المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌معجزات نبوية: يمتحن الله سبحانه إيمان ابن آدم بمواقف يبرز من - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٥٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ تمهيد

- ‌ النقول عن شراح الحديث:

- ‌ النقول عن المؤرخين:

- ‌ النقول عن الفقهاء:

- ‌ ما مدى صحة حديث: «إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي

- ‌ ما مدى صحة حديث: «من عشق فعف وكتم مات شهيدا»

- ‌النصاب من شروط وجوب الزكاة

- ‌إذا بلغ الباقي بعد النفقة نصابا ففيه زكاة

- ‌كلما حال الحول على المال ففيه زكاة

- ‌المال المجموعمن عدة أفراد للحاجة لا يزكى

- ‌حكم الزكاة في المبالغالمرصودة تعويضا عن نزع ملكيات العقار

- ‌حكم زكاة المال الموصى به

- ‌ما حكم زكاة الدين الذي لم يوف

- ‌أقوال العلماء حولكون الدين مانعا من الزكاة

- ‌بهيمة الأنعام إذا لم تكنسائمة أغلب الحول فلا زكاة فيها

- ‌حكم زكاة الفواكه والخضروات

- ‌ما يسقى بالأمطار والأنهار فيه العشروما يسقى بالمكائن فيه نصف العشر

- ‌يجب إخراج زكاة الحليمنذ العلم بوجوبها

- ‌حكم زكاة العملة الفضيةالتي لم تزك منذ (20) سنة

- ‌زكاة الحلي على مالكها

- ‌كيفية زكاة الذهبالمرصع بفصوص وأحجار كريمة

- ‌حكم زكاة المعادن الثمينة

- ‌لا تسقط الزكاة في المالبنية الزواج به أو غير ذلك

- ‌حكم التعامل مع البنوك بالربا وزكاتها

- ‌هوايته جمع الفلوس المختلفة فهل يزكيها

- ‌زكاة قلم الذهب

- ‌حكم زكاة الأرض التي يترددصاحبها في بيعها ولم يجزم بشيء

- ‌كيفية زكاة الأراضي المعدة للبيع والتأجير

- ‌حكم الزكاة على السيارات المعدة للنقل

- ‌الأدوات التي تستعمل في المحل لا تزكى

- ‌كيفية زكاة البضائع كالأقمشة ونحوها

- ‌زكاة مساهمة الأراضي

- ‌زكاة الأسهم في الشركات

- ‌زكاة الفطر فرض على كل مسلم

- ‌حكم إخراج زكاة الفطرمن غير الأصناف المنصوص عليها

- ‌المشروع توزيع زكاةالفطر بين فقراء البلد

- ‌حكم من نسي إخراجزكاة الفطر قبل صلاة العيد

- ‌الواجب البدار بإخراجالزكاة وسؤال الثقات عن مستحقيها

- ‌حكم تأخير إخراج الزكاة عدة أشهر

- ‌حكم تأخير زكاة العروضفي حق من لم يملك النقود

- ‌نصح وتذكير لمن لم يخرج الزكاة

- ‌من ترك إخراج الزكاةلزمه إخراجها عما مضى من السنين

- ‌الجهل بفرضية الزكاة لا يسقطها

- ‌إخراج الزكاة من مال الطفلة

- ‌حكم إخراج الزوج زكاة زوجته من ماله

- ‌حكم إخراج الزكاةفي غير بلد المزكي

- ‌حكم إخراج الزكاةعروضا عن العروض وعن النقود

- ‌دفع الزكاة للجمعيات الخيرية

- ‌يجب على الوكيلفي توزيع الزكاة تنفيذ ما قاله موكله

- ‌حكم اعتبار ما يدفعلمصلحة الزكاة والدخل من الزكاة

- ‌حكم إعطاء الوكيل أجرة على توزيع الزكاة

- ‌تحرير المقال والبيان في الكلام على الميزان

- ‌ بيان الموزون

- ‌حكم التسمية عند الوضوء:

- ‌صيغة التسمية:

- ‌حكم ترك التسمية ونسيانها:

- ‌الخاتمة:

- ‌المبحث الأول: أنواع الحقوق التي تحميها العقوبات:

- ‌المبحث الثاني: الآثار المترتبة على اعتبار الجرائم اعتداء على حق الله أو حق العبد:

- ‌المطلب الأول: الخصومة والدعوى:

- ‌المطلب الثاني: الإرث بحق الدعوى والشكوى:

- ‌المطلب الثالث: العفو:

- ‌المطلب الرابع: التوبة:

- ‌المطلب الخامس: التناسب بين الجريمة والعقوبة:

- ‌المطلب السادس: الصلح والاعتياض:

- ‌ أسباب الضمان:

- ‌مسائل ضمان البئر:

- ‌وضع علامة على البئر وسدها:

- ‌شروط ضمان البئر:

- ‌ مسائل خاصة في المذهب المالكي:

- ‌ما يضمن في البئر:

- ‌الحفر في الموات:

- ‌ الحفر في الطريق الواسع:

- ‌ الحفر في الطريق الضيقة:

- ‌ الاشتراك في حفر البئر:

- ‌ حفر البئر لمصلحة نفسه:

- ‌إذن الإمام بعد الحفر:

- ‌ حفر البئر في الطريق وقصد الضرر:

- ‌ الطريق المشترك:

- ‌ البئر في المسجد:

- ‌ حفر للمصلحة في المسجد:

- ‌ دخل الدار بإذن المالك فسقط في البئر ومات:

- ‌ دفاع المالك عن الحافر تعديا:

- ‌ حفر في فناء الدار:

- ‌ استأجر حافرا ليحفر في فناء داره:

- ‌ أعلم الحافر أنه ليس فناءه:

- ‌ أعلمه أن ليس له الحفر:

- ‌ الأجرة وعدمها:

- ‌ نصف في الملك ونصف في الفناء:

- ‌ ضمان موضع التعدي:

- ‌ حفر في ملك الغير:

- ‌ حفر متعدية فدخل آخر متعديا:

- ‌ ضمان الداعي للدخول والحافر عدوانا:

- ‌ متى يبرأ من الضمان

- ‌ أبرأه المالك من الضمان:

- ‌ حفر في ملك مشترك:

- ‌ مات بسبب السقوط في البئر أو جوعا وغما:

- ‌ إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر

- ‌ المباشر ضامن وإن لم يتعد أو لم يتعمد

- ‌ المتسبب لا يضمن إلا بالتعدي:

- ‌ الاشتراك في الضمان:

- ‌ الجذب في البئر:

- ‌ الاختلاف في الدعوى:

- ‌ اختلفا في كشف البئر:

- ‌ اختلفا في إعلام الداخل:

- ‌ اختلفا في تعمد السقوط:

- ‌ الإجارة على الحفر وغيرها من المنافع:

- ‌ وقعت على الأجراء والحفر في الطريق:

- ‌ حفر في دار مستأجرة (ملك المنفعة):

- ‌ حفر في الدار الموقوفة أو الموصى بها (ملك المنفعة):

- ‌ حفر في الدار المستعارة (ملك الانتفاع):

- ‌ حفر في داره المؤجرة أو المرهونة:

- ‌ حفر داخل الحرم:

- ‌ منع الجار جاره من الحفر:

- ‌ أمر السلطان والإكراه:

- ‌ إكراه السلطان:

- ‌ نقصان الدار بالحفر:

- ‌ حفر العبد:

- ‌ سقط اثنان فعفا أحد الوليين:

- ‌ حفر بإذن مولاه ثم أعتقه وسقط المعتق في البئر:

- ‌ أعتقه قبل الحفر:

- ‌ حفر المكاتب والمدبر:

- ‌الخاتمة:

- ‌غزوة تبوك وما فيها من المعجزات

- ‌سبب الغزوة:

- ‌منازل الناس في الغزوة:

- ‌معجزات نبوية:

- ‌خاتمة:

- ‌الحث على العناية بكتاب الله وتعلمه

- ‌أمر ملكي بتعيين فضيلة الشيخعبد العزيز آل الشيخ مفتيا عاما للمملكة

- ‌سماحة المفتي في سطور

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ ‌معجزات نبوية: يمتحن الله سبحانه إيمان ابن آدم بمواقف يبرز من

‌معجزات نبوية:

يمتحن الله سبحانه إيمان ابن آدم بمواقف يبرز من ورائها المحك الذي يتضح به النقاوة أو الكدر، وليتميز الخبيث من الطيب، بحسب الحال في النفس، وفي الزمان والمكان، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، كانت للروم الذين امتد نفوذ سلطانهم ذلك الوقت إلى ديار الشام في نفوس العرب مهابة لكثرتهم وقوتهم، إلى جانب ما الناس فيه من عسرة وشدة، وجدب في البلاد، والوقت صيفا بحرارته اللافحة. وهذه أمور ترهبها بعض النفوس، وتسعى جاهدة في تحاشيها إلى جانب المنافقين المندسين في صفوف أهل المدينة، يساعدهم يهود المدينة في عداوة مضمرة وظاهرة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته جاهدين في النكاية والإضرار.

أما ما يرغب فيه ويدعو إلى الدعة والركون إلى ملذات الدنيا: فإن الثمار قد طابت، والبساتين قد أينعت ثمارها، والناس يحبون الإقامة في ثمارهم وظلالهم، ولا يرغبون البعد عنها.

فكان أهل النفاق الذين آمنت ألسنتهم، وكذبت قلوبهم، يعتذر بعضهم ويرجف آخرون، ويساعدهم في التثبيط بعض اليهود حتى تخلف من تخلف إيهانا للعزائم، ورغبة في الإضرار بالنبي صلى الله عليه وسلم، والصفوة المختارة معه.

كما بان لنا في اجتماع ترأسه سويلم اليهودي في بيته، حاكوا فيه الخطط للتثبيط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في

ص: 337

غزوة تبوك، فأطلع الله نبيه على أعمالهم حيث بعث إليهم من يحرق عليهم بيت سويلم، فتم ذلك.

في هذا الجو المشحون بالتدابير البشرية، والمخططات الهادفة إلى إسكات صوت الحق، والإرجاف برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، حتى ينفض الناس من حولهم:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (1).

في هذا الجو المليء بالمؤامرات والمكائد وتحركه قلوب امتلأت حقدا وكراهية للرسالة وحاملها صلى الله عليه وسلم كان الجيش الذي التف حول رسول الله ودعوته الطاهرة النقية تكتنفه العسرة والضيق الشديد من جميع المتطلبات المرغوبة لمثل هذه الحالة فهو في حاجة إلى ما يؤمن غذاء المجاهدين وهو ما يعرف في المصطلحات الجديدة للجيوش: الإمدادات والتموين.

فالدولة الفتية في المدينة لا ميزانية لها تجعلها قادرة على تحمل جميع النفقات، ولا ثراء عند الصحابة لأن المهاجرين تركوا أموالهم وتجارتهم، وهاجروا لمدينة رسول الله رغبة فيما عند الله، وأهل المدينة من أهل الحرث والزرع، ولذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى النفقة والمساهمة والحمل في سبيل الله، لبعد المسافة، ولمجابهة عدو أكثر عددا وعدة. فتسابق المؤمنون الصادقون كل بمقدرته: من مال وزاد، وإبل ومتطلباتها، ليحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقراء-

(1) سورة الأنفال الآية 30

ص: 338

وهم كثرة- الراغبين في الجهاد، والاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

هذه الغزوة العظيمة- غزوة تبوك - التي بان فيها زيف النفاق، وبروز خصاله: من كذب ومعاذير، وتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلل من أثناء الطريق، وتفضيل للدنيا وملذاتها على أمر الآخرة، وخداع ومداهنة، وعداوة سافرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاولة القضاء عليه في مؤامرة دنيئة، لكن الله أطلع رسوله على كيدهم، وفضحت مؤامرتهم في آخر لحظة، إلى جانب ما امتهنوه من غيبة ونميمة، وموالاة لأهل الكفر، وبغض لأهل الإيمان ومحاربة لله ولرسوله، وإخلاف للوعد، وغير هذا من صفات أبانها الله سبحانه في سورة التوبة حيث فضح الله ما كانت تضمره قلوب أولئك المنافقين.

كما بان في هذه الغزوة في الجانب الآخر، قوة الإيمان، وصدق اليقين بوعد الله والسمع والطاعة واستجابة لله ولرسوله، والتحمل في هذا السبيل، بالجود بذلا، وبالنفس فداء وتضحية، حيث تغلب الإيمان على هاجس النفاق والكفر، وطغى حب الله وحب رسوله، على حب الدنيا وموالاة أهل النفوذ والمال، من أعداء الله ورسوله ففاز حزب الله بتحقيق وعد الله، على حزب الشيطان، وكذب وعده.

في أيام تلك الغزوة العصيبة: انتصر الإيمان على الكفر، وتغلب صوت الحق على أدعياء الباطل، وعلت العقيدة الصافية على النفاق، وأعطى الروم بكثرتهم وعدتهم ومهابتهم الجزية عن

ص: 339

يد وهم صاغرون للفئة القليلة المؤمنة، لأن النصر من الله، ينصر سبحانه أولياءه، ويمكنهم بدينهم الحق، ليستخلفهم في الأرض.

في غزوة تبوك، برزت معجزات عديدة يثبت الله بها إيمان الصادقين، ويقوى معها يقين المخلصين في نواياهم وحسن اتباعهم، وتقوم الحجة على المنافقين الذين يرجفون في المجتمع المدني، ويسعون بكل قدراتهم، حتى يخلخلوا قاعدة الإيمان من النفوس، بالتشكيك في الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله طاهرا نقيا لا شبهة فيه ولا مراء:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1).

وهذه المعجزات التي ظهرت في غزوة تبوك، هي من معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن ما جاء به من عند ربه حق لا مراء فيه، وبرهان على أن غزوة تبوك، وإن لم يأت فيها مجابهة مع العدو، كانت نصرا مؤزرا للإسلام وأهله، فانتصر فيها الحق على الباطل، وانتصر رسول الله على أعدائه وأعداء دعوته الكفار والمنافقين، وأبانت أن الله متم نوره، ومظهر دينه، ولو كره الكافرون. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد من ربه، يأتيه خبر السماء، بفضيحة تدابير أهل الأرض، وأن غزوة تبوك كانت محكا إيمانيا ميز الله به الضدين، فبان الجوهر الصافي بصدق المؤمنين وعرف الزيف والزبد بعناد المنافقين، ففضحهم الله بآيات عديدة في سورة التوبة عن أقوالهم وأعمالهم حتى سماها بعضهم الفاضحة.

(1) سورة الصف الآية 8

ص: 340

ومن تلك المعجزات:

1 -

ما يتعلق بمجموعة من الصحابة، يعرف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة صدق الإيمان وسلامة العقيدة، كالصحابيين اللذين تخلفا، وخشي عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم اللحاق بأهل الريبة الذين ظهر نفاقهم بصفة جلية في هذه الغزوة، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم إلا ما علمه ربه، والقلوب لا يعلم ما فيها إلا خالقها:

الأول: هو أبو خيثمة الذي رجع بعد ما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما إلى أهله في يوم حار (1).

الثاني: هو أبو ذر الغفاري: ففي الطريق إلى تبوك، كان يتخلف الرجل بين الفينة والفينة فيخبرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:«دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه» حتى قيل: تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.

«فأخذ أبو ذر متاعه من على ظهر البعير، وتركه وحمله على ظهره، ثم تبع رسول الله ماشيا، فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد منازله فقال الناظر من المسلمين: يا رسول الله إن

(1) تراجع حكايته في ص (333، 334).

ص: 341

هذا الرجل ماش على الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم:" كن أبا ذر " فلما تأمله القوم قالوا: هو والله أبو ذر. . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده» وقد مر بنا شيء من حكايتيهما (1).

وقد مات رحمه الله في الربذة وحيدا، ووضعه أهله على الطريق فمر به عبد الله بن مسعود وصلى عليه ودفنه، وترحم عليه، وذكر لمن معه ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه في غزوة تبوك.

2 -

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لمن سأله عن شأن ساعة العسرة: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع. . حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: «يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله لنا. فقال: " أو تحب ذلك؟ " قال: نعم. قال: فرفع رسول الله يديه إلى السماء فلم يرجعها حتى تهيأت السماء، فأطلت ثم سكبت الماء، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر» . إسناده جيد. وقد ذكر ابن إسحاق بالإسناد: أن هذه القصة كانت وهم بالحجر، في

(1) تراجع ص (331) من هذا البحث لوجود اختلاف بين الروايتين.

ص: 342

الطريق إلى تبوك، وأنهم قالوا لرجل معهم منافق، ويحك، هل بعد هذا من شيء؟ فقال: سحابة مارة.

3 -

ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبوا في طلبها، ولم يجدوها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمارة بن حزم الأنصاري وكان عنده:«إن رجلا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويخبركم خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله لا أعلم، إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، هي في الوادي قد حبسها شجرة بزمامها ". فانطلقوا فجاؤوا بها. فرجع عمارة إلى رحله، فحدثهم عما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبر الرجل، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، إنما قال ذلك: زيد بن اللصيت وكان في رحل عمارة، قبل أن يأتي، فأقبل عمارة على زيد، يجأ في عنقه، ويقول إن في رحلي لداهية، وأنا لا أدري، أخرج عني يا عدو الله فلا تصحبني» .

4 -

وروى الإمام أحمد رحمه الله بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لما كان يوم غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر إبلنا فأكلنا وادهنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا. فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة، لعل الله أن يجعل فيها البركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.

ص: 343

فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم. . فجعل الرجل يأتي بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف من التمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال لهم:" خذوا في أوعيتكم ".

فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوها، وأكلوا حتى شبعوا. . وفضلت فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله لا يلقى الله بها عبد، غير شاك فيحجب عن الجنة (1)».

5 -

«لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر، وهي ديار قوم صالح عليه السلام: أمر أصحابه ألا يخرجن أحد منهم تلك الليلة، إلا ومعه صاحب له، ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعيره، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره، فاحتملته الريح حتى ألقته بجبل طيء. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له ". . ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر فإنه وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك،» وفي رواية أن طيئا أهدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع إلى المدينة.

6 -

أخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه، أنهم سيأتون تبوك غدا، إن شاء الله، وأنهم لن يأتوها حتى يضحى ضحى النهار، وقال لهم:«فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي (2)» قال

(1) صحيح مسلم الإيمان (27)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 421).

(2)

صحيح مسلم كتاب الفضائل (706)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 238)، موطأ مالك كتاب النداء للصلاة (330).

ص: 344

راوي الحديث وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك- من الكلأ الأخضر- تبض بشيء من ماء. يقول: ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس.

7 -

كانت تبوك عندما وصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قليلة السكان، وأرضها شبه جرداء، ومياهها قليلة، فجرت مياه عينها، كما في المعجزة رقم (6)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه:«يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا- يعني ما حوله من أرض تبوك - قد ملئ جنانا (1)» . . وقد أخرج هذا الحديث مسلم في صحيحه، ومالك من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.

والذي يزور تبوك الآن يرى حواليه الجنان العديدة الوارفة، والمياه الجارية، والخيرات الزراعية من كل نوع، حتى إن محاصيل المزارع الكبرى في تبوك تدفع بإنتاجها الوفير إلى خارج المملكة، وأوروبا فضلا عن كبريات المدن في المملكة.

وقد كسبت مزارع استرا، وشركة تبوك الزراعية وغيرهما سمعة كبيرة في جودة الفواكه، ووفرة المحاصيل الزراعية وتنوعها، وقد فاقت ما عرف بمثلها في بلاد الشام والبلاد المشهورة بالزراعة وهذا جزء من تحقق إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم في معجزاته، وقد يكون في المستقبل ما هو أكثر والعلم عند الله.

(1) صحيح مسلم كتاب الفضائل (706)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 238)، موطأ مالك كتاب النداء للصلاة (330).

ص: 345

8 -

وروى الإمام أحمد بسنده إلى أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، حتى جئنا وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " اخرصوا " فخرص القوم، وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، وقال صلى الله عليه وسلم للمرأة: " أحصي ما يخرج منها حتى أرجع إليك إن شاء الله ". . ثم لما رجع وقال للمرأة التي في وادي القرى: " كم جاءت حديقتك؟ ". قالت: عشرة أوسق. . خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان خرصه صائبا قبل أن يحصد (1)» .

9 -

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك رسالة إلى هرقل عظيم الروم، فلما قرأها أراد الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه شاور قساوسة الروم وبطارقتها، فأبوا واستكبروا، فاستجاب لهم وأرسل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا مع رجل من تنوخ، عربي اللسان حافظا للحديث، وأوصاه بأن يحفظ عنه ثلاث خصال:

1 -

هل يذكر رسالته إلي السابقة؟

2 -

إذا قرأ كتابي هل يذكر الليل؟

3 -

وانظر في ظهره هل به شيء يريبك؟

فلما وصل وسلم الرسالة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضعها في حجره، وقال: «يا أخا تنوخ إني كتبت بكتاب إلى

(1) صحيح البخاري الزكاة (1482)، صحيح مسلم الفضائل (1392)، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3079)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 425).

ص: 346

كسرى، فمزقها والله ممزقه وممزق ملكه، (1)» وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها، والله مخرقه ومخرق ملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة، فأمسكها فلم يزل الناس يجدون منه بأسا، ما دام في العيش خير " فقال التنوخي: هذه واحدة من الثلاث التي أوصاني بها هرقل، ثم كتبها في جنب سيفه، ثم قرئت الصحيفة من هرقل، فإذا فيها: تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين. . فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" سبحان الله أين الليل إذا طلع النهار " فأخذ التنوخي سهما من جعبته، فكتبه في سيفه وقال: هذه الثانية. ثم لما خرج مع مضيفه الأنصاري. . ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " تعال يا أخا تنوخ ". فلما أقبل ووقف بمجلسه عليه الصلاة والسلام، ومثل بين يديه صلى الله عليه وسلم، حل النبي حبوته عن ظهره، وقال:" هاهنا امض لما أمرت به ". فجال بنظره في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بخاتم النبوة في موضع غضون الكتف، مثل الحممة الضخمة- أي موضع شديد السواد - رواه أحمد بن حنبل. فقال: هذه الثالثة.

(1) مسند أحمد بن حنبل (3/ 442).

ص: 347

10 -

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة - وكان ملكا عليها ويعتنق النصرانية- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: «إنك ستجده يصيد البقر» . فلما وصل خالد إلى حصنه إذا هو محكم، وهو فيه في ليلة مقمرة، وكان على السطح ومعه امرأته، فجاء بقر الوحش إلى باب قصره، وباتت تحك باب القصر بقرونها، وكان مغرما بالصيد. فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟. قال: لا والله. قالت: فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له: حسان. فركب وخرجوا معه يطاردون البقر، فتلقاهم خالد بن الوليد، فأخذوا أكيدر الدومة، وقتلوا أخاه.

وكان على أكيدر قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد، وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه. فجعل المسلمون يتعجبون منه، فقال صلى الله عليه وسلم:«أتعجبون من هذا، فوالذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة، أحسن من هذا (1)» .

11 -

ذكر البيهقي أن رجلا من بني طئ، ويقال له بجير بن بجرة قال في حكاية أكيدر:

تبارك سائق البقرات إني

رأيت الله يهدي كل هاد

فمن يك حائدا عن ذي تبوك

فإنا قد أمرنا بالجهاد

(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2616)، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2469)، سنن الترمذي كتاب اللباس (1723)، سنن النسائي كتاب الزينة (5302)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 122).

ص: 348

فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «لا يفضض الله فاك» فأتت عليه سبعون سنة ما تحرك له فيها ضرس ولا سن.

12 -

ذكر ابن إسحاق في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في تبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل- وهو الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره- فلا يروي إلا الراكب والراكبين والثلاثة، في وادي المشقق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا، حتى نأتيه " فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه، فلم ير فيه شيئا. فقال: " من سبقنا إلى هذا الماء ". فقالوا: يا رسول الله، فلان وفلان. فقال: " أولم أنههم أن يستقوا منه حتى آتيه ". ثم لعنهم ودعا عليهم. ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء، كما يقول من سمعه: ماء له حسا (1) كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه» .

13 -

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وادي المشقق لأصحابه: «لئن بقيتم، أو من بقي منكم ليسمعن بهذا

(1) كذا في الأصل عند ابن إسحاق ولعل الأصح حس بالرفع.

ص: 349

الوادي، وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه».

وفي هذا نوجه كلمة للمدركين والمهتمين من أهل تبوك: هل وادي المشقق لا يزال باسمه القديم، أم تغير اسمه. . وهل وصله الخصب والنماء والعمران، كما وصل غيره في المنطقة أم لا؟؟!.

14 -

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل وهو في غزوة تبوك، عمن يتخلف من الخارجين معه، ويقول:«ما منع أحد أولئك، حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله، امرءا نشيطا في سبيل الله، إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون والأنصار وغفار وأسلم (1)» . وما ذلك إلا أنه عليه الصلاة والسلام يخشى على هؤلاء النفاق، الذي أظهره الله على أهله، في هذه الغزوة، لمكانتهم عنده، ولنصرتهم له عليه الصلاة والسلام.

15 -

«تمالأ نفر من المنافقين على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطرحوه من رأس العقبة، في الطريق أثناء العودة من تبوك، عندما يجتاز بها عليه الصلاة والسلام، فأطلعه الله على أمرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو من العقبة، ومعه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وجاء ذلك النفر وسلكوها واعترضوا فيها متلثمين، وكان عددهم اثني عشر رجلا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمارا وحذيفة أن يمشيا معه: عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهرهم وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن

(1) مسند أحمد بن حنبل (4/ 350).

ص: 350

فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة:" هل عرفتهم؟ " قال: لا لأنهم متلثمون وعرفت رواحلهم فقال صلى الله عليه وسلم: " هل علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب " قالا: لا. فأخبرهما بما كانوا تمالأوا عليه، وسماهم لحذيفة بن اليمان». . ولذا سمي أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أعلمه بالمنافقين في المدينة كلهم فيما بعد. فكان كبار الصحابة لا يصلون على من توفي إلا إذا رأوا حذيفة صلى عليه، وإن لم يصل عرفوا أنه من المنافقين فلا يصلون عليه.

16 -

وعن هؤلاء المنافقين جاء في صحيح مسلم من طريق شعبة حديث منه قوله صلى الله عليه وسلم: «في أصحابي اثنا عشر منافقا، منهم ثمانية لا يدخلون الجنة، حتى يلج الجمل في سم الخياط (1)» . وفي حديث آخر أخبر صلى الله عليه وسلم عن مرض يصيب ثمانية منهم يموتون منه، بعد معاناة وألم، وهذا عقاب عاجل، كما في حديث قتادة رحمه الله مرفوعا:«إن في أمتي اثنا عشر منافقا، لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم يكفيكهم الدبيلة، سراج من النار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم (2)» . وجاء في رواية البيهقي: «إن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (3)» .

17 -

إن الله أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على ما يضمره أصحاب مسجد الضرار، حيث جعله أصحابه الذين بنوه، وهم

(1) صحيح مسلم صفات المنافقين وأحكامهم (2779)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 320).

(2)

صحيح مسلم صفات المنافقين وأحكامهم (2779)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 390).

(3)

صحيح مسلم صفات المنافقين وأحكامهم (2779)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 391).

ص: 351

اثنا عشر رجلا، وكرا للفساد والكفر والعناد، فعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الصلاة فيه، وذلك أنه كان على جناح سفر لتبوك، فلما رجع من تبوك، نزل بذي أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة- وبعد ما استقر نازلا في هذا المكان، أنزل الله عليه الوحي في شأن هذا المسجد [الآيات 107 - 110 من سورة التوبة].

وسماه الله ضرارا، لأنهم أرادوا المضاهاة لمسجد قباء، وكفرا بالله لا للإيمان، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله، وتفريقا للجماعة عن مسجد قباء.

وبعد أن أطلع الله نبيه على مقاصد أهل هذا المسجد، أرسل عليه الصلاة والسلام رجلين لهدمه، وتحريقه بالنار فحرقاه وتفرق أهله عنه.

18 -

وفي هذه الغزوة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صلاة الفجر، أدرك معه الركعة الثانية منها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يتوضأ، ومعه المغيرة بن شعبة، فأبطأ على الناس، فأقيمت الصلاة، فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فلما سلم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم يكمل ما فاته من الصلاة أعظم الصحابة ذلك. فقال عليه الصلاة والسلام:" أحسنتم وأصبتم " حسب رواية البخاري رحمه الله. .

19 -

وفي غزوة تبوك حصلت قصة الثلاثة الذين خلفوا، وما حصل لهم من بلاء وامتحان مدة خمسين ليلة، وتاب الله

ص: 352

عليهم، كما حكى القرآن الكريم ذلك في قوله جل وعلا:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (1).

20 -

وفي غزوة تبوك أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصحابه، بسر هو من معجزات النبوة ففرحوا به لأنه بشارة بانتشار الإسلام، وغلبة المسلمين على الأمم ذات الجاه والسلطان، فقد روى البيهقي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو في تبوك:«هذه الحيرة رفعت لي بقصورها البيضاء، وهذه الشيماء بنت نفيلة الأزدية على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود» ، قال الصحابي راوي الحديث: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة، فوجدتها كما تصف فهي لي؟ قال:«هي لك» قال: فلما قفلنا من حروب الردة، مع خالد بن الوليد إلى الحيرة، فأول من تلقانا حين دخلناها الشيماء بنت نفيلة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود، فتعلق بها، وقال: هذه وهبها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطلب منه خالد البينة، فجاء بشاهدين هما: محمد بن مسلمة، ومحمد بن بشير الأنصاري فدفعها إليه. . ثم اشتراها منه أخوها: عبد المسيح بثمن باهظ. . ولو طلب زيادة لزاده.

فمثل هذه المعجزات التي يسوقها الله سبحانه للأمة، على ألسنة الأنبياء والمرسلين، هي من الله سبحانه تفضل، وجزء من

(1) سورة التوبة الآية 118

ص: 353