الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا وقد ذكر القرطبي قولا أرى أنه جدير بأن يؤخذ به، حيث قال:" فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا، لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا "(1).
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن 6/ 158.
المطلب الخامس: التناسب بين الجريمة والعقوبة:
إن الجرائم التي يغلب فيها جانب الاعتداء على حق الله تعالى تتسم عقوباتها بالشدة حيث لا يجوز فيها العفو، إما مطلقا لعدم مساسها حقوق أفراد معينين حتى يعفوا عن الجاني، وإما بعد الرفع إلى القاضي كما في جرائم السرقة، فلا يجوز فيها الشفاعة من وال أو غيره بعد رفعها إلى القاضي، كما تقدم من أمر المرأة المخزومية التي سرقت ورفع أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشفع المسلمون فيها أسامة بن زيد لدى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:«أتشفع في حد من حدود الله؟ وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها (1)» . على نحو ما تقدم في فقرة العفو (2).
بينما الجرائم الماسة بحقوق العبد تتسم باللين والتسامح، فيجوز فيها العفو فتسقط العقوبة بالعفو، ويجوز للولي ولغيره أن
(1) صحيح البخاري الحدود (6788)، صحيح مسلم الحدود (1688)، سنن الترمذي الحدود (1430)، سنن النسائي قطع السارق (4902)، سنن أبو داود الحدود (4373)، سنن ابن ماجه الحدود (2547)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 162)، سنن الدارمي الحدود (2302).
(2)
راجع صفحة 225 من هذا البحث.
يشفع لدى المجني عليه أو ورثته ويرغب في العفو، على نحو ما مر من حديث أنس أنه قال:«ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو (1)» .
إذا فعقوبة الجرائم الماسة بحق الله تتسم بالشدة، بخلاف العقوبات في الجرائم الماسة بحقوق العبد، وذلك أنه في تقدير العقوبة في الجرائم الماسة بحق الله لا ينظر إلى الجريمة ذاتها؛ بل ينظر إلى آثارها السيئة على المجتمع والمصالح العامة وحقوق الجماعة. فقد تكون الجريمة بحيث لا يكون فيها أذى حسي لشخص ما، كزنى رجل غير متزوج بامرأة غير متزوجة راضية مختارة، فإذا نظرنا إلى الجريمة من الناحية الشخصية لا نجد فيها معنى الاعتداء واضحا، ولكن فرضت العقوبة نظرا إلى الآثار القبيحة التي يلقاها المجتمع. من جراء هذه الجريمة من إشاعة الفاحشة والاعتداء على النسل والعرض، ومخالفة الناموس الاجتماعي، واختلاط النسب، وضياع أنفس، ونسبة الإنسان إلى غير أبيه وغير ذلك (2)، ولذلك صارت العقوبة شديدة.
وكذلك نأخذ مثالا آخر، قطاع الطريق إذا خرجوا واتفقوا فيما بينهم، فالشريعة تعاقبهم على مجرد هذا الخروج، وإن لم يرتكبوا أي جريمة أخرى من القتل وأخذ المال وهتك الأعراض ونحو ذلك. فإذا نظرنا إلى مجرد الخروج فلا نجد فيه أي اعتداء حسي على أحد، ولكن الشريعة فرضت العقوبة نظرا إلى الآثار
(1) سنن النسائي القسامة (4783)، سنن أبو داود الديات (4497)، سنن ابن ماجه الديات (2692)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 213).
(2)
راجع فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي ص 72.