الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعندما طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم القصاص في سن كسرت، قال:«كتاب الله يقضي بالقصاص (1)» ، وليس في القرآن قصاص السن إلا ما حكى عن التوراة في قوله تعالى:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (2) وأدلة ترجيح هذا الرأي مبسوطة في كتب الأصول.
هذا وإن الجمل الثلاث {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3){وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (4){وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5) قد جاء التعبير فيها بلفظ (من) و (من) من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة، بل بكل من ولي الحكم.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، عن حذيفة: أن هذه الآيات ذكرت عنده {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (6) - و - الظالمون - و - الفاسقون ".
فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل.
فقال حذيفة: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا، والله لتسلكن طريقهم قد الشراك ".
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4500)، سنن أبو داود الديات (4595)، سنن ابن ماجه الديات (2649)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 167).
(2)
سورة المائدة الآية 45
(3)
سورة المائدة الآية 44
(4)
سورة المائدة الآية 45
(5)
سورة المائدة الآية 47
(6)
سورة المائدة الآية 44
الكفر العملي والكفر الاعتقادي
فالألفاظ الثلاثة: (الكفر والظلم والفسق) التي سجلها الله عن الحاكمين بغير ما أنزل الله محمولة على إطلاقها فلا يسمي الله الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ولا يكون كذلك. وما روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفر، وما روي عن عطاء أيضا في قوله:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) - هم الظالمون - هم الفاسقون "
قال: " كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق ".
ما روي عن ابن عباس وعن عطاء بن أبي رباح في ذلك محمول على ما يسمى بالكفر العملي، وذلك بأن تحمله أهواؤه وشهواته على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده بأن حكم الله وحكم رسوله هو الحق، واعترافه بأنه في هذا الحكم قد أخطأ وجانب الهدى، وعصى الله ورسوله.
أما أن يكون أساس نظام الحكم في الأمة قائما على غير ما أنزل الله بتحكيم القوانين الوضعية، فهذا ليس من الكفر العملي، بل من الكفر الاعتقادي، ولا تفسير له سوى ذلك. لأن الدول التي عدلت عن تحكيم الشريعة الإسلامية إلى تحكيم القوانين الوضعية عدلت عن ذلك باختيارها.
والكفر الاعتقادي في الحكم بغير ما أنزل الله أنواع:
(1) سورة المائدة الآية 44
(2)
سورة المائدة الآية 44
أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله حكم الله وحكم رسوله.
كأولئك الذين يزعمون أن الدين صلة بين العبد وربه. ولا علاقة له بشئون التشريع والحكم والقضاء فإن الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة من أصول الدين المعلوم بالضرورة وإجماع الأمة، وقد اتفق أهل العلم على أن من جحد أصلا من أصول الدين، أو فرعا مجمعا عليه، أو أنكر حكما قطعيا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كافر الكفر الناقل من الملة.
الثاني: أن يضاهي الحاكم بغير ما أنزل الله حكم الله وحكم رسوله معاندة للشريعة، فيتخذ القوانين الوضعية ومصادرها أساسا للحكم. يستمد منها القوانين والنظم، وتؤسس لها المحاكم في البلاد، وتتحاكم إليها الأمة. فتحكم بين الناس بما يخالف الكتاب والسنة، وتجعل حكمها ملزما لهم لا مفر لهم منه، كما هو الشأن في معظم البلاد الإسلامية، التي استبدلت بالشريعة الإسلامية القانون الوضعي المستمد من القوانين الغربية، الفرنسية والبلجيكية وغيرها، أو من مذاهب بعض المبتدعين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، فهذا النوع كفر كذلك يخرج من الملة، وشرك بالله يتنافى مع عقيدة التوحيد التي نعبر عنها بقولنا:(لا إله إلا الله محمد رسول الله) ومن مقتضاها أن يكون الحكم لله ولرسوله، فإن التشريع من خصائص الألوهية.
الثالث: أن يعتقد المسلم أو الحاكم بغير ما أنزل الله أن تحكيم القوانين الوضعية أولى وأحسن من تحكيم الشريعة الإسلامية، لأن الحياة متجددة، وتتجدد الحوادث والأقضية بتجددها، ولا تشمل الشريعة الإسلامية مشاكل الحياة المتجددة. إنما تشملها القوانين الوضعية. فينبغي الرجوع إليها لأنها أحسن في تناولها للحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، وهذا كفر كذلك. لما فيه من تفضيل لأحكام المخلوقين على حكم الله الخالق وحكم رسوله، واتهام لشريعة الإسلام بالقصور والنقص والعجز.
إن الشريعة الإسلامية تفي بمتطلبات الحياة البشرية في كل عصر، ومصادرها الثرة تغني الناس عن التماس حل فيما سواها من قوانين البشر، ولن يعدم حاكم أن يجد حكم حادثة من الحوادث، أو قضية من القضايا في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصا أو ظاهرا أو استنباطا.
وقد اشتمل القرآن الكريم على أصول الشريعة وقواعدها في الحلال والحرام، وجاءت أكثر أحكامه مجملة تشير إلى مقاصد الشريعة، وتضع بيد الأئمة والمجتهدين المصباح الذي يستطيعون في ضوئه استنباط أحكام جزئيات الحوادث في كل زمان ومكان، وهذا سر خلود الشريعة وشمول قواعدها الكلية ومقاصدها العامة لما يحدث في الناس من أقضيات.
وإنما فصل القرآن ما لا بد فيه من التفصيل فيما يجب أن يسمو عن مواطن الخلاف والجدل، كما في العقائد وأصول العبادات أو لأنه يبني على أسباب لا تختلف ولا تتغير إلا بتغير الأزمنة والأمكنة، وذلك كما في تشريع المواريث، ومحرمات النكاح، وعقوبة بعض الجرائم.
الرابع: أن يعتقد المسلم أن تحكيم القوانين الوضعية كتحكيم الشريعة الإسلامية. وأن الحكم بالقوانين كالحكم بالشريعة. ومن اعتقد هذه المماثلة فإنه يكفر كفرا يخرجه من الملة لأنه يسوي بين الخالق والمخلوق. ويجعل ما شرعه الله مماثلا لما شرعه المخلوق، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فقد تفرد سبحانه بالكمال، وتنزه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال والحكم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1)
الخامس: أن يعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله وحكم رسوله، فهذا يكفر كذلك، لأنه يعتقد جواز ما علم تحريمه من الدين بالضرورة. للنصوص الصحيحة الصريحة التي تقطع بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ولا تنافي بين أوصاف الكفر والظلم والفسق في الآيات الثلاث:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) - والظالمون - والفاسقون) فإنها جميعا صفات لموصوف واحد باعتبارات مختلفة.
فالحكم بغير ما أنزل الله من حيث إنه جحود للشريعة يكون كفرا، ومن حيث إنه مجاوزة لحق الإنسان واعتداء على حق الله في التشريع يكون ظلما، ومن حيث إنه خروج عن شرع الله يكون فسقا.
وفي مفردات الراغب: الكفر في اللغة: ستر الشيء، ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص، والزراع لستره البذر في الأرض،. . . وكفر النعمة وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها، قال تعالى:{فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} (3) وأعظم الكفر جحود الوحدانية أو الشريعة أو النبوة، والكافر على الإطلاق متعارف فيمن يجحد الوحدانية، أو النبوة أو الشريعة، أو ثلاثتها.
والظلم يقال في مجاوزة الحق، وهو ثلاثة:
(1) سورة الشورى الآية 11
(2)
سورة المائدة الآية 44
(3)
سورة الأنبياء الآية 94
الأول:
ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، ولذلك قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1)
والثاني:
ظلم بينه وبين الناس.
والثالث:
ظلم بينه وبين نفسه.
والفسق: من فسق فلان: أي خرج عن حجر الشرع، وذلك من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج عن قشره وهو أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير لكن تعورف فيما كان كثيرا، وأكثر ما يقال الفاسق. لمن التزم حكم الشرع وأقربه، ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه.
ويصف الله تعالى الكفار والمشركين بالظلم {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2){وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3){وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (4){وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (5){كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} (6) وجعل جحود آياته ظلما {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (7)
كما يصف سبحانه المشركين والكفار بالفسق، يقول تعالى في خطاب المشركين بعد أن ذكر لهم دلائل ربوبيته وتوحيده:{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (8) ويقابل الإيمان بالفسق قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (9){أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (10){وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (11)
ويصف الذين يكفرون بآيات الله ويكذبون الرسل بالفسق {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} (12){إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (13){فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (14){وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (15)
ويجمع الله للكافرين بين الظلم والفسق، قال تعالى:{فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (16)
(1) سورة لقمان الآية 13
(2)
سورة لقمان الآية 13
(3)
سورة الشعراء الآية 10
(4)
سورة هود الآية 37
(5)
سورة هود الآية 67
(6)
سورة هود الآية 68
(7)
سورة العنكبوت الآية 49
(8)
سورة يونس الآية 33
(9)
سورة السجدة الآية 18
(10)
سورة السجدة الآية 19
(11)
سورة السجدة الآية 20
(12)
سورة البقرة الآية 99
(13)
سورة التوبة الآية 84
(14)
سورة الزخرف الآية 54
(15)
سورة الذاريات الآية 46
(16)
سورة البقرة الآية 59