الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غير أن هذا العلاج - وإن كان هو العلاج الوحيد لهذه الظاهرة - لم يسر سيره الذي ينبغي أن يسيره في كثير من الشعوب الإسلامية؛ حيث تصدى للفتوى كثير ممن لا تتوفر فيهم شروط المفتي، ولا تكتمل فيهم كثير من الأمور التي ينبغي لمن نصب نفسه لهذا المنصب أن يتفطن لها، وذلك ناتج في كثير من الأحوال عن قلة من هو أهل لهذا المنصب، وانغماره في خضم هذه الأمواج الهائلة من الجهلة بأحكام دينها؛ وحب كثير ممن شدا بقسط قليل من العلم للظهور والتبوء للمكان الذي لم يتأهل بعد لأن يتسنم ذروته.
ومن أجل ذلك كله آثرت أن يكون هذا البحث متناولا للمفتي في الشريعة الإسلامية.
ولن يخفى على رواد هذا الميدان أن الإلمام به، والتعمق في جزيئاته - في بحث قصير كهذا - بعيد، إن لم يكن مستحيلا.
لذا فإنني سأقتصر فيه على:
التعرف على المفتي.
أقسام المفتين.
منزلة المفتي في الشريعة الإسلامية.
شروط من يتصدى لهذا المنصب العظيم.
وجملة أمور مما ينبغي له أن يتفطن لها حينما يمارس الفتوى، وأختمه بخاتمة ألخص فيها ما أنتهي إليه من نتائج، مذيلة باقتراحات تهدي إليها تلك النتائج، وتؤكد ضرورتها، سائلا الله (سبحانه) أن يمدني بعونه فيما أترسمه من خطوات، وإلهامه فيما أقرره من حقائق، وتوفيقه فيما أصل إليه من نتائج ومقترحات.
* * *
تعريف المفتي
الحروف: الأصلية التي قامت عليها هذه الكلمة، هي الفاء، والتاء، والحرف المعتل، ولها مدلولان:
أحدهما: الطراوة والجدة، والآخر: تبين الحكم، والذي يناسب هذه الكلمة في موضوعنا المدلول الأخير، وإذن فالمفتي اسم فاعل على وزن " مفعل " مشتق من الإفتاء بمعنى الإبانة، يقال: " أفتاه في
الأمر، أبانه له (1) ويقال: " أفتى الفقيه في المسألة، إذا بين حكمها (2).
وأما في الإصلاح، فقد اختلف العلماء في تعريفه على آراء أهمها:
1 -
أن المفتي هو المجتهد المطلق، وهو الفقيه، على حد تعبير صاحب " تحرير الكمال "(3)، ولهذا يقول " الصيرفي "(4) إنه " موضوع لمن قام للناس بأمر دينهم، وعلم جمل عموم القرآن، وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك في السنن والاستنباط، ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها " ويقول " ابن السمعاني "(5): " هو من استكمل فيه ثلاثة شروط: الاجتهاد، والعدالة، والكف عن الترخيص والتساهل. وللمتساهل حالتان: إحداهما: أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام، ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر، وهذا مقصر في حق الاجتهاد، ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز. والثانية: أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة، فهذا متجوز في دينه، وهو آثم من الأول ".
2 -
ويذهب بعض العلماء إلى أن المفتي يكفي فيه أن يكون متبحرا في مذهب إمامه، فاهما لكلامه، عالما لراجحه من مرجوحه، خبيرا بالمرجوع عنه من المرجوع إليه، فلا يشترط فيه أن يكون مستطيعا لاستنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، ولا متبحرا في الكتاب والسنة، عالما بوجوه مباحثهما.
وقد أيد أصحاب هذا القول كلامهم بأن اشتراط الاجتهاد المطلق في المفتي، يفضي إلى حرج عظيم، واسترسال الخلق في أهوائهم (6)، ثم إن المفتي حينما يكون متبحرا في مذهب إمامه يكون ذلك كافيا؛ حيث إنه يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده (7)، والقضاء - وهو مركز عظيم - قد أطبق الناس فيه على تنفيذ أحكام من تولاه دون مراعاة لحصول شرط الاجتهاد فيه (8)، فليكن للمفتي ما للقاضي من حيث عدم اشتراط الاجتهاد فيه، بل إنه قد انعقد الإجماع على جواز الإفتاء لمن يتوفر فيه هذا الشرط، فقد قال الشيخ " تاج الدين السبكي (9) ":" وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا ".
وإذا أضفنا إلى ما تقدم ما يحدثنا به التاريخ من أن أناسا برزوا في العصور الزاهية للإسلام وملأوا الدنيا بعلومهم وآرائهم الصائبة، وادعوا الاجتهاد المطلق تبعا لذلك، ومع ذلك لم يسلم لهم أهل عصرهم به،
(1)" الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مصر، مطبعة السعادة سنة 1332 هـ مادة " الفتاء "
(2)
" ابن فارس، المصدر السابق مادة " فتى ".
(3)
محمد علي بن حسين، تهذيب الفروق، مطبعة دار إحياء الكتب العربية، ط أولى سنة 1344 هـ 2/ 116
(4)
المصدر نفسه والصفحة نفسها:
(5)
المصدر نفسه ص 116 - 117
(6)
ابن السبكي، توشيح الترشيح، اقتبسه محمد علي بن حسين في كتابه (الفروق) 2/ 117
(7)
المصدر نفسه والصفحة نفسها
(8)
المصدر نفسه والصفحة نفسها
(9)
المصدر نفسه والصفحة نفسها
وإذا أضفنا - أيضا - إلى ذلك، ما نشاهده في واقع الأمة الإسلامية، من كثرة الجهل بأحكام الدين في كثير من أفرادها، وكثرة المشاغل التي تنتاب الفئة المتخصصة في أحكام الشريعة الإسلامية مما قد يحول بينهم وبين الوصول إلى درجة الاجتهاد المطلق في أحكام شريعتها، إذا أضفنا ذلك كله إلى ما تقدم، تبين لنا أنه لا يشترط لمن يتبوأ هذا المنصب أن تتوفر فيه صفة الاجتهاد المطلق.
ولعل من نافلة القول أنه جاز لمن هذه صفته أن يتصدى للفتيا، فإنه يجوز بالأولى لمن كان مجتهدا مطلقا، أو مجتهدا مقيدا في مذهب من ائتم به " بأن يعرف قواعده، وتفصيل مذهبه، ويقوى على استخراج الأحكام فيما لم ينص عليه إمامه، مراعيا قواعد إمامه، وعلى ترجيح قول على آخر داخل المذهب، حينما يجهل المتقدم منها من المتأخر "(1).
ولهذا نرى الإمام " ابن القيم "(المتوفى سنة 751 هـ رحمه الله (2) حين تحدث عمن يجوز لهم أن ينتصبوا للفتيا، ويجوز للعامة أن يتجهوا إليهم بالأسئلة عن أحكام دينهم - يقسمهم إلى أربعة أقسام:
أحدهم: العالم بكتاب الله، وسنة رسوله، وأقوال الصحابة، فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانا. فلا تجد أحدا من الأئمة إلا هو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام. . .
النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه، من غير أن يكون مقلدا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه، ورتبه، وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معا. . .
النوع الثالث: من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه، مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لكن لا يتعدى أقواله وفتاويه، ولا يخالفها إذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره ألبتة. . .
النوع الرابع: طائفة تفقهت في مذهب من انتسبت إليه، وحفظت فتاويه وفروعه، وأقرت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه، فإن ذكروا الكتاب والسنة يوما في مسألة، فعلى وجه التبرك والفضيلة، لا على وجه الاحتجاج والعمل، وإذا رأوا حديثا صحيحا مخالفا لقول من انتسبوا إليه، أخذوا بقوله،
(1) شيخنا الشيخ (عبد الرزاق عفيفي)، من أماليه، كان يقرر لنا هذه القضية
(2)
أعلام الموقعين، ت محي الدين عبد الحميد، مصر مطبعة السعادة ط أولى 1374هـ 4/ 212 - 214 -