الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غزوة تبوك وما فيها من المعجزات
للدكتور: محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فإن مدينة تبوك الواقعة بين وادي القرى والشام، وقيل كانت بركة لأبناء سعد من بني عذرة، قد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، بعد أن كانت آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من الهجرة إلى هذه البلدة، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في شهر رجب بالتهيؤ لغزو الروم، وعاد منها في شهر رمضان من السنة التاسعة.
فقد كانت هذه الغزوة المقترنة بتبوك ذات أحداث جسام، ومعجزات نبوية كبيرة، وإخبار منه صلى الله عليه وسلم بما سوف تتبوؤه هذه المنطقة من مكانة ونماء زراعي واقتصادي، وتوافد بشري، نرى اليوم ملامح ذلك قد برزت للعيان، كما نرى أيضا أمورا هي من معجزات النبوة التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة عندما كانت المنطقة في قفر من الأرض، وشدة في الحصول على الماء الصالح للشرب، فضلا عن المتطلبات الأخرى. وإذا هي اليوم تتحول إلى حقول
خضراء، تمتلئ بما لذ وطاب من المحاصيل الزراعية، والثروة الحيوانية، ولم يكن ذلك ليتحقق، لو لم يهيئ الله المياه الوافرة، التي هي عنصر الحياة الوحيد، الذي به قوام الحياة في كل كائن حي، وبه مصدر النمو والحيوية، حيث يقوله سبحانه:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (1) ولو لم يهيئ الله الدولة بقياداتها الحريصة على عمران البلاد وإنمائها وبذل الكثير في سبيل ذلك لما برزت بهذه الصورة.
فما هي تبوك أصلا ونشأة، وماذا تم في غزوة تبوك التي تحدثت عنها كتب التاريخ قديما وحديثا، واقترن ذكرها بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته التي أظهر الله بها الإسلام في بقاع المعمورة، ولم يغفلها المفسرون، بل أولوها عناية خاصة؛ لأنها تعني أمورا كثيرة في واقع المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت، ونزل فيها آيات كثيرات فضح الله بها أقواما ملأ النفاق قلوبهم، وعاندوا رسول الله وتمالأوا عليه باطنا، بينما هم يظهرون المودة نفاقا ومكابرة.
ولذا سميت سورة التوبة، التي نزل أغلبها مقترنا بغزوة تبوك: الفاضحة، حيث أظهر الله جلت قدرته من خصال المنافقين: القولية والفعلية، ما جعلهم يتعرون أمام الملأ، فكانت فاضحة لما خفي من أعمالهم. كاشفة ما كانوا يحرصون على ستره من نواياهم حتى يحذرهم المسلمون. . ويعرفوا شر ما
(1) سورة الأنبياء الآية 30
تنطوي عليه نفوسهم. كما أن وقائع هذه الغزوة، محص الله بها- في الجانب الآخر- قوما، هم الصادقون مع الله في العقيدة، والمتبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقا: في القول والعمل.
وسوف نحاول باقتضاب إبراز بعض الجوانب في غزوة تبوك، ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أخبر بها، وتحقق الكثير منها، وقد يأتي حسب مسيرة النمو في المنطقة ما يزيد ذلك تأصيلا، وصدق الله في قوله الكريم:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1){إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2).
المسمى:
يرى الجوهري [. . . - 393 هـ] في الصحاح أن هذا الموقع لم يكن معروفا باسم تبوك إلا بعد غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة، وقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما من أصحابه يبوكون حسي تبوك، أي يدخلون فيه القدح ويحركونه ليخرج الماء، فقال عليه الصلاة والسلام:«ما زلتم تبوكونها بوكا» ، فسميت تلك الغزوة: غزوة تبوك، وهو تفعل من البوك.
وأورد دلالات لغوية فقال: قال أبو زيد: يقال لقيته أول بوك، أي أول شيء، قال الكسائي: باكت الناقة تبوك بوكا: سمنت. . وحكى ابن السكيت: ناقة بائك، إذا كانت فتية حسنة،
(1) سورة النجم الآية 3
(2)
سورة النجم الآية 4
والجمع البوائك، ومن كلامهم: إنه لمنحار بوائكها (1). ويقول ياقوت الحموي [574 - 626 هـ] في معجم البلدان: تبوك بالفتح ثم الضم، وواو ساكنة وكاف: موضع بين وادي القرى والشام، وقيل بركة لأبناء سعد من بني عذرة. وقال أبو زيد: تبوك بين الحجر وأول الشام، على أربع مراحل من الحجر، نحو نصف طريق الشام، وهو حصن به عين ونخل، وحائط ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن أصحاب الأيكة، الذين بعث إليهم شعيب عليه السلام، كانوا فيها ولم يكن شعيب منهم، وإنما كان من مدين، ومدين على بحر القلزم - هو البحر الأحمر - على ست مراحل من تبوك.
وتبوك بين جبل حسمى وجبل شرورى، وحسمى غربيها وشرورى شرقيها، وقال أحمد بن يحيى بن جابر: توجه النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع للهجرة إلى تبوك من أرض الشام - وهي آخر غزواته- لغزو من انتهى إليه أنه قد تجمع من الروم، وعاملة ولخم وجذام، فوجدهم قد تفرقوا فلم يلق كيدا، ونزلوا على عين ماء، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أحد يمس من مائها، فسبق إليها رجلان، وهي تبض بشيء من ماء، فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما زلتما تبوكان منذ اليوم،» فسميت بذلك
(1) الصحاح للجوهري 4/ 1576.
تبوك، والبوك: إدخال اليد في شيء وتحريكه، وركز النبي صلى الله عليه وسلم عنزته ثلاث ركزات، فجاشت ثلاث أعين، فهي تهمي بالماء إلى الآن.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك أياما حتى صالحه أهلها. وأنفذ خالد بن الوليد إلى دومة الجندل، وقال له: ستجد صاحبها يصيد البقر، فكان كما قال، فأسره وقدم به على النبي صلى الله عليه وسلم فقال بجير الطائي يذكر ذلك:
تبارك سابق البقرات إني
…
رأيت الله يهدي كل هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك
…
فإنا قد أمرنا بالجهاد
وبين تبوك والمدينة اثنتا عشرة مرحلة وكان ابن عريض اليهودي قد طوى بئر تبوك لأنها كانت تنطم في كل وقت، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمره بذلك (1).
وجاء في المصباح المنير للرافعي في مادة بوك: باكت الناقة تبوك بوكا: سمنت فهي بائك بغير هاء، وبهذا المضارع سميت غزوة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزاها في شهر رجب سنة تسع، فصالح أهلها على الجزية من غير قتال، فكانت خالية عن البؤس، فأشبهت الناقة التي ليس بها هزال. ثم سميت البقعة تبوك بذلك، وهو موضع من بادية الشام، قريب من مدين،
(1) معجم البلدان للحموي 2/ 14، 15.