الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن الجانب الإرادي في الإنسان - وإن كان خاضعا لقدر الله - هو وحده الذي تمرد على شرع الله.
فإن الله سبحانه وتعالى قد بعث رسله وشرع شرائعه لتكون أفعال الإنسان الاختيارية خاضعة لأمر الله الشرعي حتى يتم انقياد الخلائق كلها لله قدرا وشرعا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)
وهدف الشريعة الإسلامية أن ترد الناس من هذا التمرد الكفري إلى الله وحده بخضوع شئون حياتهم كلها اعتقادا وسلوكا لشرعه عز وجل، وبهذا يتحقق معنى شهادة (لا إله إلا الله) بإفراده سبحانه بالربوبية والألوهية، والتشريع من خصائص الألوهية، وسبيل ذلك ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا معنى شهادة (أن محمدا رسول الله) أما أن ينتسب المرء إلى الإسلام، ثم يدين لغير الله في أفعاله الاختيارية، وشئون حياته الإرادية بالخضوع للقوانين الوضعية، فتلك هي انتكاسة الفطرة البشرية التي بعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من أجلها حتى يصير الكون خالصا لله.
إنه لا بد من خضوع الناس في أفعالهم الاختيارية لشرع الله حتى يتم التناسق في الكون كله بخضوع الكائنات كلها لله، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (2)
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2)
سورة آل عمران الآية 83
تحكيم شريعة الله من أركان الإيمان
الإيمان عقيدة وعمل، إذ لا أثر للعقيدة يدل على صدق صاحبها إلا إذا أقام سلوكه عليها، ووقف عند حدودها، والتزم بما فيها، وبقدر ما يكون العمل تكون درجة الإيمان قوة وضعفا، وزيادة ونقصا.
والشريعة الإسلامية تنبثق من عقيدة الإسلام تنظيم حياة الفرد وحياة الأمة، والعمل بها من أركان الإيمان ومقتضيات توحيد الله عز وجل، وما كان للمؤمنين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصفوا بالإيمان وهم لا يتحاكمون إلى رسول الله في كل أمر من الأمور يستوي في هذا ما يتعلق بالعبادات، وما يتعلق بالمعاملات، فإن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شأن من شئون الحياة مع التسليم والرضا من صميم الإيمان، ويكون هذا بعد مماته بتحكيم شريعته، قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
(1) سورة النساء الآية 65
ويأتي بيان هذه الحقيقة في صورة القسم المؤكد بالنفي، فإن دخول لا النافية على القسم إذا كان جواب القسم منفيا يؤكد نفي الجواب، والجواب هنا نفي الإيمان (لا يؤمنون).
كما سيأتي شاملا لأي شجار، فإن (ما) في قوله تعالى:{فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (1) من صيغ العموم فتشمل أي خلاف في أي شأن من الشئون، والتقييد بعدم الحرج يؤكد ضرورة الرضا حتى يكون التحاكم من صميم القلب {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} (2)
ويجب أن يكون الانقياد لحكم الشريعة ظاهرا وباطنا، فيأتي التعبير بالتسليم مؤكدا بالمصدر في قوله:{وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه ذلك.
وإذا كان تحكيم الشريعة الإسلامية بهذه المثابة اتباعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن الوقوف عند ذلك هو سبيل المؤمنين، لأنه دينهم، أما مخالفة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ظهرت البراهين الدالة على رسالته وسلوك طريق غير طريق المؤمنين وما هم عليه من دين الإسلام والعمل بأحكامه فهو موالاة للضلال وخروج عن الدين يصلى أصحابه نار الجحيم، يستوي في هذا أن تكون المخالفة عامة في كل شيء أم في بعض الأمور دون بعض، حيث تكون المشاقة، فإن أصل معناها كونك في شق غير شق صاحبك، وهذا هو معنى قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (4)
ذلك لأن التشريع من خصائص الألوهية. فإقرار تشريع لسلطة بشرية في فرد أو جماعة شرك بالله، وهذا ما يدل عليه تعليل مصير المشاقين في الآية السابقة بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (5) وقد قال الله في اليهود والنصارى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (6)
ولم يكونوا عبدوهم مع الله، وإنما اعترفوا لهم بحق التشريع من دون الله فأحلوا لهم وحرموا عليهم:
عن عدي بن حاتم قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية الآية فقلت له: إنا لسنا نعبدهم.
قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه. ويحلون ما حرمه الله فتحلونه؟
فقلت: بلى.
قال: فتلك عبادتهم (8)».
ونفى الله تعالى الإيمان عن اليهود الذين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متحاكمين إليه
(1) سورة النساء الآية 65
(2)
سورة النساء الآية 65
(3)
سورة النساء الآية 65
(4)
سورة النساء الآية 115
(5)
سورة النساء الآية 116
(6)
سورة التوبة الآية 31
(7)
سنن الترمذي تفسير القرآن (3095).
(8)
سورة التوبة الآية 31 (7){اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}