الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الاقتصاد، وأمن في القلوب. . وأمن في البلاد المترامية، وطرقاتها، وأمن لكل وافد لهذه المملكة التي من الله عليها بخدمة الحرمين الشريفين، وبذل النفس والنفيس لخدمة ضيوف الرحمن.
ذلك أن ما تحقق لكل جزء من أطراف البلاد، وتبوك التي هي بوابة المملكة الشمالية الغربية، في أمور عديدة: علمية وزراعية، واقتصادية واجتماعية وغيرها، يطغى على جميع المقاييس العلمية الحديثة بمفاهيم المختصين، وهي نعم من الله تذكر فتشكر، لأن بالشكر تدوم النعم كما قال سبحانه:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (1) ووعد الله حق لا مراء فيه، إذا أدى الإنسان ما عليه لله من حق النعمة شكرا لله واستجابة لأمره، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومع شكر النعمة القولية باللسان، والفعلية بالجوارح، والعقدية بالقلب، فقد أمر الله بالتحدث بنعمه سبحانه، فقال تعالى آمرا نبيه بذلك:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (2). والأمة تبع له صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي إلا ما هو من خصوصياته عليه الصلاة والسلام.
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2)
سورة الضحى الآية 11
منازل الناس في الغزوة:
لما كانت هذه الغزوة في سنة جدباء، والناس في حاجة وعوز، والوقت صيفا، بحرارة شديدة، والثمار قد طابت بالنسبة
لأصحاب المزارع، والروم بعددهم وعدتهم ممن يخشاهم عرب الجزيرة ويرهبون التعرض لهم منذ أيام الجاهلية قد تهيأوا. . فكانت هذه الأسباب محكا للنفوس، وميزانا تغربل به الأعمال، وبلوى يمتحن الله بها الإيمان ومكانته من القلوب، كما قال سبحانه:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1).
ولذا فقد ظهر الناس على ما بطن في قلوبهم، فكانوا ثلاثة أنواع:
1 -
المؤمنون المستجيبون.
2 -
والبكاؤون الذين لا يحبون التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجدون عدة الجهاد من زاد وراحلة.
3 -
المخلفون المنافقون الذين فضحهم الله في هذه الغزوة بمواقف عديدة.
1 -
فالفئة الأولى يوضح حالهم: المبادرة بالسمع والطاعة لله ولرسوله، ولمن ولاه الله أمرهم، استجابة فورية بالنطق بقولهم سمعنا وأطعنا، وفعلية بالبذل: نفسا ومالا، وعملية بالمبادرة تهيئوا للجهاد، وتجهيزا لمن لا يستطيع. يقول سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (2). فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حض أهل الغنى على النفقة، والحملان في سبيل الله، بادر أهل الغنى دفعا بالمال، وحملا
(1) سورة الملك الآية 2
(2)
سورة الأنفال الآية 24
بالرواحل والزاد لمن لا يستطيع، كل على قدر طاقته، وما يسره الله له، وكان أول من بادر أبو بكر الصديق الذي جاء بماله كله، وهو خمسة آلاف درهم، ثم جاء عمر بنصف ماله، ثم جاء عثمان بألف دينار في ثوبه فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقلبها ويقول:«ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم (1)» رواه الترمذي.
وبدأ الناس يتدافعون، كل على قدر استطاعته والمنافقون يستهزؤون بمن يدفع قليلا. . ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة. فقال عثمان: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم نزل عليه الصلاة والسلام درجة من المنبر ثم حث. فقال عثمان: علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال عبد الرحمن بن حباب السلمي راوي الحديث: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا، يحركها- وفي رواية- كالمتعجب «ما على عثمان ما عمل بعد هذا (2)» وكل من أجاب دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستجابة لهذه الدعوة بدون ريب أو تردد، فهو داخل في الفئة الأولى، كأبي خيثمة وحكايته في اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركه ملذات الدنيا استجابة لله ولرسوله حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزوله تبوك، وكغيره ممن كمل جهازهم بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لحقوا به. . أو ممن أثقل السير
(1) سنن الترمذي المناقب (3701)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 63).
(2)
البداية والنهاية لابن كثير 5/ 7.
رواحلهم، مما دفعهم إلى الخنوس فظنهم بعض الصحابة من المتخلفين، والمتسللين لواذا، ولكن صدقهم وإيمانهم دفعهم إلى اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي ذر الغفاري رضي الله عنه، فقد روي في قصته عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: " دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه " حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره. فقال مثل مقالته السابقة. فتلوم أبو ذر بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض منازله. ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل ماشي على الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كن أبا ذر " فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر فقال صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده (1)» .
2 -
ذكر ابن هشام في سيرته: أن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاؤون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، من بني عمرو بن عوف، وذكر أسماءهم ومنهم عرباض بن سارية الفزاري، وعبد الله بن المغفل المزني، فاستحملوا
(1) البداية والنهاية لابن كثير 5/ 13.
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون. قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان. فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه. . وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحا له- وهو الجمل الذي يستقي عليه الماء- فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وجاء المعذرون من الأعراب، فاعتذروا فلم يعذرهم الله، وقد ذكر أنهم نفر من بني غفار.
وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتياب منهم: كعب بن مالك بن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع، أخو بني سالم بن عوف، وهلال بن أمية، أخو بني واقف، وأبو خيثمة، أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم وقد امتحن الله إيمان الثلاثة الأول منهم فكانوا صادقين حتى أنزل الله توبتهم في قوله سبحانه:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (1)، واستعمل رسول الله صلى الله عليه
(1) سورة التوبة الآية 118
وسلم على المدينة سباع بن عرفطة. . وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، على أهله وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف المنافقون وقالوا: ما خالفه إلا استثقالا له، وتخففا منه، فلما سمع ذلك علي أخذ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله وهو نازل بالجرف فقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني أنك استثقلتني وتخففت مني فقال:«كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك. . أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي (1)» . فرجع علي ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
أما أبو خيثمة فإنه بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما جاء إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح- أي الشمس- والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم، ما هذا بالنصف، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق
(1) صحيح البخاري كتاب المغازي (4416)، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (2404)، سنن الترمذي كتاب المناقب (3724)، سنن ابن ماجه المقدمة (121)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 185).
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زادا ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله. ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، فترافقا. فلما أقبل قال الصحابة: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة " فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة. فسلم على رسول الله وأخبره الخبر. . فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير (1)» (2)، كما ذكرنا بعضا من ذلك من قبل.
وقد تخلف أقوام من العصاة، قيل عشرة، منهم أبو لبابة فلما رجع رسول الله أوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل: إنهم حلفوا ألا يطلقهم إلا رسول الله ويعذرهم فقال صلى الله عليه وسلم: «وأنا أقسم ألا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله عز وجل هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين» ، فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا، فأنزل الله عز وجل:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) وعسى من الله واجب، فلما أنزلت أرسل إليهم رسول الله فأطلقهم وعذرهم فجاءوا بأموالهم وقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا (4).
(1) صحيح البخاري المغازي (4418)، صحيح مسلم التوبة (2769)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3102)، سنن النسائي كتاب المساجد (731)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 390).
(2)
يراجع في هذا السيرة النبوية لابن هشام 4/ 161 - 164.
(3)
سورة التوبة الآية 102
(4)
البداية والنهاية لابن كثير 5/ 33.
3 -
أما الفئة الثالثة: فهم المنافقون، وعلى أسهم عبد الله بن أبي ابن سلول الذي رجع بأتباعه من بداية الطريق وهم كثيرون، ليوهنوا عن الجهاد وللرغبة في التخلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه الغزوة، ومنهم الجد بن قيس أحد بني سلمة الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه للغزو بتبوك:«يا جد ألك العام في جلاد بني الأصفر؟ " فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " قد أذنت لك " ففيه نزلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (1)» .
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا بالرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (2). وحدث ابن هشام بسنده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن ناسا من المنافقين، يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من
(1) سورة التوبة الآية 49
(2)
سورة التوبة الآية 81
أصحابه وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ففعل طلحة (1)».
وهؤلاء المنافقون تآمر نفر منهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتضييق على راحلته وأن يطرحوه صلى الله عليه وسلم من رأس عقبة في الطريق، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان بأسمائهم قيل عددهم (14)، وقيل (12) رجلا. وقد روى حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«في أصحابي اثنا عشر منافقا، منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يدخل الجمل في سم الخياط (2)» .
وكان ذلك النفر المتلثمون، قد اعترضوا في العقبة، فصرخ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولوا مدبرين، «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر اللذين كانا يحرسان رسول الله في الطريق:" هل عرفتم القوم؟ " قلنا: لا؛ لأنهم كانوا متلثمين. قال: " هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟ ". قلنا: لا. قال: " أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة فيلقوه منها " قلنا: يا رسول الله، أو لا تبعث إلى عشائرهم، حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال:" لا، أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل لقومه، حتى إذا أظهره الله بهم، أقبل عليهم يقتلهم " ثم قال: اللهم ارمهم بالدبيلة "، قلنا يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: " هي شهاب من نار تقع على نياط قلب أحدهم فيهلك (3)»
(1) البداية والنهاية 5/ 6، 7.
(2)
صحيح مسلم صفات المنافقين وأحكامهم (2779)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 390).
(3)
انظر البداية والنهاية لابن كثير 5/ 24 - 27.