الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا، ولا ينبغي أن يفهم بحال من الأحوال، أن قولنا عن الإسلام: إنه أرقى الأديان السماوية وأسماها، وأكملها وأوفاها، وأن تشريعاته وتوجيهاته قد بلغت القمة التي لم تبلغها شريعة من قبل، فيه انتقاص لغيره من الشرائع السماوية، معاذ الله أن يكون ذلك قصدنا، فليس مؤمنا ولا مسلما من ينتقص شريعة سماوية أنزلها الله على رسول من رسله، الله تعالى: يخاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله:
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1). ويقول مثنيا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى من اتبعه من المؤمنين:
والذي يجب أن يفهم: هو أن كل شريعة من الشرائع السماوية تعتبر في وقتها - بالنسبة لأتباعها - في منتهى الكمال؛ لأنه لا يصدر عن الله تعالى إلا الكمال المطلق، ولأن كل شريعة - كما قلنا - جاءت مطابقة لحاجات المخاطبين بها، ولو أنها انحطت عن مستواها، لعد ذلك قصورا فيها، لأنها تكون دون الحاجة، كما أنها لو ارتفعت إلى مستوى شريعة تجيء بعدها لعد ذلك مجافيا للحكمة والصواب، لأنها تكون فوق الحاجة، والحكمة كل الحكمة هو الملاءمة بين احتياجات كل أمة وما يشرع لها، كما يلائم الطبيب الماهر بين علة المريض وما يصف له من دواء.
* * *
(1) سورة البقرة الآية 136
(2)
سورة البقرة الآية 285
موقف البشر من الديانات ومدى تمسكهم بها
وبعد فما هو موقف البشر من الديانات، وما مبلغ تمسكهم بها؟
هل استجابت كل أمة لرسولها؟
وهل وقف أتباع كل دين عند حدوده والتزموا بتعاليمه التي دعا إليها، وتشريعاته التي نص عليها؟
أو أنهم ارتكسوا في حمأة الغي والضلال، ونكصوا على أعقابهم عائدين إلى نزعات أهوائهم ونزوات شهواتهم؟
الواقع: أن البشر أمام هذه الديانات فرق شتى:
ففريق لزم الجادة
فاتخذ دينه الذي هداه الله إليه سبيله في الحياة، لا يحيد عنه ولا يميل، فسعد وشق طريقه إلى ما فيه خير الدنيا وسعادة الآخرة.
وفريق ثان
آمن بدينه الذي أرشده الله إليه، ولكنه رغم إيمانه به انحرف عنه في سلوكه ظاهرا وباطنا، وجاهر بالمخالفة، وبارز الله بالمعصية في غير مبالاة ولا حياء، فشقي في حياته الدنيا، وعرض نفسه لسخط الله وعقابه.
وفريق ثالث
آمن بدينه الذي ارتضى الله له، ولكنه نافق واتخذ التدين شعارا زائفا يموه به على العامة، ويخدع به من ينطلي عليهم زوره وبهتانه، وقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصنف من المنافقين، وبين مآلهم وعاقبة أمرهم فقال.
وفريق رابع
جحد الأديان كلها، وزعم أنها جميعا أوهام وأباطيل مستحدثة، يقول أستاذنا المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (الدين) ص 73 وما بعدها:
" ذهب بعض كتاب القرن الثامن عشر الذين مهدوا للثورة الفرنسية إلى أن الديانات والقوانين ما هي إلا منظمات مستحدثة، وأعراض طارئة على البشرية،
حتى قال (فولتير): إن الإنسانية لا بد أن تكون قد عاشت قرونا متطاولة في حياة مادية خالصة، قوامها الحرث، والنحت، والبناء، والحدادة، والنجارة. . . قبل أن تفكر في مسائل الديانات والروحانيات، بل قال: إن فكرة التأليه إنما اخترعها دهاة ماكرون، من الكهنة، والقساوسة الذين لقوا من يصدقهم من الحمقى والسخفاء ".
ثم بين رحمه الله أن هذه النظرة الساخرة إلى الأديان ليست مبتكرة، وإنما هي ترديد لصدى مجون قديم كان يتفكه به أهل السفسطة من اليونان، وكانوا يروجونه فيما روجوه من المغالطات والتشكيكات.
ثم قال: " إنه لم ينقض القرن الثامن عشر حتى ظهر خطأ هذه المزاعم: حيث كثرت الرحلات إلى خارج أوربا، واكتشفت العوائد، والعقائد، والأساطير المختلفة، وتبين من مقارنتها أن فكرة التدين
(1) رواه الترمذي عن أبي هريرة.
فكرة مشاعة لم تخل عنها أمة من الأمم في القديم والحديث، رغم تفاوتهم في مدارج الرقي ودركات الهمجية ".
ثم قال: ". . . ولسنا ننكر أن تكون هناك عقيدة معينة قد استحدثت في عصر ما، أو أن يكون ثمة وضع خاص من أوضاع العبادات قد جاء مجلوبا مصنوعا، فذلك سائغ في العقل، بل واقع بالفعل، أما فكرة التدين في جوهرها، فليس هناك دليل واحد على أنها تأخرت عن نشأة الإنسان ".
. . . وأخيرا هناك فريق خامس.
هو فريق العلمانيين الماديين، الذين لم يستطيعوا أن ينكروا أن هناك ديانات عريقة في القدم، ولكنهم زعموا - زورا وبهتانا - أنها شاخت بمرور الزمن، ولم تعد صالحة في وقت بلغت البشرية فيه ما بلغت من تقدم في العلم ورقي في الحضارة.
يقول أصحاب هذا المذهب وعلى رأسهم (أوجست كونت): " إن العقلية الإنسانية قد مرت بأدوار ثلاثة: دور الفلسفة الدينية، ثم دور الفلسفة التجريدية، ثم دور الفلسفة الواقعية، وهذا الدور - في نظره - هو آخر الأطوار وأسماها، فبعد أن كان الناس يعللون الظواهر الكونية بقوة أو قوى إرادية خارجة عنها، انتقلوا إلى تفسيرها بمعان عامة، وخصائص طبيعية كامنة فيها، كقوة النمو، والمرونة، والحيوية. . . إلخ، ثم انتهوا إلى رفض كل تفسير خارجي أو داخلي، واكتفوا بتسجيل الحوادث كما هي، ومعرفة ما بينها من ترابط وجودي، بقطع النظر عن أسبابها وغاياتها، وعلى هذا يكون دور التفكير الديني يمثل الحال البدائية التي تلهت بها الإنسانية في مرحلة طفولتها، فلما شبت عن الطوق خلعتها لتستبدل بها ثوبا وسطا في دور مراهقتها، حتى إذا بلغت أشدها، واكتمل رشدها أخذت حلتها الأخيرة من العلوم التجريبية "(1).
ويعلق على هذا المذهب أستاذنا المرحوم الشيخ محمد عبد الله دراز فيقول: " نقطة الخطأ البارزة في هذا المذهب التطوري، هي أن أنصاره جعلوا منه قانونا يستوعب التاريخ كله في شوط واحد، قطعت الإنسانية ثلثيه بالفعل، ونفضت أو كادت تنفض يدها منهما إلى غير رجعة، فلن تعود إليهما إلا أن يعود الكهل إلى طفولته وشبابه "(2).
ثم يمضي في مناقشة هذا المذهب مبينا أن الأدوار الثلاثة المذكورة " لا تمثل أدوارا تاريخية متعاقبة، بل تصور نزعات وتيارات متعاصرة في كل الشعوب، وليست كلها دائما على درجة واحدة من الازدهار أو الخمول في شعب ما، ولكنها تتقلب بها الأقدار بين بؤسى ونعمى، ونحوس وسعود (3) ".
(1) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 77.
(2)
الدين ص 77.
(3)
المرجع السابق ص 78.