الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحيث إن قصد القتل أمر خفي لا يعلمه إلا الله تعالى ثم القاصد نفسه إلا أنه قد يغلب على الظن إدراكه عن طريق الأحوال والظروف والملابسات، ولهذا فرق أهل العلم في الحكم بين الكنايات الخفية والكنايات الظاهرة في كتاب الطلاق.
ولا يخفى أن كثيرا من وسائل الإثبات كالشهادات ليس قطعية، وإنما هي ظنية الثبوت، ومع ذلك تبنى عليها الأحكام، بل قد تبنى الأحكام على غلبة الظن كالقسامة ونحوها.
ومن هذا المنطلق وجد الخلاف بين أهل العلم في منع القاتل من ميراثه فيمن يقتله.
فمن نظر إلى عموم النصوص الواردة في حرمان القاتل من الميراث أخذ بها من غير نظر إلى غلبة الظن في القصد.
ومن نظر إلى تخصيص عموم النصوص بالعلة، وأن الأحكام الشرعية تدور معها وجودا وعدما، كان له رأي في أن قاتل مورثه قتل خطأ أو شبه عمد إذا غلب على الظن انتفاء قصده في تعجل موت مورثه وتسببه في ذلك، قال بأن هذا التسبب في القتل لا يمنع الإرث.
و
من صور تخصيص عموم النصوص بالعلة
ما يلي:
1 -
جاء النص الصريح في كتاب الله تعالى أن من أهل الزكاة المؤلفة قلوبهم، وقد منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إعطاء من
يدعي أنه مؤلف.
جاء في السنن الكبرى للبيهقي في باب سقوط سهم المؤلفة قلوبهم وترك إعطائهم عند ظهور الإسلام والاستغناء عن التألف عليه: " أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد أنبأنا عبد الله بن جعفر بن درستويه ثنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان ثنا هارون بن إسحاق الهمداني ثنا المحاربي عن حجاج بن دينار الواسطي عن ابن سيرين عن عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نزرعها ونحرثها، فذكر الحديث في الإقطاع، وإشهاد عمر رضي الله عنه عليه، ومحوه إياه، قال: فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما لا أرعى الله عليكما إن رعيتما.
2 -
جاء الترهيب في جر الإزار خيلاء وأن ما نزل عن الكعب فهو في النار، فذكر أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن إزاره يرتخي، فأخرجه صلى الله عليه وسلم من صنف المسبلين؛ لانتفاء أن يكون ذلك منه غطرسة وكبرا وخيلاء.
فعن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، قال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لست ممن يضعه خيلاء (1)» أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، وفي كتاب اللباس.
(1) صحيح البخاري اللباس (5784)، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085)، سنن الترمذي اللباس (1731)، سنن النسائي الزينة (5335)، سنن أبو داود اللباس (4085)، سنن ابن ماجه اللباس (3569)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 67)، موطأ مالك الجامع (1696).
3 -
جاء النص صريحا وعاما في قطع يد السارق أو السارقة، وفي عام الرمادة سرق غلمان لحاطب بن بلتعة جملا لأعرابي، فدرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد عنهم بحجة أن حاطبا كان يجيعهم، وضاعف قيمة الجمل على حاطب لصاحبه، فهذا تخصيص لعموم النص، لتخلف علة الحكم بالقطع ففي موطأ مالك ما نصه:(حدثني مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر: أراك تجيعهم، ثم قال عمر: والله لأغرمنك غرما يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: قد كنت والله أمنعها من أربع مائة درهم، فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم).
فعموم هذه النصوص مخصص بتخلف العلة للحكم حيث إن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما.
قال الزركشي في البحر المحيط: " المسلك الثامن: الدوران،
ويعبر عنه الأقدمون بـ (الجريان) وبـ (الطرد والعكس)، وهو: أن يوجد الحكم عند وجود وصف ويرتفع عند ارتفاعه في صورة واحدة، كالتحريم مع المسكر في العصير، فإنه لما لم يكن مسكرا لم يكن حراما، فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة، ثم لما زال السكر بصيرورته خلا زال التحريم، فدل على أن العلة (السكر) " أهـ.
وقال التلمساني في كتابه مفتاح الوصول: " المسلك الرابع: الدوران، وهو: أن يوجد الحكم عند وجود الوصف، ويعدم عند عدمه، فيعلم أن ذلك الوصف علة ذلك الحكم.
ومثاله: أن عصير العنب قبل أن يدخله الإسكار ليس بحرام إجماعا، فإذا دخله الإسكار كان حراما إجماعا، فإذا ذهب عنه الإسكار ذهب عنه التحريم، فلما دار التحريم مع الإسكار وجودا وعدما، علمنا أن الإسكار علة التحريم، ومن ذلك: احتجاج أصحابنا على طهارة عين الكلب والخنزير؛ بقياسها على الشاة بجامع الحياة، وبيان أن الحياة علة الطهارة وهو: أن الشاة إذا ماتت وفي بطنها جنين حي حكمنا على جميع أجزائها بالنجاسة، وعلى ذلك الجنين بالطهارة، فلما دارت الطهارة مع الحياة وجودا وعدما، علمنا أن الحياة علة الطهارة " أهـ.
وقال القرافي في تنقيح الفصول: " الخامس: الدوران، وهو عبارة عن: اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف وعدمه مع عدمه،
وفيه خلاف، والأكثرون من أصحابنا وغيرهم يقول بحجيته.
ومثاله: العنب حين كونه عصيرا ليس بمسكر ولا حرام، فقد اقترن العدم بالعدم، وإذا صار مسكرا صار حراما، فقد اقترن الثبوت بالثبوت، فإذا تخلل لم يكن مسكرا ولا حراما، فقد اقترن العدم بالعدم، فهذا هو الدوران في صورة واحدة وهي الخمر.
وقد يقع في صورتين وهو دون الأول، مثاله: أن يدعي وجوب الزكاة في الحلي المتخذ لاستعمال مباح، فنقول الموجب لوجوب الزكاة في النقدين كونهما أحد الحجرين؛ لأن وجوب الزكاة دار مع كونه أحد الحجرين وجودا وعدما، أما وجودا ففي المسكوك هو أحد الحجرين والزكاة واجبة فيه، وأما عدما فالعقار ليس أحد الحجرين ولا تجب الزكاة فيه، وإنما رجحت الصورة الأولى على هذه؛ لأن انتفاء الحكم بعد ثبوته في الصورة المعينة يقتضي أنه لم يبق معه ما يقتضيه في تلك الصورة وإلا لثبت فيها، أما إذا انتفى من صورة أخرى غير صورة الثبوت أمكن أن يقال: إن موجب الحكم غير الوصف المدعى علة، وأما ما ذكرتموه من الوصف لو فرض انتفاءه لثبت الحكم بذلك الوصف الآخر، فما تعين عدم اعتبار غيره، بخلاف الصورة الواحدة " أهـ.
وحيث إن علة منع القاتل من الإرث هي: غلبة الظن أنه قتل مورثه استعجالا لإرثه منه، فإذا تخلف غلبة الظن باستعجاله الإرث
وحل محله غلبة الظن بانتفاء ذلك صارت هذه المسألة من تطبيقات دوران الحكم مع العلة وجودا وعدما، وأمكن أن يكون تخلف العلة مسوغا للقول بميراث المتسبب في وفاة مورثه على سبيل الخطأ أو شبه العمد.
وحيث إن المسألة محل خلاف بين أهل العلم، ولمزيد من التصور والاطلاع على أقوال أهل العلم أذكر ما يتيسر من ذلك في المسألة:
اتفق الأئمة الأربعة على أن القتل الذي يتعلق به القصاص يمنع القاتل البالغ العاقل من الميراث إذا كان القتل مباشرا، بل قد وقع إجماع أهل العلم على ذلك إلا ما حكي عن بعضهم بحجة عموم آية الميراث، ولا تعويل على هذا القول الشاذ؛ لقيام الدليل على خلافه، فإن عمر رضي الله عنه أعطى دية ابن قتادة المدلجي لأخيه دون أبيه، وكان حذفه بسيفه فقتله، واشتهرت هذه القصة بين الصحابة رضي الله عنهم، فلم تنكر، فكانت إجماعا. (المغني 9/ 150).
وقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«ليس للقاتل شيء (1)» . (أخرجه الإمام مالك في باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه، من كتاب العقول، الموطأ 2/ 867، والإمام أحمد في المسند 1/ 49).
وروى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله
(1) سنن أبو داود الديات (4564).
صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا فإنه لا يرثه، وإن لم يكن له وارث غيره، وإن كان والده أو ولده، فليس لقاتل ميراث» . (أخرجه البيهقي في: باب لا يرث القاتل، من كتاب الفرائض، السنن الكبرى 6/ 220، وانظر: إرواء الغليل 6/ 118 - 119).
ويضاف إلى ذلك من تعليل الحكم: أن توريث القاتل يفضي إلى تكثير القتل؛ لأن الوارث ربما استعجل موت مورثه، ليأخذ ماله. (انظر: المغني 9/ 150 - 151).
واختلفوا فيما إذا كان القاتل صبيا أو مجنونا أو غير مباشر للقتل أو كان القتل خطأ. وهاك بيان آراء المذاهب الأربعة في هذا الموضوع:
أ - قال الحنفية: إن القتل شبه العمد أو الخطأ يمنع من الميراث.
والقتل شبه العمد: كأن يتعمد القاتل ضرب المقتول بما لا يقتل به غالبا، وموجبه: الدية على العاقلة والإثم والكفارة.
والخطأ كأن رمى صيدا فأصاب إنسانا، أو انقلب عليه في النوم فقتله، أو وطئته دابة وهو راكبها، أو سقط من سطح عليه وموجبه: الكفارة والدية على العاقلة ولا إثم فيه.
وهذه الصور كلها تتحقق فيها علة المباشرة، ولذا يحرم القاتل من الميراث عند الحنفية إذا لم يكن القتل بحق.
أما إذا كان القتل بسبب - وهو ما يكون بفعل غير مباشر - كحفر البئر أو وضع الحجر في غير ملكه، أو كان القاتل صبيا أو مجنونا فلا حرمان عندهم من الميراث في الحالات الثلاث المذكورة. (انظر: السراجية ص 18).
واستدل الحنفية على ما ذهبوا إليه من عدم الحرمان بالقتل بالتسبب ومن عدم حرمان الصبي والمجنون بأن القاتل بالتسبب ليس بقاتل حقيقة؛ لأنه لو حفر بئرا في ملكه ووقع فيها مورثه فمات فلا يؤخذ على ذلك بشيء. والقاتل يؤخذ بفعله سواء أكان في ملكه أم في غير ملكه كالرامي، وأيضا فإن القتل لا يتم إلا بمقتول وقد انعدم حال التسبب. فإن حفره مثلا قد اتصل بالأرض دون الحي، ولا يمكن أن يجعل قاتلا حال الوقوع في البئر، إذ ربما كان الحافر حينئذ ميتا. وإذا لم يكن قاتلا حقيقة لم يتعلق به جزاء القتل وهو الحرمان من الميراث والكفارة.
والصبي والمجنون لا يحرمان من الميراث بالقتل؛ لأن الحرمان جزاء للقتل المحظور، وفعلهما مما لا يصلح أن يوصف بالحظر شرعا، إذ لا يتصور توجه خطاب الشارع إليهما. وأيضا فإن الحرمان باعتبار التقصير بالتحرز، ولا يتصور نسبة التقصير إليهما. (الموسوعة 3/ 24، نقلا عن السراجية ص 19 وما بعدها، والبحر الرائق لابن نجيم 8/ 488 - 500).
ب- وذهب الحنابلة والمالكية في الأرجح إلى أن القاتل عمدا مباشرا أو متسببا يمنع من الميراث من المال والدية ولو كان صبيا أو مجنونا وإن أتى بشبهة تدفع القصاص كرمي الوالد ولده بحجر فمات. (الموسوعة 3/ 23).
وذكر الحنابلة أن القتل المضمون بقصاص أو دية أو كفارة لا إرث فيه، سواء كان عمدا أو شبه عمد أو خطأ، وسواء كان مباشرة أو تسببا، وسواء كان من صغير أو مجنون. أما إن كان غير مضمون: كمن قصد موليه مما له فعله من سقي دواء أو ربط جراحة فمات فيرثه؛ لأنه ترتب عن فعل مأذون فيه، وهذا ما ذهب إليه الموفق ابن قدامة. وقال البهوتي: ولعله أصوب لموافقته للقواعد. (انظر: كشاف القناع 4/ 492 - 493، والموسوعة 32/ 329 - 330، والتشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة 2/ 187).
ج- وعند المالكية رأي آخر هو أن عمد الصبي والمجنون كالخطأ، فيرث من المال دون الدية، وهذا هو الظاهر عندهم. (حاشية الدسوقي 4/ 486).
ولا خلاف عند الحنفية والمالكية والحنابلة فيما لو قتل مورثه قصاصا أو حدا أو دفعا عن نفسه أنه لا يحرم من الميراث.
د- وذهب الشافعية إلى أن كل من له مدخل في القتل يمنع من الميراث،
ولو كان القتل بحق كمقتص وإمام وقاض، وجلاد بأمر الإمام والقاضي وشاهد ومزك. ويحرم القاتل ولو قتل بغير قصد كنائم ومجنون وطفل ولو قصد به مصلحة كضرب الأب ابنه للتأدب وفتحه الجرح للمعالجة، وقالوا: لو قال المقتول: ورثوه فهو وصية.
ولو سقط متوارثان من علو إلى سفل وأحدهما فوق الآخر فمات الأسفل: لم يرثه الأعلى؛ لأنه قاتل. وإن مات الأعلى ورثه الأسفل، لأنه غير قاتل له. (التحفة الخيرية ص56، والموسوعة 3/ 23 - 24).
وقد استند الشافعية في تقرير هذا الرأي إلى أن الحديث المروي: «ليس للقاتل من الميراث شيء (1)» يشمل كل من له مدخل في القتل. والعلة في ذلك خوف استعجال الوارث للإرث بقتل مورثه في بعض الصور، وهو ما إذا قتله عمدا فاقتضت المصلحة حرمانه من الإرث، عملا بقاعدة " من استعجل بشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه ". والاستعجال إنما هو بحسب ظنه، وبالنظر للظاهر وسد باب القتل في باقي الصور، وهو ما إذا كان القتل بغير قصد كما في النائم والمجنون والطفل. (التحفة الخيرية ص 56، والمهذب للشيرازي 2/ 26، والتشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة 2/ 187).
يستفاد مما سبق أن أكثر الفقهاء يتجهون إلى أن القتل بالخطأ أيضا سبب من أسباب الحرمان من الميراث؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «القاتل لا يرث (2)» . (أخرجه البيهقي 6/ 220 من حديث
(1) سنن أبو داود الديات (4564).
(2)
سنن الترمذي الفرائض (2109)، سنن ابن ماجه الفرائض (2735).
أبي هريرة وأعله بضعف أحد رواته. ثم قال: شواهده تقويه).
ولأن القتل قطع الموالاة وهي سبب الإرث. (تكملة فتح القدير 9/ 148، ومغني المحتاج 3/ 25، والموسوعة 32/ 329).
إذا تأملنا وجهات نظر الفقهاء في هذه المسألة تبين لنا أن الفقه الشافعي قد ترجح لديه سد جميع المنافذ التي يمكن أن يخطر منها التسلل إلى القتل ولو بأدنى حيلة في القتل الخطأ، ومما لا شك فيه أن هذا الاتجاه نابع من شدة الورع والاحتياط، ولكنه محل نظر بحيث إنه يفضي في بعض الأحيان إلى حرمان الوارث من الميراث بدون شبهة أو تهمة قوية يقام لها وزن في ميزان القضاء، كما اتضح ذلك من الأمثلة التي سبق إيرادها.
ويبدو لدى إمعان النظر في الآراء المنقولة حول حكم الإرث في القتل الخطأ، أن قول الإمام مالك وهو: أن القاتل في هذه الصورة لا يحرم من الميراث أكثر انسجاما مع العدل، وذلك لانتفاء علة الحكم ولكنه لا يستحق حصته من الدية التي يأخذها ورثة المقتول من عاقلة ذلك القاتل.
جاء في شرح الزرقاني ما نصه كالآتي:
" وإن قتل صاحبه خطأ ورث من ماله ولا يرث من ديته. رواه الدارقطني بإسناد ضعيف، لكنه اعتضد باتفاق أهل المدينة عليه. وقد اختلف في أن يرث من ماله، لأنه لا يتهم على أنه قتله ليرثه
وليأخذ ماله الذي هو علة منع إرثه في قتله عمدا، فإذا انتفت العلة بكون القتل خطأ، ورث من المال، أو لا يرث عملا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«ليس لقاتل شيء (1)» (فأحب) القولين (إلي - أي عند مالك - أن يرث من ماله ولا يرث من ديته، لأن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما. " شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 4/ 243 - 244، ط: بيروت، دار الكتب العلمية).
فالمالكية يرون جواز توريث القاتل خطأ من المال دون الدية وروي ذلك عن سعيد بن المسيب، وعمرو بن شعيب، وعطاء، والحسن، ومجاهد، والزهري، ومكحول، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وأبي ثور، وابن المنذر، وداود. وروي نحوه عن علي رضي الله عنه، لأن ميراثه ثابت بالكتاب والسنة، تخصص قاتل العمد بالإجماع، فوجب البقاء على الظاهر فيما سواه (المغني 9/ 151 - 152).
وهذا مع ملاحظة أن المالكية من أشد الناس في حسم ذرائع الفساد كما أنه من المعلوم أن المحاكم لا تدخر وسعا في دراسة كافة الجوانب المتعلقة بقضايا القتل وإجراء التحقيق في ملابساتها فإذا ثبت لديها بأن القتل لا يتجاوز القتل بالخطأ حينئذ ينبغي أن تختار رأي الإمام مالك فيما يخص بالميراث؛ لأنه من الواضح جدا أن العلة المانعة هي تحقق القصد إلى القتل بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا ما لا يرد في حالة الخطأ والظاهر أن حوادث السيارات في الغالب
(1) سنن ابن ماجه الديات (2646)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 49)، موطأ مالك العقول (1620).
تعد من هذا النوع، إلا إذا دلت قرائن تثبت خلاف ذلك.
ويرجح القول برأي المالكية أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما كما ورد ذلك في كلام الزرقاني، وإذا أجلنا النظر في الفقه الإسلامي وجدنا كثيرا من الأحكام معللة بهذه القاعدة الأصولية الفقهية الكبرى ومن نظائرها القول بسقوط سهم المؤلفة قلوبهم - وهم المشركون المتألفون على الإسلام - في الظروف التي قويت فيها شوكة الإسلام، بالنظر إلى زوال العلة، مع عدم انقطاع هذا السهم بصورة مؤبدة، إذ لم يثبت نسخه شرعا، فيمكن أن يعطى منه عند تحقق العلة، كما هو رأي بعض الفقهاء. (انظر: المغني 9/ 316 - 317، باب قسمة الفيء والغنيمة والصدقة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعا معلقا بسبب إنما يكون مشروعا عند وجود السبب: كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة. . ولكن عمر استغنى في زمنه من إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه ". (مجموع الفتاوى 33/ 94).
وعلى هذا المنوال إذا تدبرنا الحديث الوارد في خصوص المنع من ميراث القاتل تبين لنا أن الحكم فيه منوط بسبب وهو القصد إلى القتل على أي وجه كان، فإذا ثبت ذلك قضائيا طبق الحكم، أما إذا انتفى السبب المذكور كما في حالة الخطأ فلم يحكم بالحرمان من
الميراث، وفق رأي المالكية، على النحو الذي سبق إيراده؛ لأنه أقرب ما يكون إلى قاعدة العدل في التشريع الإسلامي. والله أعلم.
وقد أعد فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله بحثا في حكم توريث المتسبب في موت مورثه، انتهى فيه إلى أنه يرى: أن من تسبب في وفاة مورثه على سبيل الخطأ كما يقع ذلك في حوادث السيارات، أن الراجح في ذلك أن تسببه لا يمنعه من الميراث.
وقد أجاب رحمه الله عن قول من قال: كيف يرجح هذا القول مع حديث: «القاتل لا يرث شيئا (1)» وهو عام؟.
فأجاب عن ذلك بثلاثة أوجه:
الأول: أن في ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا يطمئن إليه القلب في تخصيص عموم آيات المواريث المؤكد التزامها بما سبق، ويكون للعبد حجة عند الله تعالى في منع ما جعله الله تعالى له ودفع الظلم عنه.
الثاني: إذا تقرر ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحمل على ما إذا كان القاتل متهما بقصد قتل مورثه ليرثه، فيكون من باب العام المراد به الخصوص بناء على ما تقتضيه قواعد الشريعة، وهذا له نظائر مثل قوله صلى الله عليه وسلم في مكة:«لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما (2)» أي: دما معصوما.
(1) سنن الترمذي الفرائض (2109)، سنن ابن ماجه الفرائض (2735).
(2)
صحيح البخاري المغازي (4295)، صحيح مسلم الحج (1354)، سنن الترمذي كتاب الحج (809)، سنن النسائي مناسك الحج (2876)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 31).
الثالث: أن حديث منع القاتل من الإرث ليس على عمومه عند أكثر المحتجين به، حيث أخرجوا من عمومه ما إذا كان الوارث قتل مورثه بحق القصاص، ودفع الصائل، ورجم الزاني المحصن، ونحو ذلك.
ويظهر لك جليا أن القاتل خطأ لا يمنع الميراث فيما لو كان هنا ابن بار بأبيه مطيع له خادم له ليلا وفارا فسافر به إلى الحج وكان الابن قائد السيارة فتصادم مع سيارة وكان على الابن خمسون بالمائة، فهلك أبوه بذلك، وكان له ابن عم بعيد فيحرم الابن من ميراث أبيه وهو أعظم الناس مصيبة به، ويعطى ابن العم الذي ما كان يعرفه ولا يهتم بحياته أو موته.
وكذلك لو كان ابنان أحدهما بار بأبيهما والثاني عاق له فحمل الابن البار أباهما إلى العمرة فحصل الحادث على يده وهلك الأب فيحرم الابن البار من الميراث ويعطى العاق مع أن الأول بفقد أبيهما أعظم مصيبة من العاق.
فمثل هاتين الصورتين لا تطيب النفس بحرمان هذا القاتل من الميراث وهو أبعد الناس عن التهمة بقتل أبيه ليرث منه، والشريعة العادلة المبنية على الحكمة يبعد جدا أن تأتي بذلك.
وأما حكم القتل بالسبب فله أحوال:
الأولى: أن يقوم بسبب يفضي إلى قتل مورثه عامدا قتله ليرثه، فهذا يمنع من الميراث مثل أن يحفر في طريق مورثه الذي
يسلكه حفرة تقضي بهلاك من سقط بها، فلا يرثه في هذا الحال لكن عليه الضمان والكفارة.
الثانية: أن يقوم بسبب يفضي إلى قتل مورثه عامدا قتله لا ليرثه ولكن حمية وغضبا، فهذا محل نظر واجتهاد كما سبق في القتل بالمباشرة.
الثالثة: أن يكون القتل بسبب آخر غير ما ذكر في الحالتين السابقتين فلا يمنع الميراث سواء كان السبب مباحا مثل أن يحفر بئرا في ملكه من غير طريق المارة يمر به المورث فيسقط فيموت فلا يمنع الحافر من الميراث ولا ضمان عليه ولا كفارة، أم كان السبب محرما مثل أن يحفر لنفسه بئرا في طريق عام فيمر بها المورث فيسقط فيموت فلا يمنع الحافر من الميراث لكن عليه الضمان والكفارة لتعديه بحفرها في موضع غير مأذون فيه.
وهل تكون الدية على الحافر أو على عاقلته؟ صرح الحنفية رحمهم الله تعالى أنها تكون على العاقلة، كما صرحوا أن القتل بالسبب لا يمنع الميراث. (أنظر: ص 618/ 2 من مجمع الأنهرفي فقه الحنفية).
واعلم أنه إذا حصل الشك في المانع لأي سبب من الأسباب فإنه يجب اطراحه وعدم الالتفات إليه؛ لأنه لا يعارض اليقين وهو ثبوت سبب الإرث بالشك وهو المنع المشكوك فيه، ودليل ذلك أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يشك في انتقاض طهارته: «لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1)» وقال في الرجل يشك في عدد ركعات الصلاة: «فليطرح الشك وليبن على ما استيقن (2)» . ومن قواعد الفقهاء: أن اليقين لا يزول بالشك.
وعلى هذا فلا يحل منع من قام به سبب الإرث من ميراثه إلا بمانع متيقن، فإن قيل: الأصل منع القاتل من الميراث؛ لعموم الحديث. فالجواب من ثلاثة وجوه:
الأول: أن في ثبوت الحديث ما فيه، كما سبق.
الثاني: أنه محمول - على تقدير ثبوته - على قتل يكون فيه اتهام القاتل باستعجال ميراثه كما تقتضيه الحكمة الشرعية والقواعد العامة فيكون من باب العام المراد به الخاص.
الثالث: أن أكثر المحتجين به لا يقولون بعمومه كما سبق، ومن المقرر أن العام إذا خصص ضعفت دلالته على شمول جميع أفراده بل قال بعض الأصوليين: تبطل دلالته على الشمول؛ لأن تخصيصه بصورة ما يدل على عدم إرادة الشمول، والراجح أنه يبقى على عمومه فيما عدا صورة التخصيص.
هذا ما تيسر ذكره، والله المستعان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) صحيح البخاري الوضوء (137)، صحيح مسلم الحيض (361)، سنن النسائي الطهارة (160)، سنن أبو داود الطهارة (176)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (513)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 39).
(2)
صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (571)، سنن النسائي السهو (1238)، سنن أبو داود الصلاة (1024)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1210)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 83)، موطأ مالك النداء للصلاة (214)، سنن الدارمي الصلاة (1495).