الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله، وأن يكون معه في معنى التلميذ والتبع؛ لأنه أظهر أن جواب السابق في صورة من يشهد له هو بالصحة، أو بالصواب من جهة الثاني، وهذه أدنى الرتب لخلو اللفظ عن التعظيم بالكلية.
هذا من حيث اللفظ.
وأما من حيث الموضع الذي يكتب فيه، فإن اتضع، كتب خطه تحت خط الأول، وإن ترفع، كتب قبالته في يمين الخط أو شماله، وكذلك الجهة اليمنى أشرف من الجهة اليسرى، فالمتواضع يضع في اليسرى، والذي لا يقصد التواضع، ويقصد التعظيم للجهة اليمنى لكونها يمنى يضع فيها ".
* * *
خاتمة
كان للواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية في أفرادها، ومن يتصدر للفتيا في دين الله، سبب قوي جعلني أفكر في موضوع هذا البحث، وأطلب العون من الله في استجلاء كثير من حقائقه كما كان لبعض جوانبه أثر في نفسي أقوى من الجوانب الأخرى، تلك هي ما يتصل بالأسس الأصيلة، التي ينبنى عليها تكوين المفتي، والمطالب الهامة التي ينبغي أن يتصف بها ويترسمها في حياته العامة وأثناء قيامه بمهمة الفتيا، والمكانة العظيمة التي قد منحها مما يدل على عظم شأنه، وعلو منزلته.
لذلك حاولت - بقدر ما أمدني الله به من عون - أن أستجلي من هذه الجوانب ما رأيته في المنزلة الأولى بين جوانبه المتعددة.
ومن هنا جاء البحث قائما على الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى: أن قدمت له بتمهيد؛ بينت فيه مكانة هذا البحث في ميدان البحوث العلمية، والمدى البالغ لأهميته في عصرنا الحاضر؛ حيث فشا الجهل في أفراد الأمة بأحكام دينها وصار الكثير ممن يتصدر الفتيا لا ينطبق عليهم ما هو مشترط لمن يتصدى لهذا المنصب العظيم.
الحقيقة الثانية: أن أوضحت معناه في اللغة، وعرضت الخلاف بين العلماء في تعريفه اصطلاحا، ورجحت بالأدلة ما تبين لي رجحانه، وذيلت هذه الحقيقة بعرض لأقسام المفتين، وتعريف مختصر بهم.
الحقيقة الثالثة: أن بينت المنزلة الرفيعة التي يحتلها المفتي؛ حيث كان قائما مقام النبي صلى الله عليه وسلم في وراثته لعلم الشريعة منه صلى الله عليه وسلم، وإبلاغها للناس، وتعليمها للجاهل بها، والإنذار بها، وأقمت الأدلة الناصعة لذلك من الكتاب العزيز، والسنة المطهرة.
الحقيقة الرابعة: أن ذكرت الشروط التي ينبغي أن تتوفر فيمن اصطلحنا سابقا على تسميته بالمفتي الذي تؤخذ الفتوى عنه، وإن كان غيره ممن هو أعلى مرتبة في العلم، وأرسخ قدما في الفهم والاستنباط، تؤخذ عنه من باب أولى؛ فكانت على النحو التالي:
الإسلام والتكليف، والعلم، والعدالة، وحسن الطريقة ورضا السيرة، والورع والعفة والحرص على استطابة المأكل، ورصانة الفكر وجودة الملاحظة، والتأني في الفتوى والتثبت فيما يفتى به، وطلب المشورة، ورؤية المفتي لنفسه بأنه أهل لهذا المنصب، وشهادة الناس له بذلك.
وقد ذكرت بعد كل شرط ما يدل على اشتراطه، فبان بذلك تحتم وجودها فيمن نصب نفسه للإفتاء " وتحتم امتناع من لم تتوفر فيه عن ذلك.
الحقيقة الخامسة: أن سجلت في هذا البحث أهم الأمور التي ينبغي لمن تصدى للفتيا بأن يتحلى بها، ويأخذ نفسه بها، فاجتمع لنا منها ما يأتي:
جمال المظهر وحسن الزي على الطريقة التي تتناسب مع الوضع الشرعي، والبداءة بالنفس في كل خير يفتى به، ومعرفة أحوال الناس والتفطن لتصرفاتهم، والكف عن النظر في الفتوى حينما يكون مع المستفتي فتوى قد كتبها من لا يصلح لذلك، وعدم الكتابة مع المستفتي حينما تكون حاله مثل ذلك، والنظر في سؤال السائل من حيث مطابقته لمستوى السائل وعدم مطابقته لذلك، وإعطاء كل حالة حكمها المناسب لها؛ من حيث إفتاؤه وعدم إفتائه، والشعور بالافتقار إلى الله (سبحانه) في إلهام الصواب، والدعاء بما يتناسب مع هذا المقام، ومراعاة العرف والعادة في الفتوى حيث تختلف بلدان المستفتين، وعرض الخلاف حين يتعارض العرف مع المدلول اللغوي للفظ الصريح، والتريث في الفتوى حين يشتمل اللفظ على بعض الملابسات التي تجعل المفتي يغلب على ظنه أن صيغة السؤال لا تعبر عن حقيقة الواقع تماما، والنصح والشفقة على المستفتي؛ إما بتوجيهه للطرق المباحة حين يستفتي عن أمر محرم، فيمنعه المفتي منه، وإما غير ذلك مما يدخل في معنى النصح والشفقة، ومراعاة الحكم الشرعي الذي يتفق مع مقاصد الشريعة، وهو ما كان جاريا على المعهود الوسط بين الشدة والخفة، وحسن النية، وسلامة القصد من المفتي، والاحتراز وأخذ الحيطة في الفتوى - وقد ذكرت لذلك صورا كثيرة متنوعة بجمعها هذا المعنى - وختمت هذه الأمور بأمر يتصل بالتواضع المشروع في الإسلام، وهو تأدب المفتي في صورة وضع الفتيا حين يكون قد أفتى في القضية غيره ممن هو أعلى منه منزلة في العلم.
وقد سلكت في بحث هذه الأمور ذكر الأدلة الشرعية لها، وعرض الخلاف حيث يوجد فيها، وتفصيل الحالات المحتملة حيث يوجد الاحتمال، وإيراد الحكم لكل حالة مقرونا بدليله.
تلك: هي مكانة المفتي في الإسلام، وهذه هي الحقائق التي ينبغي لمن تصدى للإفتاء بأن تتوفر فيه، ويتجلى بها.
فما مدى انطباقها على المفتين في العالم الإسلامي المعاصر؟ إننا نقرر - والأسى يحز في نفوسنا - واقعا مريرا تعيشه الأمة الإسلامية في هذا الجانب؛ ذلك أن كثيرا من أولئك المفتين لا تتوفر فيه تلك الشروط، ولا تجتمع فيه الأمور التي ينبغي لمن أفتى أن يتحلى بها، ولا شك أن هذا كان له الأثر السيئ في المجتمع الإسلامي؛ فأحكام الدين تؤخذ - في كثير من الأحيان - عن أفواه من لا يصلح للفتيا، والثقة بما يقال في ذلك انتزعت؛ لكون القائل ليس أهلا لما يقول، والاضطراب في الفتاوي بين العامة انتشر حتى صار سببا للفوضى بينهم، والتشويش عليهم فيما يأخذون أنفسهم به.
والشيء الذي يتبادر إلى الذهن اقتراحه إزاء هذه المشكلة؛ للقضاء عليها، أو الحد من خطرها، أن لا يترك الباب للإفتاء مفتوحا لمن أراد أن يلج منه، بل ينبغي لولاة الأمور ومن يعنيهم هذا الشأن أن يضعوا قواعد أساسية بها يقومون الشخص، ويعلمون مدى صلاحيته لذلك، فيرشحوه لهذا الأمر، ويوجهوا عامة الناس نحوه في أخذ الأحكام، حين يحتاجون لذلك، وأن يمنعوا عن الإفتاء من لا يصلح لذلك، وينذروه إن لم ينته عنه، ويعاقبوه بما يتناسب مع حاله حين يتصدى له، ولو أصاب في ذلك، فإن إصابته مرة سيتبعها خطؤه مرات كثيرة في حالات أخرى، وليس فيما نقول تحجير لواسع؛ فإنه لا مانع من أن يختار في كل بلد من يصلح لذلك؛ حتى يفتيها في أمور دينها، ويخلصها مما قد ينبهم عليها في صلتها مع ربها، كما أنه ليس فيما نقول ابتكار لقول لم نسبق إليه وإلى العمل به؛ فقد قال الخطيب البغدادي (1):" قلت ينبغي لإمام المسلمين، أن يتصفح أحوال المفتين؛ فمن كان يصلح للفتوى، أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها، وأوعده بالعقوبة، إن لم ينته عنها ".
ويستأنس في عرض رأيه هذا بما حصل من خلفاء بني أمية في تعيينهم من يتصدى للفتيا بمكة، ومنعهم لغيرهم منها، فيقول (2):" وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قوما يعينونهم، ويأمرون بأن لا يستفتي غيرهم (ويروي بسنده) إلى أبي يزيد الصنعاني عن أبيه قال: كان يصيح الصائح في الحاج: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن فعبد الله بن أبي نجيح ".
(1) الفقيه والمتفقه، 2/ 153.
(2)
المصدر نفسه، 153 - 154.
ويتابع " ابن الجوزي "(المتوفى سنة 596 هـ) الخطيب البغدادي فيقول: " يلزم ولي الأمر منهم كما فعل بنو أمية "(1).
كما أن من يتصدرون الفتيا - ممن كانوا أهلا لها - ينبغي لهم توعية العامة بهذا الشأن، والعمل على صرف الناس عمن لا يصلح للفتيا، والحد من نشاطهم، والمنع من نفوذهم بكل الوسائل التي تخدم هذه المقاصد.
ولهذا نرى القرافي يعرض رأيا، هو في نفسه أحد هذه الوسائل، فيقول:(2)" وينبغي للمفتي متى جاءته فتيا، وفيها خط من لا يصلح للفتيا، ألا يكتب معه؛ فإن كتابته معه تقرير لصنيعه، وترويج لقوله الذي لا ينبغي أن يساعد عليه، وإن كان الجواب في نفسه صحيحا؛ فإن الجاهل قد يصيب، ولكن المصيبة العظيمة، أن يفتي في دين الله من لا يصلح للفتيا؛ إما لقلة علمه، أو لقلة دينه، أو لهما معا ".
نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يوفق القائمين على شئون المسلمين لما فيه خير دينهم، وصلاح من تحت رعايتهم؟
(1) أحمد بن حمدان الحرافي الحنبلي صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص24.
(2)
الأحكام، ص266.