الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: الأستاذ الشيخ أبو الأعلى المودودي -رحمه الله تعالى
-:
بعد أن أنكر على من ينكرون ظهور المهدي، أنحى فضيلته باللائمة على الذين يؤمنون بظهور المهدي لكنهم يتخذون ذلك ذريعة إلى السلبية والتواكل والاستكانة بحجة انتظار المهدي، فقال -رحمه الله تعالى-: بهم "يتصورون أن الإمام المهدي سيكون رجلًا من نمط قدماء المشايخ الصوفية الذين يُفَضِّلون أورادَهم وأذكارَهم على أوراد وأذكار المصطفى صلى الله عليه وسلم، والذين يزيدون في الدين نوعًا من تزكية النفس كما يدَّعون، لأن الذي نزلت عليه الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قصَّر بهذا، فأتت أمتُه -بدون خزعبلاتهم- قاسيةَ القلوب، رققوها وهذبوها بما استوردوه من ديانات الهند والسند، ومن رقصات السامبا والتويست، وغاب عن ذهنهم أن تزكية النفوس بالجهاد والحركة المستمرة الدءوب، فلا يسمع به الناس إلا وقد ظهر من معهد قديم، أو خرج من زاوية اعتكاف يُصَرِّف السُّبْحة بيده، ويتلو الأوراد بلسانه، ويعلن على الخلق: "أنا المهدي أيها الناس! "، وإذا العلماء والمشايخ يُهَرْوِلون إليه حاملين بأيديهم الكتبَ والأسفار، يقابلون هيئته وهندامه بما ورد فيها من سماته وعلاماته فيعرفونه، ثم تكون البيعة العامة، ويتبعها إعلان الجهاد، وهنالك يبادر جميع الدراويش المعتكفين في خلواتهم، وأما إذا قام الجهاد ووقع القتال، فلا يستعمل فيه السيف إلا تَحِلَّة القسم (1)، وانما تعمل البركة والتصرفاتُ الروحية عملَها في
(1) تحلة القسم: أن يباشر من الفعل الذي أقسم عليه المقدار الذي يبر به قسمه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسَّه النارُ إلا تحلةَ القَسَم" رواه البخاري =
المعارك، ويُحاز الظفر والانتصار بفضل النفثات والأوراد، حيث لا يرمي المجاهدون بنظرهم إلى كافر إلا ويخِرّ مغشيًّا عليه، ولا يرفعون أيديهم بالدعاء على الأعداء إلا وتخور هممهم، وتنخر الديدان في طائراتهم ودباباتهم
…
فهذا مثل تصورات عامة المسلمين في ظهور الإمام المهدي، ولكن الذي أفهمه في أمره هو أن الحقيقة على عكس ذلك كلّه؛ فالذي أقدِّره وأتصوره أن الإمام المنتظر سيكون زعيمًا من الطراز الأحدث في زمانه، بصيرًا بالعلوم الجديدة بصر المجتهد المُطَّلِع، ويكون جيد الفهم لمسائل الحياة، ويبرهن للعالمين رجاحة عقله وفكره، وبراعة تفكيره السياسي، وكمال حذقه لفنون الحرب، ويبز كلَّ أبناء زمانه الجدد في تقدمه وارتقائه، وإني لأخشى أن حضرات المشايخ ورجال الدين هؤلاء هم يكونون أول من يرفع النكير على رجحانه إلى الوسائل العصرية وعلى طرقه المحدثة للإصلاح، ثم لا أراه (أي: المهدي) سيكون مختلفًا في بيئته وهيئته عن عامة البشر، بحيث يعرفه الناس بعلاماته الخاصة وسماته المعلومة، كما لا أتوقع أنه يعلن
= (11/ 472 - فتح)، ومسلم رقم (2632). قيل: إن المقصود بالقسم قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} والأقرب أنه معطوف على قوله عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} .
أو يقال: ليس في الآية ولا في الحديث قسم؛ لأن من أساليب العرب التعبير بتحلة القسم عن القلة الشديدة، وإن لم يكن هناك قسم أصلًا؛ يقولون:"ما فعلت كذا إلا تحلة الفسم" يعنون: إلا فعلًا قليلًا جدًّا ما يحلل به الحالف قسمه، ومنه قول كعب بن زهير في وصف ناقته:
تخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لاحِقةً
…
ذوابل وَقْعُهُن الأرضَ تَحلِيلُ أي: أن قوائم ناقته لا تمس الأرض لشدة خفتها إلا بقدر تحليل القسم، وانظر:"أضواء البيان"(4/ 354).