الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال (بعضهم): ينبغي للداعي أن يكون حديثه مع العامة في حال مخالطته ومجالسته لهم في بيان الواجبات والمحرمات ونوافل الطاعات وذكر الثواب والعقاب على الإحسان والإساءة، ويكون كلامه معهم بعبارة قريبة واضحة يعرفونها ويفهمونها، ويزيد بيانا للأمور التي يعلم أنهم ملابسون لها. كما كان حال الرسل مع أممهم، فإنهم بعد دعوتهم قومهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له كانوا يعالجون الأمراض الاجتماعية الفاشية في أممهم، فنرى نوحا وهودا وصالحا وإبراهيم يهتمون كثيرا بالتوحيد والقضاء على الشرك بشتى الوسائل. . لأن (الوثنية) كان متسلطة على عقول قومهم. . . ونرى لوطا عليه السلام جعل همه في القضاء على الفاحشة اللواطة لافتتان القوم بها وفشوها عندهم حتى ألفها الناس وأصبح التنزه منها معدوما بينهم وذلك منتهى الانحطاط والانحلال الخلقي، وترى شعيبا عليه السلام بعد دعوة قومه إلى التوحيد ينهاهم عن نقص الكيل والوزن ويأمرهم بإيفائها لانتشار الغش بينهم، وهكذا بقية الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وجوب تبليغ الدعوة والقيام بها
جاءت الآيات الكثيرة والأحاديث الشهيرة بالحث على (الدعوة إلى الله)، وبيان وجوبها، وما للداعي فيها من الأجر، والآيات القرآنية الدالة على الدعوة أكثر من آيات الصوم والحج - الذين هما ركنان من أركان الإسلام الخمسة. فالدعوة إلى الله - من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها بها يكمل نظام الشريعة ويرتفع شأنها، والله سبحانه وتعالى جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين (كما في قوله تعالى):{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} (1) ثم قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2)
فدل على أن (أخص أوصاف المؤمن: - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - (ورأسها): الدعوة إلى الإسلام).
وقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا في الأمم المتقدمة كما في قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3){كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4)
(أي): لا ينهى بعضهم بعضا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر من ارتكاب مثل الذين ارتكبوه - فقال:{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (5) مؤكدا (بلام القسم) تقبيحا لصفتهم وتحذيرا من سوء فعلهم. . . . وقوله سبحانه في صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (6)
(1) سورة التوبة الآية 67
(2)
سورة التوبة الآية 71
(3)
سورة المائدة الآية 78
(4)
سورة المائدة الآية 79
(5)
سورة المائدة الآية 79
(6)
سورة الأعراف الآية 157
هو بيان لكمال رسالته، فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر الله على لسانه - بكل معروف ونهي عن كل منكر وأحل كل طيب وحرم كل خبيث - وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1)
قال (أبو هريرة) رضي الله عنه: كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في القيود والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة.
فبين سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم؛ لأنهم كملوا كل خير ونفع للناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. . . فهذه الخيرية لا تثبت لهذه الأمة إلا إذا حافظت على هذه الأصول الثلاثة، فإذا تركتها لم تكن لها هذه المزية، وقد أكد الأمر بهذه الفريضة في آيات كثيرة بما لم يعرف له نظير في الكتب السابقة. . . وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على (الإيمان) بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات؛ لأنهما سياج الإيمان وحفاظه، فكان تقديمها في الذكر موافقا للمعهود عند الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه.
وقال تعالى: * {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2)
ففي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن قوله تعالى (ولتكن): أمر وظاهر الأمر: الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوط به إذ حصر، وقال:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (4){إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5){إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6)
فحكم الرب تبارك وتعالى بالخسار على جميع الناس إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة وهي: الإيمان - والعمل الصالح - والتواصي بالحق - والتواصي بالصبر.
فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور، وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه، فكذلك يلزمه في غيره أمور منها - الدعوة إلى (الدين) والنصيحة (للمسلمين).
قال (ابن القيم): وبيان ذلك: أن المراتب (أربعة) وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله:
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2)
سورة آل عمران الآية 104
(3)
سورة آل عمران الآية 104
(4)
سورة العصر الآية 1
(5)
سورة العصر الآية 2
(6)
سورة العصر الآية 3
إحداها: معرفة الحق.
الثانية: عمله به.
الثالثة: تعليمه من لا يحسنه.
الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه.
فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة وأقسم سبحانه في هذه السورة (بالعصر) إن كل أحد في خسر إلا الذين آمنوا: وهم: الذين عرفوا الحق وصدقوا به، فهذه مرتبة، وعملوا الصالحات: وهم: الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه أخرى، وتواصوا بالحق: وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا: فهذه مرتبة ثالثة، وتواصوا بالصبر: صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات، فهذه مرتبة رابعة. . . وهذا نهاية، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه مكملا لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه - العلمية والعملية: فصلاح القوة العلمية: بالإيمان، وصلاح القوة العملية: بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. . . (وأما السنة): فقد رغب الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - أمته إلى الهدى والدلالة على الخير والنصح للمسلمين كما في (صحيح مسلم)، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1)» . وفي (صحيح مسلم) أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا (2)» .
وفي (الترمذي) عن: بلال بن الحارث: أنه قال: «من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من أجورهم (3)» .
أيها الأخوة الكرام والعلماء الأفاضل: ما مدح الله (أهل العلم) بما مدحهم به إلا لأنهم ورثة الأنبياء، يبلغون الشرائع للناس ويوضحون طرق الفلاح والنجاح وأسباب السعادة والعزة في هذه الدار {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (4)
أيها العلماء: لقد علمتم ما قال الله في (ذم من لم يقم بواجبه)، ولم يؤد ما عليه لدينه وأمته من الدعوة والإرشاد والعظة والتذكير والإنذار بسوء العاقبة، كما في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (5) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (6){إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (7)
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893)، سنن الترمذي العلم (2671)، سنن أبو داود الأدب (5129)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 120).
(2)
صحيح مسلم العلم (2674)، سنن الترمذي العلم (2674)، سنن أبو داود السنة (4609)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 397)، سنن الدارمي المقدمة (513).
(3)
سنن الترمذي العلم (2677)، سنن ابن ماجه المقدمة (210).
(4)
سورة المنافقون الآية 8
(5)
سورة آل عمران الآية 187
(6)
سورة البقرة الآية 159
(7)
سورة البقرة الآية 160
فإذا هم فعلوا ذلك كثر في الأمة الخير وندر فيها وقوع الشر وائتلفت قلوب أهليها وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وسعدوا في دنياهم وآخرتهم. . . ولن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدته وكملوا أنفسهم بالمعارف والعلوم التي تحتاج إليها الأمم، التي تبغي السعادة والرقي وتخلقوا بفاضل الأخلاق وحميد الصفات، حتى يكونوا مثلا عليا تحتذى.
هذا وأسأل الله لنا ولكم الإعانة والتوفيق والدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يثبتنا وإياكم على الحق إلى أن نلقاه.
* * *
(1) سورة الرعد الآية 15