الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة الطّبعة الأولى
الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه محمد المصطفى وعلى آله وصحبه ذوي المجد والعلى.
وبعد: فلا شك أنّ العهد النبويّ- على صاحبه الصلاة والسلام- كان عهدا ذا نتائج هامة في تاريخ العالم السياسي والديني والاقتصادي وغير ذلك. ولما كان غير ممكن أن نفهم الحالة السياسية في عصر من العصور إلا بمراجعة الوثائق الرسمية التي تتعلق بذلك العصر- وهي من أجلّ المآخذ للحائق التاريخية- كان من الضروري أن نجمع الوثائق المتعلقة بالعصر النبوي حتى يتسنى لنا أن نفهمه فهما صحيحا.
لا يخفى أن قريش مكة لم يكن لهم قبل الإسلام تجربة واسعة لسياسة المدن، ولم يتفق لهم أن يجتمعوا تحت لواء حكومة ذات تمدّن وثقافة بحيث يرجى أن تكون لهم نظم سياسية مكتوبة. ولسنا ننكر أنهم حرّروا أحيانا بعض العهود والمحالفات بينهم وبين القبائل المجاورة، إلّا أن ذلك كان في دائرة محدودة. فلما جاء الإسلام اجتمعت القوى المنتشرة في جزيرة العرب على مركز واحد، وتشكّلت في دولة ذات نظام وإدارات منضبطة، وقامت بينها وبين الممالك المجاورة- كفارس وبيزنطة ومستعمراتها- علاقات سياسية، ولم يمض على تلك الدولة عشرة أعوام أخر إلا وقد تسلطت على بلاد العجم والعراق وسوريا وفلسطين ومصر وغيرها، فكانت هذه الحالة تدعو إلى كتابة «كتب»
تعبّر عن تلك العلاقات السياسية. وهي الوثائق التي عرّفتنا طرفا من أخبارها.
ولا يقال إن الرواية الشفوية هي وحدها التي اعتمد عليها في أوائل الإسلام، إذ أن المسلمين قد أمروا أن يكتبوا جميع ما فيه من حقوق العباد ويستشهدوا عليه فإن «ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا» .
ومن ثم كتب النبي صلى الله عليه وسلم جميع المحالفات والمعاهدات مع القبائل والملوك سوى ما كتب إليهم من المراسلات. ويقال إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كانت عنده نسخ العهود والمواثيق ملء صندوق، ولكنها احترقت حين احترق الديوان يوم الجماجم سنة 82 للهجرة. والذي بقي بعد ذلك قضت عليه صروف الزمن وغارة التتار.
والواقع أنه لم يصل إلينا إلا أصل اثنتين أو ثلاث من تلك الوثائق، أولها كتاب النبي إلى المقوقس (راجع رقم 49) الذي وجده المستشرق الفرنسي بارتيلمي في كنيسة قرب أخميم في مصر، والثاني كتاب النبي إلى المنذر بن ساوى (رقم 57) الذي كان المستشرق الألماني فلا يشر نشر صورته، والثالث كتاب النبي إلى النجاشي (رقم 21) الذي ينوي المستشرق دنلوب الإنكليزي نشره. وقد بحثنا عن صحة الأصلين الأولين في مقالة في «مجلة عثمانية» الهندوستانية في شهر يونيو سنة 1936 وفي أخرى في مجلة «إسلامك كلجر» الإنكليزية (حيدر آباد في شهر أكتوبر سنة 1939) ، ونحن نكتفي هنا بإرجاع القارىء إلى الصور الشمسية التي ألحقناها مجموعتنا هذه «1» .
وإذا كانت أصول أكثر الوثائق قد ضاعت فقد حفظ لنا رواة الحديث والمؤرخون جملة صالحة منها كما يظهر ذلك في «تذكرة المصادر» التي ألحقناها بهذا الكتاب.
والظاهر أن الاعتناء بتلك الوثائق قديم جدا، وكثيرا ما ذكر الرواة والمؤلفون أنهم نقلوا كتاب كذا من الأصل المحفوظ عند عائلة من كتب إليه.
(1) راجع الصور المقابلة للوثائق 21، 49، 57.
وأظن أن أول تأليف خصّ بهذا هو مجموعة عمرو بن حزم رضي الله عنه من وضع أبي جعفر الدّيبليّ المهاجر الهندي في القرن الثالث للهجرة «2» . ومع كثرة ما تداولت الأيدي هذه المجموعة فإنها جديرة بأن توضح بعض الغوامض التي توجد مثلا في رواية طبقات ابن سعد لهذه الوثائق «3» .
وهناك كتاب آخر شاع في حياة الإمام الزهريّ (المتوفى سنة 124 هـ)«فبعث به يزيد بن أبي حبيب المصريّ إلى ابن شهاب الزهريّ مع ثقة من أهل بلده فعرفه ولم ينكره» «4» . ولكن لم يبق لنا أثر من هذا الكتاب ولا من تصانيف الهيثم بن عديّ ولا المدائنيّ. وكتاب رسل النبي لهذا الاخير، ذكره ابن حجر في الإصابة 2/ 205، 264، 864، 3/ 1018.
وقد عني المحدتون من المستشرقين والشرقيين بهذه الوثائق بعض العناية.
فقبل أن تنشر طبقات ابن سعد كاملة عني المستشرق ويلهاوزن بنشر البابين المشتملين على كتب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الوفود عليه مع ترجمتها إلى الألمانية والتعليق عليها، كما خصّ العهد الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين والأنصار واليهود في المدينة ببحث خاصّ.
ونجد أيضا في كتب تاريخ الإسلام الأوروبية ترجمة عدّة من هذه الوثائق أو تذكرة لها كما في السيرة النبوية لأشبر نكر (بالألمانية) أو في حوليات الإسلام Annali dell ،Islam لكايتاني (بالطليانية) وغيرهما. وقد بحث كايتاني بحثا خاصا في أمر رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك. وهناك عدّة من كتب أخرى باللغات الغربية تجد ذكرها في «تذكرة المصادر» .
وقد شاع كتابان باللغة الهندوستانية «5» أفرغ مؤلفاهما الجهد في جمع
(2) ونجد هذه الرسالة ضميمة لاعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين تأليف شمس الدين محمد بن علي ابن طولون من مؤرخي القرن العاشر للهجرة.
(3)
[عن ابن سيرين: «لو كنت متخذا كتابا لا تخذت رسائل النبي» (طبقات ابن سعد 7/ 141) . وقال ابن حجر في فتح الباري في تفسير سورة آل عمران، آية قل يا أهل الكتاب تعالوا: «وقد جمعت كتبه عليه السلام إلى الملوك وغيرهم» . ولكن لم نقف عليه إلى الآن. (زيادة الطبعة الثانية) ] .
(4)
[تاريخ الطبري، ص 1560 (سنة 6) زيادة الطبعة الثالثة] .
(5)
راجع تذكرة المصادر تحت عبد المنعم خان وعبد الجليل نعماني.
الوثائق النبوية على الترتيب الأبجدي أو التاريخي وترجمتها إلى اللغة الهندوستانية فلهما فضل التقدّم وإن كانا قد تركا كثيرا مما يحتاج إليه.
وكنت قد نشرت ترجمة فرنسية لما جمعته من الوثائق التي ترجع إلى العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين، وقدّمتها ببحث مطوّل عن قيمتها التاريخية وما يمكن أن يستنتج منها لفهم الأحوال السياسية في ذلك العصر، وقد حصلت بها على درجة الدكتوراه من جامعة باريس في سنة 1935 م «1» . وأنا الآن أنشر النصوص الأصلية لهذه الوثائق مضيفا إليها ما وجدته بعد ذلك من النصوص، ولذلك كانت أرقام المجموعتين غير متفقة «2» .
قسمنا مجموعتنا هذه قسمين: يحتوي الأول على الوثائق التي تتعلق بالعهد النبوي، ويحتوي الثاني على وثائق من عهد الخلفاء الراشدين. ثم قسمنا كلا القسمين فروعا عديدة من حيث الأحوال الجغرافية والسياسية.
كان عصر النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة عهد تمهيد وتجربة، ولا يصح أن يقال إنّ الجماعة الإسلامية بمكة كانت حينئذ دولة من الدول فإنه لم يكن لها كيان سياسيّ ولا نظام إداريّ. ولا تصادف في هذا العصر ما يطلق عليه اسم السياسة الخارجية سوى بيعتي العقبة اللتين أسستا بنيان الدولة الإسلامية وكان لهما أثر عظيم فيما بعد. إلّا أنهما لم تكتبا في قرطاس ولم تؤخذا إلا سرّا، وهاتان البيعتان تتعلقان بروابط المسلمين مع أهل المدينة، وكان منتهاهما الهجرة ووضع الدستور الأساسيّ الذي ذكرناه تحت رقم (. 1) .
ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد هناك عدّة قبائل يهودية فعاهدهم فدخلوا في دولة وفاقية (Federation) تحت رياسة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا الوثائق التي تتعلق بهم مع ما يتعلق بيهود خيبر
(1)
Muhammad Hamidullah، Documents sur la diplomatie musulmae a l، epoque du Prophete et des Khalifes orthodoxes.Paris.G.P.Maisonneuve 1935
. (2) راجع جدول تطابق أرقام وثائق المجموعتين الذي ننشره في كتابنا هذا، ص 37- 39.
وتيماء وغيرهما في محلّ واحد لروابطها الأكيدة فيما بينها.
وكانت هجرة مسلمي مكة وقيام دولة إسلامية بالمدينة سببا لتوتر العلائق بين المسلمين وقريش، فنشأت حروب بينهم ووقعت وقائع بدر وأحد والخندق والحديبية وفتح مكة. فجمعنا الوثائق المتعلقة بهذه الأمور في فصل خاصّ.
ولم تبدأ علائق المسلمين السياسية مع الروم والفرس ومن تحتهم من الحبشة والغساسنة وأهل البحرين وعمان واليمن ونجران وحضرموت ومهرة وغيرها إلّا بعد الحديبية، فذكرنا الوثائق المتصلة بهم في فصلين.
ومن المعروف أن إمبراطور الروم وكسرى الفرس لما دعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أبيا وردّا دعوته. فكتب النبي صلى الله عليه وسلم رأسا إلى الملوك والأمراء الذين تحت سيطرة هذين العظيمين، فمنهم من أجاب فأفلح ومنهم من أدبر فهلك.
وسيرى الناظر في الفصل الخاص بقبائل العرب أن الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم كان أن يفرق بينهم وبين قريش فيحيط مكة بقبائل خاضعة للإسلام أو معاهدة للمسلمين. فكان أوّل عمل سياسيّ عمله النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة أن عاهد القبائل التي سكنت في ما بين المدينة وساحل البحر مثل جهينة وضمرة وغفار، وكانت ديارهم في طريق قريش في رحلتهم الصيفية إلى الشأم ومصر، فسدّها النبي وأعانه عليه حلفاؤه من هذه القبائل.
ثم إنّ النبي صلى الله عليه وسلم عاهد قبائل خزاعة وأسلم وغيرهما ممن سكنوا حول مكة فاضطرت قريش فحاربت المسلمين فانكسرت وخضعت أخيرا. وقد جمعنا جميع هذه الوثائق التي لها علاقة بهذه القبائل مرتّبة على حسب ذلك. ثم أوردنا الكتب التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمّاله وقت ردّة اليمن واليمامة وأضفنا إليها بعض ما كتبه أبو بكر من الوثائق المتصلة بهذه الفترة.
ولما حجّ النبي صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع في آخر السنة العاشرة للهجرة خطب خطبته المشهورة في عرفة على جبل الرحمة وبيّن فيها حقوق
المسلمين وفرائضهم الأساسية فلم يدع شيئا له أهمية إلّا بلّغه. فبشّر الله المسلمين بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. فأضفنا هذه الخطبة العظيمة القدر الغزيرة المعاني في آخر الوثائق المتعلقة بالعهد النبوي.
والقسم الثاني هو عهد الخلفاء الراشدين، وقد رتّبنا الوثائق المتعلقة به في فصلين، فصل في الروم وفصل في فارس (إيران) . وإن كان القارىء يفقد هناك كثيرا من الوثائق التي ذكرها الواقديّ والأزديّ في الفتوح فقد تركناها لعدم كونها مقصودة بالذات، وما ذكرنا الخلافة الراشدة إلا تتميما للبيان وتكملة للمغزى، كما حذفنا أيضا ما لم نجده في الكتب الموثوق بها. ولعلّنا قد خفّفنا بهذا على من يعنى بهذا الموضوع بعدنا.
وهذه الوثائق تشتمل على الموضوعات الآتية:
(1)
المعاهدات الجديدة أو تجديد ما سبق من المعاهدات.
(2)
الدعوة إلى الإسلام.
(3)
تولية العمّال وذكر واجباتهم وكيف ينبغي لهم أن يتصرفوا في أمر من الأمور.
(4)
العطايا من الأراضي أو الغلّات أو غيرها.
(5)
كتب الأمان والتوصية.
(6)
ما ذكر فيه من استثناء بعض الأوامر في حق أناس معيّنين.
(7)
المتفرّقات مثل المكاتيب التي جاءت في جواب ما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد نقلنا في آخر الكتاب في ضميمة على حدة بعض الكتب المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كعهوده للنصارى والمجوس، ومثلها كثير ولا يكاد يصح البتة. وإنما نقلنا ما نقلنا كأنموذج في الوضع والاختلاق.
*** وليس من غرضنا هنا أن نقدّم نقدا مفصّلا للوثائق وبحثا عن قيمتها