الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محتملا للمعنيين السابقين، كحديث معاذ السابق، فإنه قد يعني به أن محل الدعاء قبل السلام أو بعده، وهذا الاحتمال أو الإجمال إنما يكون في حالة خلو الروايات من البيان، أما إذا بين ذلك كما في حديث أهل الدثور، فلا يبقى هناك إجمال ولا احتمال، والله تعالى أعلم.
المبحث السابع: في حجة من منع من الدعاء بعد الصلاة المكتوبة
والجواب على ذلك:
ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلى أن الدعاء لا يشرع بعد الصلاة، وإنما محل الدعاء في الصلاة لا خارجها، وحمل ما ورد من الأدعية في دبر الصلاة على أن ذلك محله آخر الصلاة وقبيل السلام.
وقد سئل - رحمه الله تعالى - عن هذه المسالة أكثر من مرة، وكان جوابه بنحو ما سبق بيانه:
سئل مرة: هل دعاء الإمام والمأموم عقيب صلاة الفرض جائز أو لا؟
فأجاب: " الحمد لله. أما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة فهو بدعة، لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنما كان دعاؤه في صلب الصلاة؛ فإن المصلي يناجي ربه، فإذا دعا حال مناجاته له كان مناسبا.
وأما الدعاء بعد انصرافه من مناجاته وخطابه فغير مناسب، وإنما المسنون عقب الصلاة هو الذكر المأثور عن النبي صلى الله عليه
وسلم، من التهليل، والتحميد، والتكبير، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عقب الصلاة:«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (1)» .
وقد ثبت في الصحيح، أنه قال:«من سبح دبر الصلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد ثلاثا وثلاثين، وكبر ثلاثا وثلاثين، فذلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، حطت خطاياه (2)» أو كما قال، فهذا ونحوه هو المسنون عقب الصلاة والله أعلم (3).
وملخص الجواب في النقاط التالية:
1 -
الدعاء الجماعي للإمام والمأموم بدعة.
2 -
لم يكن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم خارج الصلاة بعد الفراغ منها، بل كان داخل الصلاة.
3 -
أن الدعاء في الصلاة هو المناسب لحال من يناجي ربه.
4 -
المسنون بعد السلام من الصلاة هو الذكر المأثور، من التهليل والتحميد والتسبيح والتكبير.
(1) أخرجه البخاري في الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة 11/ 132، ومسلم في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة 1/ 415.
(2)
مسلم في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة 1/ 418، وأخرجه أحمد 2/ 371 كذلك.
(3)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 22/ 519.
وقال ابن تيمية - رحمه الله تعالى - " الذي نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بعد الصلاة المكتوبة إنما هو الذكر المعروف، كالأذكار التي في الصحاح، وكتب السنن والمسانيد، وغيرها، مثل ما في الصحيح: أنه «كان قبل أن ينصرف من الصلاة، يستغفر ثلاثا، ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام (1)» . . إلخ.
وقال: (وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة، فلم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نقل عنه أمر معاذ أن يقول دبر كل صلاة: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (2)»، ونحو ذلك.
ولفظ (دبر الصلاة) قد يراد به آخر جزء من الصلاة، كما يراد بدبر الشيء مؤخره، وقد يراد به ما بعد انقضائها، كما في قوله تعالى:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} (3)، وقد يراد به مجموع الأمرين، وبعض الأحاديث يفسر بعضا لمن تتبع ذلك وتدبره.
وبالجملة فهنا شيئان:
أحدهما: دعاء المصلي المنفرد، كدعاء المصلي صلاة الاستخارة، وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلي الاستخارة، وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلي وحده إماما كان أو مأموما.
والثاني: دعاء الإمام والمأمومين جميعا، فهذا الثاني لا ريب أن
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591)، سنن الترمذي الصلاة (300)، سنن أبو داود الصلاة (1512)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 280)، سنن الدارمي الصلاة (1348).
(2)
سنن النسائي السهو (1303)، سنن أبو داود الصلاة (1522)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 247).
(3)
سورة ق الآية 40
النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في أعقاب المكتوبات، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه، إذ لو فعل لنقله عنه أصحابه، ثم التابعون، ثم العلماء، كما نقلوا ما هو دون ذلك.
ولهذا كان العلماء المتأخرون في الدعاء على أقوال:
منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وغيرهم، ولم يكن معهم في ذلك سنة يحتجون بها، وإنما احتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدها.
ومنهم من استحبه أدبار الصلوات كلها، وقال: لا يجهر به إلا إذا قصد التعليم. كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعي، وغيرهم، وليس معهم في ذلك سنة، إلا مجرد كون الدعاء مشروعا، وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة، وهذا الذي ذكروه قد اعتبره الشارع في صلب الصلاة. فالدعاء في آخرها قبل الخروج مشروع مسنون بالسنة، واتفاق المسلمين، بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء في آخرها واجب قال: " والمناسبة الاعتبارية فيه ظاهرة، فإن المصلي يناجي ربه، فما دام في الصلاة لم ينصرف فإنه يناجي ربه، فالدعاء مناسب لحاله، أما إذا انصرف إلى الناس من مناجاة الله لم يكن موطن مناجاة له ودعاء، وإنما هو موطن ذكر له، وثناء عليه، فالمناجاة والدعاء حين
الإقبال والتوجه إلى الله في الصلاة، أما حال الانصراف فالثناء والذكر أولى).
ويظهر والله تعالى أعلم أن فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كانت لمواجهة ما أحدثه بعض الأئمة من الدعاء بعد الصلاة مباشرة، وتأمين المأمومين على ذلك، وترك الأذكار المعروفة المشروعة بعد السلام، من الاستغفار والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ونحو ذلك، يوضح ذلك قوله:
" لم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعا، لا في الفجر ولا في العصر ولا في غيرهما من الصلوات، بل قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه، ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة) (1).
ويوضحه أيضا قوله: " وأما حديث أبي أمامة قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبة (2)» .
فهذا يجب أن لا يخص ما بعد السلام، بل لا بد أن يتناول ما قبل السلام، وإن قيل: إنه يعم ما قبل السلام وما بعده، لكن ذلك لا يستلزم أن يكون دعاء الإمام والمأموم جميعا بعد السلام سنة، كما لا
(1) مجموع الفتاوى 22/ 492.
(2)
أخرجه الترمذي في الدعوات، باب (79) 5/ 527، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه الطبراني في الدعاء 2/ 842.
يلزم مثل ذلك قبل السلام، بل إذا دعا كل واحد وحده بعد السلام فهذا لا يخالف السنة، وكذلك «قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (1)» يتناول ما قبل السلام، ويتناول ما بعده أيضا كما تقدم، فإن معاذا كان يصلي إماما بقومه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إماما، وقد بعثه إلى اليمن معلما لهم، فلو كان هذا مشروعا للإمام والمأموم مجتمعين على ذلك كدعاء القنوت، ولكان يقول: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، فلما ذكره بصيغة الإفراد، علم أنه لا يشرع للإمام والمأموم ذلك بصيغة الجمع.
ومما يوضح ذلك ما في الصحيح (2)، عن البراء بن عازب، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: «ربي قني عذابك يوم تبعث عبادك أو يوم تجمع عبادك (3)» فهذا فيه دعاؤه صلى الله عليه وسلم بصيغة الإفراد كما في حديث معاذ، وكلاهما إمام. وفيه أنه كان يستقبل المأمومين، وأنه لا يدعو بصيغة الجمع) (4).
والظاهر أن صنيع أولئك الأئمة من الدعاء الجماعي مع المأمومين، جعل شيخ الإسلام يحشد ما استدل به من الأدلة النقلية والعقلية على منع الدعاء الجماعي المخالف للسنة، ولا ريب، ولكن
(1) سنن النسائي السهو (1303)، سنن أبو داود الصلاة (1522)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 247).
(2)
في صلاة المسافرين، باب استحباب يمين الإمام 1/ 492
(3)
صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (709)، سنن النسائي الإمامة (822)، سنن أبو داود الصلاة (615)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1006)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 290).
(4)
مجموع الفتاوى 22/ 500 - 501.
هذا الدافع ذهب به إلى حد أن يقول بعدم سنية الدعاء بعد الصلاة، وأن المسنون هو الدعاء قبل السلام، وأما بعد السلام فإنه (شرع لسنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة بالألفاظ الصريحة)(1).
ولذلك نجد شيخ الإسلام يرجح أن دبر الصلاة يراد به آخر جزء منها، وقد يراد به ما يلي: آخر جزء منها، كما في دبر الإنسان فإنه آخر جزء منه (2).
قال رحمه الله: (فالدعاء المذكور في دبر الصلاة، إما أن يراد به آخر جزء منها؛ ليوافق بقية الأحاديث، أو يراد به ما يلي آخرها، ويكون ذلك ما بعد التشهد. . أو يكون مطلقا أو مجملا، وبكل حال فلا يجوز أن يخص به ما بعد السلام؛ لأن عامة الأدعية المأثورة كانت قبل ذلك، ولا يجوز أن يشرع سنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة بالألفاظ الصريحة)(3).
ومن كل ما سبق يمكن تلخيص رأي شيخ الإسلام في هذه المسألة في النقاط الآتية:
1 -
أن محل الدعاء قبل السلام لا بعد السلام، وأن الصلاة كلها محل دعاء.
(1) انظر: مجموع الفتاوى 22/ 499.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى 22/ 499.
(3)
مجموع الفتاوى 22/ 499.
2 -
أن الأحاديث التي جاءت في الأدعية دبر الصلاة ينبغي أن تحمل على ما قبل السلام، لأن دبر كل شيء جزء منه.
3 -
لا يجوز أن يقال بسنية الدعاء بعد الصلاة؛ لأن ذلك تشريع لسنة بلفظ مجمل وهو (دبر الصلاة) هذا، مع تجويزه، لأن يراد بدبر الصلاة ما بعدها أيضا.
4 -
يستدل شيخ الإسلام بالدليل العقلي لتدعيم مذهبه، وهو أن المصلي في صلاته يناجي ربه ويدعوه، وهو في هذه الحالة مقبل على مولاه، فالدعاء في هذه الحال مناسب، أما بعد انصرافه عن مناجاة ربه بعد السلام فغير مناسب.
5 -
الدعاء الجماعي من الإمام والمأمومين بدعة محدثة.
أما تلميذه ابن القيم رحمه الله، فقد تناول هذه المسألة في كتابه زاد المعاد (1)، وكان متأثرا بشيخه من ناحية، ومخالفا له نوع مخالفة، من ناحية أخرى.
فأما تأثره بشيخه فهو قوله: " إن الدعاء بعد السلام من الصلاة لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن) (2).
وأما مخالفته لشيخه فهي قوله إن الدعاء بعد الصلاة يشرع بعد الفراغ من الأذكار المشروعة، وتكون مشروعيته لا لكونه واقعا
(1) 1/ 66، 78، 237.
(2)
زاد المعاد 1/ 66.
في دبر الصلاة، بل لأنه بعد العبادة الثانية، ويقصد بها الذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ونحوه.
ويمكن تلمس مخالفته لشيخه في قوله عقب حديث معاذ في الدعاء دبر الصلاة: (ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام فراجعته فيه، فقال: دبر كل شيء منه كدبر الحيوان)(1).
ويحسن بنا أن ننقل نص كلامه، لنكون على بينة من مذهبه في المسألة، وحتى لا ينسب إليه رحمه الله ما لم يرده، قال في زاد المعاد في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة: (وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلا، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما. والله أعلم.
وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها، وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة، فإذا سلم منها انقطعت تلك المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه، والقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه، ولا ريب أن عكس هذا
(1) زاد المعاد 1/ 78.
الحال هو الأولى بالمصلي، إلا أن هاهنا نكتة لطيفة، وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته، وذكر الله وهلله، وسبحه، وحمده، وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة، استحب له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقيب هذه العبادة الثانية لا لكونه دبر الصلاة، فإن كل من ذكر الله وحمده وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم استحب له الدعاء عقيب ذلك كما في حديث فضالة بن عبيد:«إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء (1)» قال الترمذي: حديث صحيح.
هذا نص كلامه، وهو واضح لا يحتاج إلى زيادة توضيح، غير أنا نود أن نلخصه في النقاط الآتية:
1 -
دعاء الإمام وهو مستقبل القبلة أو مستقبل المأمومين ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
أن هذا الدعاء على هذا الوجه لم يرو بسند صحيح ولا حسن.
3 -
أن تخصيص هذا الدعاء بصلاة الفجر والعصر استحسان من بعض العلماء.
4 -
الدليل العقلي وهو أن اللائق بالمصلي أن يدعو في الصلاة لا
(1) في كتاب الدعوات، باب (65)، 5/ 516، وأخرجه أيضا أبو داود في الصلاة، باب الدعاء، 2/ 77، والنسائي في الصلاة (السهو) باب التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة 3/ 44.
بعدها، وهو عين ما قاله الإمام ابن تيمية.
5 -
استحبابه للمصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الأذكار المشروعة ثم يدعو بما شاء.
6 -
هذا الدعاء مشروع أو مستحب، لا لكونه واقعا في دبر الصلاة، بل لأنه واقع بعد تمجيد الله وذكره والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غير أنا نراه بعد صفحات قلائل يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو إذا سلم من الصلاة، وذكر بعض أدعيته، مثل حديث معاذ:«اللهم أعني على ذكرك (1)» وحديث علي بن أبي طالب «كان إذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت (2)» . قال بعده: " هذه قطعة من حديث علي الطويل الذي رواه مسلم في استفتاحه عليه الصلاة والسلام، وما كان يقوله في ركوعه، سجوده، ولمسلم فيه لفظان: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله بين التشهد والتسليم، وهذا هو الصواب. والثاني: كان يقوله بعد السلام، ولعله كان يقوله في الموضعين. والله أعلم "(3).
وقال عقيب إيراده لحديث معاذ حين أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم في دبر كل صلاة «اللهم أعني على ذكرك
(1) أخرجه النسائي في سننه، باب الدعاء بعد الذكر نوع آخر من الدعاء 3/ 53، من طريق ابن وهب قال: سمعت حيوة به. وأخرجه أحمد في مسنده 5/ 245، من طريق عبد الله بن يزيد المقري به. وأخرجه أيضا 5/ 247، من طريق أبي عاصم عن حيوة به. وأخرجه ابن حبان في الصحيح كما في الإحسان 3/ 243، من طريق عبد الله بن يزيد به. وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 273، من طريق عبد الله بن يزيد به. وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وأخرجه الطبراني في الدعاء (654)، من طريق حيوة به. وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة ص 33، من طريق يحيى بن يعلى، عن حيوة ابن شريح به. درجته: إسناده صحيح.
(2)
أخرجه مسلم في صلاة المسافرين 1/ 534، من طريق الماجشون به، وفيه أنه كان يقول ذلك الدعاء بعد السلام، وفي رواية: بين التشهد والتسليم، وأخرجه الترمذي في الدعوات، ما جاء في الدعاء عند افتتاح الصلاة 5/ 486، من طريق الماجشون به بنحو روايتي مسلم، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه في الصلاة، باب جامع الدعاء بعد السلام في دبر الصلاة 1/ 366، من طريق الماجشون به ولفظه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا فرغ من صلاته فسلم قال: اللهم اغفر لي ما قدمت. . . إلخ. درجته: صحيح، لأنه في صحيح مسلم.
(3)
زاد المعاد 1/ 76.
وشكرك وحسن عبادتك (1)». ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام فراجعته فيه فقال:(دبر كل شيء منه كدبر الحيوان)(2).
ويبدو والله أعلم أن الإمام ابن القيم قد نقض قوله السابق بعدم مسنونية الدعاء بعد الصلاة، أو كاد، فقد ذكر هذا الكلام الأخير في فصل عقده لبيان ما كان صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة، وجلوسه بعدها، وسرعة الانتقال منها، وما شرعه لأمته من الأذكار والقراءة.
ويدلك على ذلك أيضا قوله في حديث علي بن أبي طالب:
إن مسلما رواه بلفظين أحدهما أنه كان يقوله قبل السلام، والآخر أنه كان يقوله بعد السلام، ومع أنه رجح الأول إلا أنه جوز أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله في الموضعين.
وكذلك تفسيره لدبر الصلاة بأنه يعني ما قبل السلام وما بعده، وذكره لحديث معاذ وغيره.
كل ذلك يدل على أن رأيه في المسألة متجاذب بين متابعته لشيخه، وبين نظره إلى الأحاديث، مما حدا به إلى التوفيق بين قول شيخه الإمام، ودلالات الحديث التي ذكرها في الزاد، وعقد له فصلا في بيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من صلاته.
(1) سنن النسائي السهو (1303)، سنن أبو داود الصلاة (1522)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 247).
(2)
زاد المعاد 1/ 76.
والتجاذب الذي كان ابن القيم رحمه الله واقعا تحت تأثيره يشير إليه، ويوحي به قوله رحمه الله (ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه، فقال: (دبر كل شيء منه كدبر الحيوان).
وإذن فقد كان ابن القيم يراجع شيخه في تفسيره لمدلول " دبر الصلاة " والمراجعة تعني ولا شك أنه كان يرى رأيا غير رأي شيخه، وأنه كان يناقشه فيه؟ ولذلك جاء بتلك " النكتة اللطيفة "(1) في تجويزه بل استحبابه لدعاء المصلي بعد أن يفرغ من صلاته، وأذكاره المشروعة، وقوله: إن هذا الدعاء المستحب ليس لكونه واقعا دبر الصلاة، ولكن لكونه بعد الأذكار المشروعة، والصلاة والسلام على رسول الله.
ومع ذلك فقد فهم منه بعض الناس أنه يمنع من الدعاء بعد الصلاة مطلقا، قال ابن حجر: (وفهم كثير ممن لقيناه من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقا، وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال القبلة وإيراده بعد السلام، أما إذا انفتل بوجهه وقدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده
(1) ذلك قوله في الزاد.
الإتيان بالدعاء حينئذ) (1).
وبعد هذا العرض لمذهب شيخ الإسلام وتلميذه، نشرع بحول الله وقوته وتوفيقه وهدايته في النظر فيما ذهبا إليه، ودراسة ما أورداه من الحجج التي استندا إليها في مذهبهما.
فأما ما ذهب إليه ابن تيمية رحمه الله من منع الدعاء الجماعي من الإمام والمأمومين فحق لا ريب فيه، ولا مناقشة في هذا، لأنه كما قال شيخ الإسلام: لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء من هذا، ولو كان هناك شيء منه لنقل.
وأما قوله وقول ابن القيم رحمهما الله تعالى: أن المشروع بعد الصلاة الذكر المشروع من الاستغفار والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير فهذا أيضا حق واضح، وشرع بين، وسنة متواترة. ولكنه لا يمنع من الدعاء بعد الصلاة.
والمناقشة إنما هي في قول شيخ الإسلام وقول ابن القيم: أن الدعاء بعد السلام ليس بمشروع، بناء على أن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما ورد عنه من الدعاء دبر الصلاة معناه قبل السلام منها، وأن اللائق بحال المصلي أن يدعو في الصلاة لا خارجها.
فأما قولهما: إن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. فيرده ما أورده ابن القيم من بعض الأحاديث، وما سنذكره إن شاء
(1) فتح الباري 13/ 382.
الله في المبحث الخاص بذلك.
وأما قول شيخ الإسلام: إن (دبر الصلاة) يراد به آخر جزء منها قبل السلام. فيرده ما جاء من الحديث من تفسير لدبر الصلاة بما بعد السلام منها، وما ورد من الحديث أيضا بقراءة المعوذات دبر الصلاة، بما بعد السلام منها، وما ورد من الحديث أيضا بقراءة المعوذات دبر الصلاة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض صحابته بذلك، ومعلوم أن جلوس التشهد ليس محلا للقراءة، وإنما هو للدعاء والصلاة والسلام على رسول الله بالمأثور من ذلك، فوجب أن يحمل ذلك على ما بعد السلام.
وقد ذكرنا في المبحث السادس أن (دبر الصلاة) يراد به ما قبلها وما بعدها، وهذا ما رجحه ابن القيم ونقلنا قوله في ذلك، وجوزه أيضا شيخ الإسلام في ثنايا كلامه ونقلناه أيضا.
قال الحافظ ابن حجر: " فإن قيل المراد بـ " دبر الصلاة " قرب آخرها وهو التشهد، قلنا: ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة، والمراد به بعد السلام إجماعا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه) (1)، واحتج الحافظ أيضا «بحديث: ذهب أهل الدثور (2)» وأن فيه: «تسبحون دبر كل صلاة (3)» وهو بعد السلام جزما، فكذلك ما شابهه (4).
على أنه قد جاءت أحاديث صريحة في دعائه عليه السلام بعد الصلاة بلفظ: كان إذا سلم من الصلاة أو إذا فرغ من صلاته أو نحو ذلك، فتكون هذه الأحاديث مفسرة للفظ المجمل المختلف حوله.
(1) فتح الباري 13/ 382.
(2)
صحيح البخاري الأذان (843)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (595)، سنن أبو داود الصلاة (1504)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (927)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 238)، موطأ مالك النداء للصلاة (488)، سنن الدارمي الصلاة (1353).
(3)
صحيح البخاري الدعوات (6329)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (595)، سنن أبو داود الصلاة (1504)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (927)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 371)، موطأ مالك النداء للصلاة (488)، سنن الدارمي الصلاة (1353).
(4)
انظر: فتح الباري 13/ 382.
وأما الدليل العقلي الذي استدل به، أو استأنس به شيخ الإسلام وتلميذه وهو: أن المصلي قريب من ربه في صلاته، والمناسب الدعاء حال قربة وإقباله على ربه.
فالجواب: أننا نسلم بذلك، والصلاة كلها محل للدعاء، بل هي كلها دعاء إذا نظرنا إلى الاشتقاق اللغوي، لكن لم لا ينظر إلى الصلاة على أنها قربة ووسيلة إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا قضاها العبد وأداها توسل بها إلى مولاه وتقرب بها إليه سبحانه وطلب حاجته من الله بعدها.
ولم يمنع أحد من الدعاء قبل السلام، ومن المواضع الأخرى في الصلاة كالركوع والسجود والقيام وغيرها، حتى يقال: إن المناسب الدعاء في الصلاة لا خارجها: بل إنا نقول: يدعو في الصلاة ويدعو خارجها بعد الفراغ منها بناء على دلالة الأحاديث، واستئناسا بالنظر الاعتباري، الذي يجعل الصلاة وسيلة صالحة يدعو فيها العبد ربه، فإذا فرغ منها جعلها وسيلة صالحة تقوم بين يدي حاجته من ربه وسؤاله إياه.
ثم إن مما يستدل به على مشروعية الدعاء بعد الصلاة - فريضة أو نافلة - أنه ليس هناك وقت محدد من الشارع للدعاء يجوز فيه، ووقت لا يجوز فيه كالصلاة، بل الدعاء عبادة مشروعة في كل وقت، ومن منع منه في حال أو زمان أو مكان يحتاج إلى إثبات ذلك بالدليل الصحيح الصريح، فمن يدعو بعد الصلاة أقل أحواله أن يكون متمسكا هذا الأصل، وهو مشروعية الدعاء في كل وقت، فكيف إذا جاءت بالأمر به
والحث عليه أحاديث، ولو كانت مجملة الدلالة على فرض ذلك، والواقع أن هذه الأحاديث، لا إجمال فيها، بل بينتها أحاديث أخرى، كما سبق بيانه. والله أعلم.
وقد ذكر المحدثون في كتبهم أحاديث الدعاء بعد المكتوبة وبوبوا لها الأبواب الدالة على مشروعية ذلك، فها هو الإمام البخاري يعقد بابا لذلك في صحيحه: باب الدعاء بعد الصلاة، وباب الذكر بعد الصلاة، ومسلم يعقد بابا لاستحباب الذكر بعد الصلاة، وأبو داود يعنون ذلك بقوله: باب ما يقول الرجل إذا سلم، والترمذي عنده: باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتعوذه دبر كل صلاة، والنسائي: باب التعوذ في دبر الصلاة، الذكر والدعاء بعد التسليم والدعاء عند الانصراف من الصلاة، وابن ماجه: باب ما يقال بعد التسليم، وابن أبي شيبة: باب ما يقال في دبر الصلوات. وعبد الرزاق: باب التسبيح والقول وراء الصلاة، وابن حبان: ذكر الاستحباب للمرء أن يستعين بالله عز وجل على ذكره وشكره وحسن عبادته عقيب الصلوات المفروضات، وابن خزيمة: باب جامع الدعاء بعد السلام في دبر الصلاة، والحاكم: باب الدعاء بعد الصلاة. وكذلك المصنفون في الأدعية كابن السني وغيره، وذكر أبو بكر الطرطوشي في كتابه:" الدعاء المأثور وآدابه " باب الدعاء في أثر الصلاة. وما مضى ذكره إنما هو للتمثيل لا للحصر.
تنبيه:
القول بمشروعية الدعاء أدبار الصلوات، لا يعني به الذكر أو الدعاء الجماعي من الإمام والمأمومين، كما هو واقع في بعض البلدان الإسلامية، فإن هذا ليس له أصل من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وقد سبق قول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك.
لكن لو فعله الإمام على سبيل التعليم في بعض الأحيان، لكي يعرف المأمومون الأذكار المشروعة بعد الصلاة، المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي يظهر والله أعلم أنه لا بأس بذلك إن شاء الله، وقد سئلت لجنة الفتوى في هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية عن (إمام يرفع يديه بعد الصلوات المكتوبة والمأمومون كذلك، يدعو الإمام والمأمومون يؤمنون على دعائه) فأجابت بما نصه:
(العبادات مبنية على التوقيف، فلا يجوز أن يقال: هذه العبادات مشروعة من جهة أصلها أو عددها أو هيئتها، أو مكانها إلا بدليل شرعي يدل على ذلك ولا نعلم سنة في ذلك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا من قوله، ولا من فعله، ولا من تقريره)(1).
وسئلت عن: حكم الدعاء بعد الصلاة جماعة فأجابت: " الدعاء عبادة، ولكن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا
(1) مجلة البحوث الإسلامية 17/ 55 فتوى رقم (1373).