه ولا كذبه- شَيء، وَذِكْرُ ذلك في تفسير القراَن -وَجَعْلُهُ قَوْلًا أو رواية في معنى الآيات، أو في تعيين ما لم يُعَيَّن فيها، أو في تفصيلِ ما أُجْمِل فيها- شيءٌ آخر!! لأن في إثبات مثل ذلك بجوار كلام الله ما يُوهم أن هذا الذي لا نعرف صدقه ولا كذبه مُبَيِّن لمعنى قول الله -سبحانه- ومُفَصِّل لما أُجْمِلَ فيه، وحاشا لله وكتابه من ذلك.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -إذ أذن بالتحدث عنهم- أَمَرَنَا أن لا نُصَدِّقَهُمْ ولا نكَذِّبَهُم، فأيُّ تصديقِ لرواياتهم وأقاويلهم أقوى من أن نقرنها بكتاب الله، ونضعها منه موضع التفسير أو البيان؟! اللهم غفرًا".
ثم نقل عن الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- قوله: "
…
وفي القرآن غُنْيَة عن كل ما عَدَاهُ من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وُضِعَ فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الْحُفَّاظِ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين؛ كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة والأتقياء، والبررة والنجباء، من الجهابذة النقاد، والْحُفَّاظ الجياد، الذين دَوَّنوا الحديث وحرَّروه، وبيَّنوا صحيحه من حسنه من ضعيفه، من منكَره
وموضوعه، ومتروكه ومكذوبه، وعزَفوا الوضَّاعين، والكذَّابين، والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال؛ كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي، خاتَم الرُّسُل، وسيد البشر صلى الله عليه وسلم أن يُنْسَبَ إليه كَذِبٌ، أَو يُحَدَّثَ عنه بما ليس منه، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل".
وقال ابن كثير -رحمه الله تعالى- عند تفسير الآيات (51 - 56) من سورة الأنبياء، بعد إشارته إلى حال إبراهيم عليه السلام مع أبيه، ونظره إلى الكواكب والمخلوقات:"وما قَصَّهُ كثيرٌ من المفسرين وغيرِهم فعَامَّتُها أحاديثُ بني إسرائيل، فما وافقَ منها الحقَّ مما بأيدينا عن المعصوم قَبِلْنَاهُ؛ لموافقته الصحيح، وما خالف منها شيئا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة، لا نصدِّقهُ ولا نكذِّبه، بل نجعله وَقْفًا، وما كان من هذا الضَّرْب منها فقد رخَّص كثير من السلف في روايته، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه، ولا حاصل له مما يُنْتَفَعُ به في الدِّين، ولو كانت فائدتُهُ تعود على المكلَّفين في دينهم لبينَتْهُ هذه الشريعةُ الكاملةُ الشاملةُ، والذي نَسْلُكُه في هذا التفسير الإعراضَ عن كثير من الأَحاديث الإسرائيلية؛ لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتَمل عليه كثير منها من الكذب الْمُرَوَّج عليهم؛ فإنهم لا تَفْرِقَةَ عندهم بين صحيحها وسقيمها، كما حَرَّره الأئمة الحُفَّاظُ المتْقِنُون من هذه الأمة".
وقال -أي: ابن كثير- عند تفسير الآية (102) من سورة البقرة: "وقد رُوي في قصة هاروتَ وماروتَ عن جماعة من التَّابعين؛ كمجاهد، والسُّدي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والرَّبيع بن أنس، ومقاتل بن حيَّان، وغيرهم، وقصَّها خلق من المفسرين؛ من المتقدِّمين
والمتأَخرين، وحاصلُها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل؛ إذ ليس فيها حديثٌ مرفوعٌ صحيح متَّصلُ الإسنادِ إلى الصادقِ المصدوقِ المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهرُ سياق القرآن إجمالُ القصة من غير بَسْطٍ ولا إطنابٍ فيها، فنحن نُؤْمِنُ بما ورد في القرآن على ما أراده الله -تعالى- والله أعلم بحقيقة الحال".
وقال -ابن كثير- في أول سورة (ق): "وقد رُوي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق جبلٌ مُحيط بجميع الأرض، يقال له جبل قاف!! وكأنَّ هذا -والله أعلم- من خرافاتِ بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعضُ الناس؛ لِمَا رأَى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدَق ولا يكذَّب، وعندي أن هذا وأمثالَهُ وأشباهَهُ من اختلاقِ بعض زنادقتهم، يُلَبِّسُونَ به على الناس أمرَ دينهم؛ كما افْتُرِي في هذه الأمة -مع جلالة قدر علمائها، وحُفَّاظها، وأئمتها- أحاديثُ على النبي صلى الله عليه وسلم وما بالعَهْدِ من قِدَمٍ؛ فكيف بأمةِ بني إسرائيلَ، مع طول المدَى، وقلةِ الحُفَّاظ النُقَّاد فيهم، وشُرْبِهِمُ الخمورَ، وتحريف علمائهم الكلمَ عن مَوَاضِعِه، وتبديلِ كُتُبِ الله وآياتِه، وإنما أباح الشارعُ الروايةَ عنهم في قوله: "وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائيلَ وَلَا حَرَجَ " فِيمَا قد يُجَوِّزُهُ العقل، فأما فيما تُحِيلُه العقول، ويُحْكَمُ فيه بالبُطلان، ويَغْلُبُ على الظنون كذبُهُ، فليس من هذا القبيل".
وقال أيضًا عند تفسير الآيات (41 - 44) من سورة النمل، وقد ذكر في قصة ملكة سبأ أثرًا طويلا عن ابن عباس، وَصَفَه بأنه "منكر غريبٌ جدًّا"، ثم قال: "والأقربُ في مثل هذه السياقات أنَّها مُتَلقَّاة عن أهل الكتاب، مما وُجِدَ في صُحُفِهِم، كروايات كَعْب، وَوَهْب، سامحهما الله فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد، والغرائب،
والعجائب، مما كان، وما لم يكن، ومما حُرِّف، وبُدِّل، ونُسِخَ، وقد أغنانا الله -سبحانه- عن ذلك بما هو أصحُّ منه، وأنفعُ، وأوضحُ، وأبلغُ، ولله الحمْدُ والمنَّة".
وقال عند تفسير الآية (46) من سورة العنكبوت، بعد أن رَوَى الحديث:"إذَا حَدَّثَكُم أَهْلُ الكِتَاب فَلا تُصَدِّقُوهُم، ولا يكَذّبُوهُم "، قال:" ثُمَّ ليُعْلَم أنَّ أكثرَ ما يتحدَّثون به غالبُهُ كذبٌ وبهتانٌ؛ لأنه قد دخله تحريفٌ، وتبديلٌ، وتغييرٌ، وتاويلٌ، وما أقلَّ الصدق فيه! ثم ما أقلَّ فائدتَه لو كان صحيحًا! "
وقال عند تفسير الآية (190) من سورة الأعراف: "ثم أخبارُهم على ثلاثة أقسام: فمنها ما علمنا صحتَهُ، بما دلَّ عليه الدليلُ من كتاب الله أو سنة رسوله، ومنها ما علمنا كذبَه، بما دلَّ على خلافه من الكتاب والسنة -أيضًا-، ومنها ما هو مسكوتٌ عنه، فهو المأذون في روايته، بقوله عليه السلام: "حَدّثُوا عَنْ بَنِي اِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ "، وهو الذي لا يُصدَّقُ ولا يُكذَّب؛ لقوله: "فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ، وَلَا تكَذِّبُوهُم ".
وهناك قصةٌ طويلةٌ جدًّا، رواها النسائي في باب التفسير من السنن الكبرى، التي لم نَرَها، وابن أبي حاتم في تفسيره، عن ابن عباس، ويسميها الحافظُ ابن كثير "حديث الفُتُون" ساقه بِطُوله عند تفسير قوله -تعالى-:{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} ، من الآية (40) من سورة طه، ثم قال:"وهو موقوفٌ من كلام ابن عبَّاس، وليس فيه مرفوعٌ إلَّا قليلٌ منه، وكأنَّهُ تلقَّاه ابن عباس مما أُبيح نقله من الإسرائيليات، عن كعب الأحبار، أو غيره، والله أعلم، وسمعتُ شيخنا أبا الحجاج المِزِّيَّ يقول ذلك أيضا".
وهذا الحديث -حديث الفُتُون- يشيرُ إليه الحافظ ابن كثير، في مواضعَ متعددةٍ من تفسيره، وقد نفيتُه عن كتابي هذا نَفْيًا، ولم أُشر إليه إلَّا مرةً واحدةً، عند أول مرة أشار إليه ابنُ كثير فيها، عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة، ثم أعرضتُ عن الإشارة إليه -إن شاء الله- فلا أُشِيرُ إليه إِلَّا أنْ أُضطَرَّ إلى ذلك اضطرارًا، وأسأل الله التوفيق والتيسير، والهدى والسداد.
ومن أعظَمِ الكَلِمِ في الدلالة على تنزيه القرآن العظيم عن هذه الأخبار الإسرائيلية؛ كلمةٌ لابن عباس، رواها البخاري في "صحيحه"، ونقلها عنه الحافظُ ابنُ كثير، عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة، فقال ابن عباس:"يا معشَرَ المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابُكم الذي أنزل الله على نبيّهِ أحْدَثُ أخبارِ الله، تقرءونه مَحْضًا لم يُشَبْ! وقد حدَّثكم الله أنَّ أهل الكتابِ قد بَدَّلُوا كتابَ اللهِ وغَيَّرُوه، وكتموا بِأيديهم الكتابَ، وقالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا به ثمنًا قليلًا، أفَلَا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءَلَتِهِم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قَطُّ سألكم عن الذي أُنزل إليكم ".
وهذه الموعظةُ القويةُ الرائعةُ رواها البخاري في ثلاثة مواضِعَ من "صحِيحِه ": [5: 215، 13: 282، 414 من فتح الباري](1). اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- وهو يناقش حكم النظر في كتب أهل الكتاب: "والذي يظهر أن كراهية ذلك للتنزيه لا للتحريم، والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويَصِرْ من الراسخين
(1)"عمدة التفاسير"، (1/ 13 - 17)