الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجماعة، فإنها تعني أنها تمس مصلحة الجماعة أكثر، وليس معنى ذلك أنها لا تمس حقوق الأفراد؛ لأن الجرائم التي تمس حقوق الجماعة تمس في النهاية حقوق الأفراد ومصالحهم (1).
قال عبد القادر عودة: " والواقع أن كل جريمة تمس مصلحة الجماعة تمس في النهاية مصلحة الأفراد، وكل جريمة تمس مصلحة الأفراد تمس في النهاية مصلحة الجماعة ولو كان محل الجريمة حقا خالصا للفرد ".
(1) التشريع الجنائي الإسلامي 1/ 99 و 612.
المبحث الثاني: الآثار المترتبة على اعتبار الجرائم اعتداء على حق الله أو حق العبد:
وأما الآثار التي تترتب على هذا التقسيم فنوضحها فيما يلي:
المطلب الأول: الخصومة والدعوى:
الخصومة ليست شرطا في الحدود التي هي حق الله تعالى، كجريمة الزنى، والشرب، والردة، والحرابة، فلا يتوقف ثبوت هذه الجرائم على الدعوى، بل للشاهد على هذه الجرائم أن يتقدم لأداء الشهادة، وإن لم يطلب منه ذلك، وتسمى هذه الشهادة، شهادة الحسبة، أو دعوى الحسبة؛ لأن الشاهد يقوم فيها مقام المدعي (1).
(1) راجع: الجريمة لأبي زهرة ص 65.
كما أن الدعوى والخصومة شرط لإثبات الجرائم التي تقع ضد الأفراد وتمس حقوقهم، كجرائم القصاص، والديات، فليس للقاضي أن يحكم بثبوت حق لشخص على شخص آخر ما لم يطالب صاحب الحق بذلك، أو من ينوب عنه، وليس للشهود أن يتقدموا لأداء شهادتهم في هذه الجرائم ما لم يطالبوا بذلك وما لم تسبق الدعوى على شهادتهم؛ لأن الشهادة شرعت لإظهار الحق المطالب به، وحق الآدمي لا يظهر بغير دعواه " لأنه يحتمل أنه استوفاه أو أبرأ منه وعفا عنه دون أن يكون للشهود علم بذلك (1).
وهذا الحكم يجري في حد القذف الذي يمس حق الله وحق العبد معا، ولكن حق العبد هو الغالب- كما رجحنا ذلك- حيث ذهب جمهور الفقهاء- سواء منهم من يرى أن الغالب هو حق الله أو حق العبد- إلى اشتراط الدعوى والخصومة في الحكم بثبوته؛ لأن حد القذف شرع حماية لعرض العبد ودفعا للضرر والعار عنه، ولأن إقامة حد القذف بدون مطالبة المقذوف قد يؤدي إلى إلحاق الضرر والعار بالمقذوف، وخاصة إذا لم يكن قذفه مشهورا بين الناس، ففي إقامة الحد في مثل هذه الصورة إلحاق للعار بالمقذوف، وهذا يتنافى مع الهدف الذي شرعت العقوبة من أجله.
(1) راجع: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 10/ 201، وتبيين الحقائق 4/ 229.
وذهب ابن حزم إلى أن الخصومة والدعوى ليست شرطا لإقامة حد القذف، واستدل على ذلك بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت:«لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فأمر بالمرأة والرجلين، فضربوا حدهم (1)» .
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على الذين رموا عائشة رضي الله عنها بدون أن تطالب بذلك، فلو كانت المطالبة والدعوى من المقذوف شرطا لتوقيع العقوبة على القاذفين لما أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد على أولئك النفر الذين رموها بدون مطالبتها بذلك.
وكذلك استدل بإقامة عمر رضي الله عنه الحد على الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنى دون أن يكون هناك مطالبة من المغيرة بن شعبة (2).
والراجح هو مذهب جمهور الفقهاء؛ لأن القذف حمل للآدمي أو حقه فيه هو الغالب، فتتساوى مع جرائم القصاص التي اشترطت فيها الخصومة بالاتفاق.
(1) أورد هذا الجزء من حديث عائشة في الإفك ابن حزم بسنده في المحلى 11/ 289، وقد وردت القصة كاملة في البخاري وليس فيها الشاهد الذي هنا. انظر: صحيح البخاري 3/ 154. وانظر: صحيح مسلم 4/ 2129 الحديث رقم 2770، مسند أحمد 6/ 194.
(2)
راجع: المحلى 11/ 289 - 290.
وأما ما استدل به ابن حزم من حديث عائشة فليس فيه ما يدل على عدم اشتراط الدعوى من المقذوف؛ لأن عدم التصريح بمطالبتها ليس دليلا على انتفاء مطالبتها بذلك. والأمر الثاني أن الدعوى إنما اشترطت دفعا لاحتمال صدق مقولة القاذف، وهذا منتف في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ لثبوت نزاهتها وبراءتها بنص القرآن.
وأما توقيع عمر رضي الله عنه عقوبة القذف على الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنى، فليس التصريح بعدم طلب المغيرة نافيا لطلبه، فقد يكون طلبه ولم ينقل. وهو الأولى، بل هو ظاهر وقائع القصة.
وأما السرقة التي تمس حق الله وحق العبد معا، وإن كان جانب الاعتداء على حق الله هو الغالب، فقد اختلف العلماء في اشتراط الدعوى والخصومة فيها إلى ثلاثة أقوال:
1 -
فذهب أبو حنيفة (1) والشافعي (2) وأحمد (3) وغيرهم إلى أن الدعوى ومطالبة المسروق منه بماله شرط لثبوت جريمة السرقة وتوقيع الحد على السارق.
(1) راجع: بدائع الصنائع 7/ 52، وفتح القدير 5/ 400، حاشية ابن عابدين 4/ 106.
(2)
الأم 7/ 151، تحفة المحتاج 4/ 111.
(3)
المغني 12/ 470 - 471، كشاف القناع 6/ 146.
واستدلوا على ذلك بالمنقول والمعقول:
أما المنقول: فقد روي «أن عمرو بن سمرة لما أقر للرسول صلى الله عليه وسلم أنه سرق بعيرا، أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم وسأل المسروق منهم، فقالوا:، إنا افتقدنا جملا لنا " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده (1)» .
فقالوا: لو لم تكن الخصومة شرطا لما تأكد من المسروق منهم، ولاكتفى بإقراره.
وأما المعقول فقالوا: إن الظاهر أن من في يده مال فهو له، وعند انتفاء الخصومة لا تتحقق ملكية المسروق لغير السارق، ولأن المال يباح بالبذل فيشترط الخصومة والدعوى حتى ينتفي الاحتمال وتزول الشبهات (2).
2 -
وذهب المالكية (3) وابن أبي ليلى وأبو ثور وغيرهم (4) إلى عدم اعتبار الخصومة والدعوى شرطا لثبوت جريمة السرقة، فرأوا صحة إقامة الحد على السارق متى ما ثبتت الجريمة، وإن لم يتقدم المسروق منه بتحريك الدعوى، واستدلوا بالآية:
(1) أخرجه ابن ماجه 2/ 763، قال البوصيري:" هذا إسناد ضعيف؛ لضعف عبد الله بن لهيعة ". انظر: مصباح الزجاجة 2/ 75.
(2)
المغني 2/ 471.
(3)
المدونة الكبرى 4/ 413، الإشراف على مسائل الخلاف 2/ 275.
(4)
شرح العناية على الهداية 5/ 400، المغني 12/ 471.
(5)
سورة المائدة الآية 38
ووجه الاستدلال: أن الله أمر بقطع يد السارق والسارقة ولم يشترط مطالبة المسروق منه بماله.
3 -
وذهب أبو يوسف في رواية مشهورة عنه (1) إلى التفريق بين الشهادة والإقرار، فيرى أن الدعوى والخصومة شرط في الشهادة دون الإقرار؛ لأن المقصود هو ظهور سبب القطع ولا يظهر في الشهادة إلا بحضور المسروق منه ومطالبته، أما في الإقرار فسبب القطع ظاهر لا شك فيه (2).
ولعل الراجح- والله أعلم- هو القول الأول؛ لوضوح ما استدلوا به من دليل العقل.
ويجاب عما استدل به المالكية: أن الآية جاءت لبيان الحكم العام، ولم تتعرض لبيان الشروط والأحكام الجزئية، وإنما جاء بيانها في السنة.
ويجاب عما استدل به أبو يوسف: أن اشتراط الخصومة ليس لأجل التهمة في الشهادة، وإنما لإثبات ملكية المسروق منه لعين المسروق؛ إذ يحتمل أن يأخذ شخص مالا على وجه السرقة، ثم يتضح له أنه مالك لهذا المال عن طريق الهبة أو الإرث أو ما أشبه ذلك، فاشترطت المطالبة حتى ينتفي كل احتمال.
(1) فتح القدير 5/ 400، حاشية ابن عابدين 4/ 106.
(2)
فتح القدير 5/ 400.