الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الرابع: أن يقع لأجل سكوت المستدل عن مقدمة غير مشهورة مخافة منع الخصم لها لو صرح بها، كقول مشترط النية في الوضوء والغسل: كل ما هو قربة تشترط فيه النية كالصلاة، وسكت عن الصغرى وهي " الوضوء والغسل قربة " فيقول المعترض كالحنفي مثلاً نسلم أن كل ما هو قربة تشترط فيه النية، ولا يلزم من ذلك اشتراطها في الوضوء والغسل، فلو صرح المستدل بالصغرى لمنعها المعترض (1)، وخرج عن القول بالموجب وبعضهم يقول في هذا المثال:" السكوت عن مقدمة مشهورة " وما تقدم أظهر لأن المشهورة كالمذكورة فكأنها غير مسكوت عنها لشهرتها، وهذا النوع من القول بالموجب إنما ورد على السكوت عنها، ووجه من قال السكوت عن مقدمة مشهورة لأن الشهرة هي التي تبيح الحذف لأن حذف غير المشهورة يؤدي إلى عدم فهم الكلام.
تنبيهان:
-
الأول: منشأ الخلاف في اشتراط النية في الوضوء والغسل هو أهما وسيلة إلى صحة الصلاة فمن أعطى الوسيلة حكم ما يقصد بها جعلها قربة فأوجب النية فيهما وهذا هو الأظهر. ومن لم يعط الوسيلة حكم مقصدها لم يجعلها قربة فلم يوجب فيهما النية.
الثاني: قال بعض أهل الأصول: القول: بالموجب والقلب معارضة في الحكم لا قدح في العلة. وجعلهما الفخر الرازي من القوادح في العلة:
وأشار في المراقي إلى تعريف القول بالموجب وأقسامه فقال:
والقول بالموجب قدحه جلا
…
وهو تسليم الدليل مسجلا
من مانع أن الدليل استلزما
…
لما من الصور فيه اختصما
(1) لأن أبا حنيفة رحمه الله يقول: الوضوء والغسل طهارة معقولة المعنى وليست قربة..
يجئ في النفي وفي الثبوت
…
ولشمول اللفظ والسكوت
عما من المقدمات قد خلا
…
من شهرة لخوفه أن تحظلا
…
وأعلم أن الذي بيناه هنا هو القول بالموجب في اصطلاح أهل الأصول، أما القول بالموجب الذي هو نوع من أنواع البديع المعنوي عند البلاغيين فقد تركنا ايضاحه هنا لأن محله في فن البلاغة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(فصل)
(في حكم المجتهد)
…
أعلم أن الاجتهاد في اللغة بذل المجهود في استفراغ الوسع في فعل، ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد أي مشقة، يقال اجتهد في حمل الرحا، ولا يقال اجتهد في حمل النواة. والجهد بالفتح المشقة، وبالضم الطاقة، ومنه قوله تعالى:" والذين لا يجدون إلا جهدهم " قاله القرافي.
…
والاجتهاد في اصطلاح أهل الأصول: بذل الفقيه وسعه بالنظر في الأدلة لأجل أن يحصل له الظن أو القطع بأن حكم الله في المسألة كذا، والأصل في الاجتهاد قوله تعالى:" يحكم به ذوا عدل منكم ". وقوله وداودود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ".
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أجتهد الحاكم فأصاب. الحديث.) وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وشروط المجتهد:
احاطته بمدارك الأحكام المثمرة لها من كتاب وسنة واجماع واستصحاب، وقياس. ومعرفة الراجح منها عند ظهور التعارض وتقديم ما يجب تقديمه منها كتقديم النص على القياس.
والعدالة ليست شرطاً في أصل الاجتهاد، وإنما هي شرط في قبول فتوى المجتهد ولا يشترط حفظ آيات الأحكام، وأحاديثها، بل يكفي علم مواضعها في المصحف وكتب الحديث ليراجعها عند الحاجة.
ويشترط علمه بالناسخ والمنسوخ، ومواضع الاجماع والاختلاف، ويكفيه أن يعلم أن ما يستدل به ليس منسوخاً، وأن المسألة لم ينعقد فيها اجماع من قبل، ولا بد من معرفته للعام والخاص، والمطلق والمقيد، والنص والظاهر والمؤول، والمجمل والمبين، والمنطوق والمفهوم، والمحكم والمتشابه.
ولا بد من معرفة ما يصلح للاحتجاج به من الأحاديث، من أنواع الصحيح والحسن، والتمييز بين ذلك، وبين الضعيف الذي لا يحتج به لمعرفته بأسباب الضعف المعروفة في علم الحديث والأصول.
وكذلك القدر اللازم لفهم الكلام من النحو واللغة.
تجزئ الاجتهاد: والصحيح جواز تجزيء الاجتهاد.
…
التعبد بالقياس: واختلف في جواز التعبد بالقياس في زمنه صلى الله عليه وسلم فمنعه قوم لا مكان الحكم بالوحي، وأجازه قوم لقصة معاذ.
…
اجتهاده صلى الله عليه وسلم: واختلف في اجتهاده صلى الله
عليه وسلم فمنعه قوم لقوله تعالى: " إن هو إلا وحي يوحى " وأجازه قوم لقوله تعالى: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " ونحوها. وأجازه قوم في الأمور الدنيوية دون الدينية.
…
واختلف هل المصيب واحد من المجتهدين المختلفين أو كل مصيب؟ .. والأول هو اختيار المؤلف وهو الصحيح كما يدل عليه حديث " إذا أجتهد الحاكم فأخطأ.. الحديث " فهو نص صريح في أن المجتهدين، منهم المخطئ ومنهم المصيب.
…
ومعلوم أن المخطئ في الفروع مع استكماله الشروط معذور في خطئه، مأجور باجتهاده كما في الحديث. وقصة بني قريظة تدل على أنه قد يكون الكل مصيباً في الجملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخطئ من صلى العصر قبل ببني قريظة، ولا من لم يصلها إلا في بني قريظة، وهو لا يقر على باطل.
…
وإذا لم يترجح عند المجتهد أد الدليلين المتعارضين وجب عليه التوقف. وقيل يخير، وقيل يأخذ بالأحوط منهما، وهو أظهرها لحديث:" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ".
…
وليس للمجتهد أن يقول قولين في المسألة في حال واحدة في قول عامة الفقهاء.
…
واتفقوا على أن المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم لم يجز له تقليد غيره، أما القاصر في فن فهو كالعامي فيه.
…
وأعلم أنه إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينهما فكل وصف توجد فيه تلك العلة فحكمه حكم ما نص عليه، فلأصحابه العارفين بمذهبه
أن يحكموا عليها أنها كمذهبه نظراً للعلة الجامعة كما يفعله المجتهد المطلق بالنسبة إلى نصوص الشرع العامة.
…
ولأجل هذا القاعدة أوجب بعض المالكية الزكاة في التين مع أن مالكاً لم يذكر في التين زكاة. ومعلوم أن علة الزكاة في الثمار عنده إنما هي " الاقتيات والادخار " فلما كان الاقتيات والادخار موجوداً في التين جعل بعض أصابة الزكاة فيه كالزبيب بمقتضى علته المذكورة، ولذا قال ابن عبد البر: أظن مالكاً ما كان يعلم أن التين ييبس ويقتات ويدخن، ولو كان يعلم ذلك لجعله كالزبيب، ولما عده مع الفواكه التي لا تيبس ولا تدخر كالرمان والفرسك.
…
فان لم يبين المجتهد العلة لم يجعل ذلك الحكم مذهباً له في مسألة أخرى وأن أشبهتها شبهاً يجوز خفاء مثله على بعض المجتهدين، إذ لا يدري أنها لو خطرت بباله صار فيه إلى ذلك الحكم بل قد يظهر له فرق بينهما مع المشابهة.
…
وأن نص المجتهد في مسألة واحدة على حكمين مختلفين فان عرف الأخير منهما فهو مذهبه على الصحيح. وإن لم يعلم الأخير، اجتهد في أشبههما بأصوله وأقواله دليلاً فتجعل مذهباً له، وتكون الأخير كالمشكوك فيها ومثل لذلك محشى الروضة بمثالين:
ما لو اختلف نص احمد في أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر لكان الأشبه بأصلة أنهم لا يملكونها بناء على تكليفهم بالفروع، وهو أشبه بقاعدته لأن الأسباب المحرمة لا تفيد الملك، ولذلك رجحه أبو الخطاب ونصره في تعليقه، وإن كان مخالفاً لنصوص أحمد على أنهم يملكونها.
هو أنه لما اختلف نصه في بيع النجش وتلقي الركبان ونحو ذلك هل
هو باطل أو لا كان الأشبه بنصه البطلان بناء على اقتضاء النهي الفساد مطلقاً. هو منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(فصل)
(في التقليد)
التقليد في اللغة وضع القلادة في العنق، ويستعمل في تفويض الأمر إلى الشخص كأن الأمر مجمول في عنقه كالقلادة ومنه قول لقيط الأبادي:
…
وقلدوا أمركم لله دركمو
…
... رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا
وهو في اصطلاح الفقهاء قبول قول الغير من غير معرفة دليله.
وأعلم أن قول الغير لا يطلق إلا على اجتهاده، أما ما فيه النصوص فلا مذهب فيه لأحد ولا قول فيه لأحد لوجوب اتباعها على الجميع، فهو اتباع لا قول حتى يكون فيه التقليد.
والاجتهاد إنما يكون في شيئين:
أحدهما: ما لا نص فيه أصلاً.
والثاني: ما فيه نصوص ظاهرها التعارض، فيجب الاجتهاد في الجمع بينها، أو الترجيح.
فالأخذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم، أو بالاجماع لا يسمى تقليداً لأن ذلك هو الدليل نفسه ولم يخالف في جواز التقليد للعامي
إلا بعض القدرية، والأصل في التقليد قوله تعالى:"ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " وقوله: " فاسألوه أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " واجماع الصحابة عليه، ولا يستفتي العامي إلا من غلب على ظنه أنه من أهل الفتوى، وإذا كان في البلد مجتهدون فله سؤال من شاء منهم، ولا يلزمه مراجعة الأعلم لجواز سؤال
المفضول، وقيل يلزمه سؤال الأفضل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(فصل)
(في ترتيب الأدلة، ومعرفة الترجيح)
…
أما ترتيب الأدلة فقد ذكر أن المقدم منها الاجماع، ثم المتواتر من الكتاب أو السنة، فتواتر السنة مرتبة القرآن ثم أخبار الآحاد.
…
وأعلم إن الاجماع الذي يذكر الأصوليين تقديمه على النص هو الاجماع القطعي خاصة وهو الاجماع القولي المشاهد أو المنقول بعدد التواتر، أما غير القطعي من الاجماعات كالسكوتي والمنقول بالآحاد فلا يقدم على النص.
…
وأعلم أن تقدم الاجماع على النص إنما هو في الحقيقة تقديم النص المستند إليه الاجماع على النص الآخر المخالف للاجماع، وتارة يكون النص معروفاً وتارة يكون غير معروف إلا أنا نجزم أن الصحابة لم يجمعوا
على ترك ذلك النص إلا لنص آخر هو مستند الاجماع.
…
فمثال الأول: ما لو تنازع خصمان في الأخت من الرضاع هل يحل وطؤها بملك اليمين؟ فقال أحدهما: لا يحل ذلك لقوله تعالى: " وأخواتكم من الرضاعة " وظاهرة يشمل النكاح وملك اليمين، فقال خصمه: يحل وطؤها بملك اليمين لعموم قوله تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون
إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم
…
" الآية في قد أفلح وسأل سائل وظاهرها الاطلاق في الأخت من الرضاع وغيرها.
…
فيقول خصمه: أجمع جميع المسلمين على منع وطء الأخت من الرضاع بملك اليمين، فهذا الاجماع مقدم على قوله تعالى:" أو ما ملكت أيمانهم ".
…
والمقدم في الحقيقة النص المستند إليه الاجماع وهو قوله تعالى: " وأخواتكم من الرضاعة ".
…
ومثال الثاني: المضاربة المعروفة في اصطلاح بعض الفقهاء بالقراض. فان ظاهر النصوص العامة منعها لأن الربح المجعول للعامل جزء منه لا يدري هل يحصل منه قليل أو كثير أو لا يحصل شيء. وهذا داخل في عموم الغرر، ولم يثبت نص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة بجواز المضاربة، والحديث الوارد فيها ضعيف لا يحتج به، إلا أن الصحابة أجمعوا على جواز المضاربة وكذلك من بعدهم فقدم هذا الاجماع على ظاهر تلك النصوص الدالة على منع الغرر لعلمنا بأنهم استندوا في اجماعهم إلى شيء علموه منه صلى الله عليه وسلم يدل على
اباحة ذلك. والله أعلم.
…
وأعلم أن التعارض لا يكون بين قطعيين ولا بين قطعي وظني وإنما يكون