الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمقَالُ السادس: مِنْ سنَن الأنْبِياءٍ الأخْذُ بالأسبَاب المادِيةِ
قال الأستاذ/ محمد العبدة -حفظه الله تعالى
-:
"في غمرة الاندفاع العاطفي، وزحمة الأحداث السطحية، يتناسى المسلمون، أو قد يجهلون سننَ التغيير التي أودعها الله سبحانه وتعالى في كتابه، أو أجراها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وبعض هذه السنن يعرفها الناس بالتجرِبَةِ الطويلة، والخبرات المتراكمة المتأملة. ومن هذه السنن أن الدعواتِ الصادقةَ إذا أُرِيدَ لها النجاحُ؛ لابد لها من قُوًى تؤيدها، وتنصرها؛ قوى من التكتل الجماهيري الذي يلتف حول هدف واضح محدد، أو بمصطلح ابن خلدون: لابد من "العصبية" التي تعني الالتحام، والتعاضد، والتنافر؛ لتحقيق هدف معين، وليس المعنى المذموم لكلمة "عصبية".
وإذا كان التكتل سابقًا يَعْتَمِدُ على القبائل، والعشائر، فإنه في العصر الحديث يعتمد على جميع شرائح المجتمع، الذين يلتفون حول علماء فقهاء؛ يُعمِلون بفقههم، وتفكيرهم سننَ التغيير، وتحويل المجتمعات، والتأثير فيها، وخاصةً ما نحن فيه من تعقيدات هذا العصر.
هذه القوة والمنعة هي التي افتقدها نبي الله لوط عليه السلام حين قال: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} [هود: 80]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رَحِمَ اللهُ لُوطًا كانَ يَأوِي إِلى رُكنٍ شَدِيدٍ، وَمَا بَعَثَ الله بَعدَهُ نَبِيًّا إِلا وَهوَ في ثَرْوَةٍ مِنْ قَومِهِ"(1).
(1) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الإمام أحمد، (2/ 232)، والحاكم، (5/ 561)، وقال:"صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وأورده الألباني في "الصحيحة"، رقم (1867).
ويقول الإمام الجويني: "ما ابتعث الله نبيَّا في الأمم السالفة حتى أيَّده، وعضَّده بسلطان ذي عدة ونجدة، ومن الرسل عليهم السلام مَن اجتمعت له النبوة، والأيد، والقوة؛ كداود، وموسى، وسليمان -صلوات الله عليهم أجمعين-"(1).
فإذا كان الأنبياء يؤيَّدون "بثروة من قومهم"؛ وهي القوة والمنعة في العدد والعدة، وهم مع ذلك مُؤَيَّدونَ بالمعجزات وخوارق العادات، فكيف بغيرهم الذين يرومون التغيير بالعشرات أو المئات (2)، ويقولون نحن نتوكل على الله؟! لا شك أن المسلم يطلب العون من الله، ويتوكل عليه، والله -سبحانه- وعد المسلمين بالنصر، ولكن لا بد من الأخذ بالأسباب الشرعية، ومن أهمها تجميع القوى التي تناصر وتعاضد.
هل درسنا هذا الموضوع بعمق وأناة، أم أن مقولة:"نعمل والنتائج على الله"، لا تزال هي الشائعة، والأكثر قبولًا ورواجًا، مع أنها ظاهريًّا صحيحة؛ فهي كلمة حق تُسْتَخْدَمُ في غير محلِّها؛ فالقول بأننا نعمل يجب أن يُمَحَّصَ؛ إذ ما يدريك أن عملك صواب، قد أَخَذْتَ فيه بالأسباب؟ نعم، إذا بُذِلَ الجهد الصحيح؛ فالنتائج على الله، أما أن يُعمل أيُّ عمل، ثم يقالَ:"النتائج على الله"؛ فهذا ضرب من حب
(1)"غياث الأمم"، ص (182).
(2)
وقد نعت ابن خلدون هذا الصنف من المغامرين بقوله: "أخذوا أنفسهم بإقامة الحق، ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته". اهـ. من "مقدمة ابن خلدون" ص (159)، ط. دار القلم 1981م.
السهولة (1)، وهروب من النقد، وحتى نستريحَ نفسيًّا من اللوم والتقريع، وحتى مع توفر عنصر الإخلاص في هذا العمل، فهذا لا يكفي؛ فلا بد من معرفة سنن الله في التغيير" (2). اهـ.
(1) بل يمكن أن نسميه "التفاؤل الْمَرَضيَّ"، والذي نراه في تصرفات بعض المضطربين وجدانيا؛ كحالات الزَّهْو، ونوبات النشوة والاغتباط (mania) أو (hybomania) التي يكون كل شيء أثناءها ممكنًا، فترى صاحبها "يتفاءل" بلا حدود، وبدون أي إدراك لحدود إمكاناته المادية، فتجده يشتري سيارة باهظة الثمن في الوقت الذي لا يجد له مأوى، فكل شيء بالنسبة إليه كان ممكنًا، وينتهي الأمر بالتورط في أقساط والتزامات ومديونيات
…
وكوارث!
والمطلوب هو "التفاؤل الإيجابي" الذي يُنَشِّط الدافعية للإنجاز في إطار عملي واقعي.
(2)
"خواطر في الدعوة"، ص (69، 70).