الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين ظنيين فقط.
…
وأعلم أن تعادل الدليلين الظنيين بحسب ما يظهر للمجتهد جائز اتفاقاً، أما تعادلهما في نفس الأمر فاختلف فيه فنقل الامام أحمد والكرخي أنه لا يمكن تعادلهما في نفس الأمر وصححه صاحب جمع الجوامع، والأكثرون على جوازه، ومنهم من قال: هو جائز غير واقع.
الترجيح
…
والترجيح في الاصطلاح تقوية أحد الدليلين المتعارضين.
…
وأعلم أنه إن حصل التعارض وجب الجمع أولاً إن أمكن كتنزيلهما على حالين كما أكثرنا من أمثلته القرآنية في كتابنا (دفع ايهام الاضطراب عن آيات الكتاب) ومن أمثلته في الحديث، الحديث الوارد بذم الشاهد قبل أن تطلب منه الشهادة ن مع الحديث الوارد بمدحه. فيجمع بينهما بأن ينزل كل منهما على حال، فيحمل حديث المدح على من شهد في حق الله، ومن يعلم أن المشهود له لا يعلم أنه شاهد له، ويحمل حديث الذم على الشاهد في حق الآدمي العالم بأن الشاهد يعلم ما يشهده به ولم يطلبه، فان لم يمكن الجمع فالمتأخر ناسخ
للمتقدم، فان لم يعرف المتأخر فالترجيح.
…
والترجيح في الأخبار من ثلاثة أوجه الأول يتعلق بالسند وهو خمسة:
…
أولا: كثرة الرواية.
…
ثانيا: ثقة الراوي، وضبطه وقلة غلطه.
…
ثالثا: ورع الراوي وتقاه لشدة تحرزه من رواية من يشك فيه.
…
رابعا: أن يكون صاحب القصة كحديث ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم.
تزوجها وهو حلال
…
خامسا: أن يكون مباشراً للقصة كحديث أبي رافع بذلك، لأنه هو السفير بينه وبين ميمونة. فكلاهما يرجح على حديث ابن عباس أنه تزوجها وهو محرم. وللأصوليين في الترجيح باعتبار السند أمور كثيرة زائدة على ما ذكره المصنف.
…
منها: علو السند، فالسند الذي هو أعلى يقدم على غيره لأن قلة الوسائط بين المجتهد وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أرجح من كثرتها لأن قلة الوسائط يقل معها احتمال النسيان والاشتباه والزيادة والنقص.
…
ومنها: السلامة من البدع فالراوي غير البدعي أرجح من الراوي البدعي.
…
ومنها: فقهه في الباب المتعلق به المروي، فالفقيه في البيوع مثلا يقدم خبره على غير الفقيه فيها. وكذا يقدم زائد الفقه على غيره، ولذا قالت المالكية يقدم خبر رواه ابن وهب في الحج على ما رواه ابن القاسم فيه لأنه أفقه منه فيه، وان كان ابن القاسم أفقه منه في غيره.
…
ويقدم عندهم العالم باللغة على غير العالم بها، والعالم بالنحو على غير العالم به، لأن الخطأ منهما في فهم مقاصد الكلام أقل، ويقدم الفطن على من دونه.
…
ويقدم المشهورة بالعدالة على المعدل بالتزكية.
…
ويقدم الراوي الذي زكاه المجتهد باختباره اياه على المزكى عنده بالاخبار إذ ليس الخبر كالعيان.
…
ويقدم من زكى تزكية صريحة على من زكى تزكية ضمنية كالحكم
بشهادته والعمل براويته.
…
ويقدم من زكاه جماعة كثيرون على من زكاه واحد مثلا.
…
ويقدم غير المدلس على المدلس.
…
ويقدم الحر على العبد لأن الحر لشرف منصبه يتحرز على ما لا يتحرز عنه العبد، وضعف بعضهم الترجيح بالحرية.
…
ويقدم حافظ الخبر الذي يسرده متتابعاً على من ليس كذلك، وهو من يتخيل اللفظ ثم يتذكره ويؤديه بعد تفكر وتكلف، ومن لا يقدر على التأدية أصلاً لكن إذا سمع اللفظ علم أنه مويه عن فلان.
…
ويقدم الراوي الذي يعرف نسبه على الراوي الذي لم يعرف نسبه لأن الوثوق بالأول أشد.
…
ويقدم عندهم الذكر عن الأنثى إلا إذا علم أنها أضبط من الذكر، فتقدم عليه، وكذلك أن كانت صاحبة القصة قدمت على الذكر، قال بضعهم: الأنثى والذكر على السواء، ولا يرجح عليها إلا بما يرجح به الرجل على الرجل، وفصل بعض العلماء فقال: يرجح الذكر
في غير أحكام النساء بخلاف أحكامهن كالحيض والعدة فيرجحن فيها على الذكور لأنهن أضبط فيها.
…
ويقدم الذي كانت روايته أوضح في إفادة المروي على الذي في روايته خفاء كالأجمال، ولأجمل ذلك يقدم الروي بالسماع على الروي بالإجازة لأن السماع طريق واضح في إفادة المروي بيان تفصيله بخلاف الإجازة لما فيها من الأحمال.
ويقدم من علمت جهة تحمله من سماع لفظ الشيخ أو القراءة عليه ونحو ذلك على رواية نم لم تعلم جهة تحمله.
.. وتقدم رواية المكلف وقت التحمل على رواية من هو صبي وقت التحمل. والحال أنه أدى بعد البلوغ للاختلاف في المحتمل قبل البلوغ، وقدم الاختلاف في التحمل بعد البلوغ لأن ما لا خلاف فيه يقدم على ما فيه خلاف وان كان المشهور المعروف قبول رواية من تحمل قبل البلوغ إذا كانت التأدية بعد البلوغ.
…
ويقدم راوي الحديث بلفظه على الراوي بالمعنى لسلامة المروي باللفظ عن احتمال وقوع الخلل في المروي بالمعنى ويقدم خبر الراوي الذي لم ينكر شيخه أنه حدثه على خبر من أنكر شيخه الذي روى عنه روايته له عنه، وان قلنا بأن إنكاره لا يضر.
…
ويقدم ما في الصحيحين أو أحدهما على ما ليس فيهما إلى غير ذلك.
وكثير ما ذكرنا من المرجحات باعتبار السند لا يخلو من خلاف، ولكن له كله وجه من النظر.
الوجه الثاني من الترجيح بأمر بعود إلى المتن كاعتضاد أحد الدليلين المتعارضين بكتاب أو سنة غير ذلك من الأدلة، كأحاديث صلاة الصبح فإن في بعضها التغليس بها أي فعلها في بقية الظلام، وفي بعضها الأسفار بها، فتعضد أحاديث التغليس بعموم فوله تعالى:" وسارعوا إلى مغفرة من ربكم "، وكان يختلف في وقف أحد الخيرين على الراوي والآخر يتفق على رفعه، وكأن يكون راوي أحدهما قد نقل عنه خلافه فتتعارض روايتاه، ويبقى الآخر متصلاً، فالمتصل أولى لأنه متفق على الاحتجاج به وذلك مختلف فيه.
…
هذا حاصل ما ذكره المؤلف وللأصولين باعتبار حال المتن مرجحات
كثيرة، ما كرها المؤلف:
…
منها كثرة الأدلة فالخير الذي اعتضد بأدلة كثيرة مقدم على ما اعتضد بأقل من ذلك من الأدلة.
…
ومنها أن يكون المتن قولاً فهو مقدم على الفعل كما أن الفعل مقدم على التقرير. وإنما كان القول أقوى من الفعل لاحتمال الفعل الاختصاص به صلى الله عليه وسلم.
ويفهم منه أن ليس كل قول أقوى بل إذا احتمل القول الاختصاص فلا يكون أقوى من الفعل، فلا يرد قولهم: أن الإحرام بالعمرة من الجعرانة أفضل منه من التنعيم لأن أمره وأن كان قولاً يحتمل الخصوصية لعائشة، فلي أقوى من فعله بل هو دونه كما قالوا، لاحتمال أنه إنما أمرها بذلك لضيق الوقت لا لأنه أفضل، ويمكن على هذا أن يقاس على عائشة كل من له عذر، وإنما كان الفعل مقدماً على التقرير لأن التقرير كالفعل الضمني، والفعل الصريح مقدم على الضمني. قال بعضهم: ويقدم تقريره ما وقع بحضرته على ما بلغه فأقره.
…
ومنها الفصاحة، فالخبر يقدم على غير الفصيح يقدم على غير الفصيح للقطع بأن غير الفصيح مروي بالمعنى لفصاحته صلى الله عليه وسلم ولا عبرة بزيادة الفصاحة، فلا يقدم الخبر الأفصح على الفصيح. وقيل يقم عليه لأنه صلى الله عليه وسلم أفصح العرب فيعد نطقه بغير الأفصح فيكون مرياً بالمعنى فيتطرق إليه الخلل وأجيب بأنه يعد في نطقه بغير الأفصح لأنه كان يخاطب العرب بلغاتهم.
…
ومنها الزيادة، فالخير المشتمل على الزيادة يقدم على غيره لما فيه من زيادة العلم كخبر التكبير في العيد سبعاً مع خبر التكبير فيه أربعاًًً، خلافاً لمن قدم الأقل كالحنفية.
.. ومنها ورود أحد الخبرين على علو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وقوته، ودلالة الآخر على الضعف وعدم القوة صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه كان يتجدد شيئاً فشيئاً فما اشعر بعلو شأنه مقدم على غيره لأن الشعر بعلو شأنه معلوم أنه هو المتأخر.
…
ومنها أن يتضمن الخبر قصة مشهورة بأنه يقدم على المتضمنة قصة خفية لأن القصة المشهورة يبعد الكذب فيها، قال القرافي.
…
ومنها ذكر السبب فالخبر المذكور فيه السبب مقدم على ما ليس كذلك لاهتمام راوي الأول به، واهتمامه دليل على كمال ضبطه للمروي لأنه يترتب عليه عادة.
…
وأيضاً فان علم السبب يعين على فهم المراد، ولأجل ذلك اعتنى المفسرون بذكر أسباب نزول الآيات.
…
ومنها أن يكون أحد الخبرين رواه رواية عن شيخة بدون حجاب مع أن الثاني رواه من وراء حجاب كرواية القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة عتقت في حال كون زوجها عبداً على رواية الأسود بن يزيد عنها أنه حراً، لأن القاسم كان محرما لها لكونها عمته، وكان يسمع منها بدون حجاب بخلاف الأسود.
…
ومنها الخبر المدني فانه مقدم على الخبر المكي لتأخره عنه. ومعلوم أن المدني ما روى بعد الشروع في الهجرة، والمكي ما روى قبل الشروع فيها، فيشمل المدني ما ورد بعد الخروج من مكة وقبل الوصول إلى المدينة في سفر الهجرة. هذا هو الاصطلاح المشهور في المدني والمكي ولذا كان
المشهور عندهم في آية: " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " إنها مدنية مع أنها نزلت بالجحفة في سفر الهجرة كما قاله غير واحد.
…
ومنها كون أحد الخبرين جامعاً بين الحكم وعلته، مع أن الآخر ليس كذلك لأن الجامع بين الحكم والعلة أقوى في الاهتمام بالحكم من الخبر الذي فيه الحكم دون علته كحديث البخاري " من بدل دينه فاقتلوه " فهذا الحديث يدل بمسلك الايماء والتنبيه على أن علة القتل هنا هي تبديل الدين فيشمل الذكر والأنثى مع الحديث الصحيح الآخر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان، ففيه الحكم دون ذكر العلة فيقدم عليه الأول لذكر العلة مع الحكم.
فيكون الأرجح قتل المرتدة خلافاً لمن منع قتل النساء مطلقاً بالكفر مرتدات كن أو حربيات كالحنفية.
…
ومعلوم أن النصين المذكورين بينهما عموم وخصوص من وجه، والأعمان من وجه يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها فيجب الترجيح، وهي هنا في المثالين النساء المرتدات فانهن يدخلن في عموم " من بدل دينه فاقتلوه " بناء على ما هو الحق من شمول لفظه (من) للأنثى كقوله تعالى:" ومن يقنت منكن.. " الآية. " يانساء النبي من يأت منكن
…
" الآية. " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى
…
" الآية.
كما أنهن يدخلن في عموم النهي عن قتل النساء الكافرات وإلى الترجيح بين الأعمين من وجه أشار في مراقي السعود بقوله:
…
... وان يك العموم من وجه ظهر
…
... فالحكم بالترجيح حتم معتبر
…
ومنها تأكيد الخبر، فالخبر المشتمل على تأكيد يقدم على الخبر الذي لم
يشتمل عليه مثال المشتمل على توكيد حديث " أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل باطل " مع حديث "الأيم أحق بنفسها" على تسليم ما فسرته به الحنفية لأن القصد مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال، فتكرار البطلان في الخبر الأول توكيد لحكمه فيرجع حكمه على الخبر
الذي لم يؤكد حكمه.
…
ومنها التهديد، فالخبر الذي فيه تهديد وتخويف مقدم على ما ليس كذلك، ومثل له بعضهم بحديث عمار رضي الله عنه، من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. ففي الحديث تخويف من صوم يوم الشك بأنه معصية للرسول صلى الله عليه وسلم فيقدم هذا الحديث على الأحاديث المرغبة في صوم النفل.
فان قيل: التخويف المذكور من كلام الراوي فليس ترجيحاً باعتبار حال المتن، فالجواب أن حكمه الرفع، إذ لا يقال من جهة الرأي، نعم للناظر أن يقول: في التمثيل المذكور نظر، لأنه تقديم خاص على عام فلا تعارض أصلاً، ويمكن أن يجاب بان الخاص إنما رجح على العام في خصوص ما تعارضا فيه فقط والله تعالى أعلم.
…
ومنها اطلاق العام عن ذكر السبب، فالعام المطلق الذي لم يذكر له سبب، يقدم عمومه على العام الذي ذكر سببه لأن هذا أضعف، لا احتمال الخصوص بصورة السبب. والخلاف في ذلك معروف أما صورة السبب فهي مقدمة على العام المطلق لأنها قطعية الدخول على الأصح.
…
أما صيغ العموم فيقدم ما دل منها على الشرط كمن، وما، الشرطتيتين، على النكرة في سياق النفي على ما صححه بعضهم محتجاً بأن الشرطي من العام يفيد التعليل غالباً، نحو، من جامع فعليه الكفارة، من بدل دينه فاقتلوه.
ويفهم من هذا انه إن لم يفد التعليل فلا يقدم على النكرة
كقوله: " فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه
…
" الآية. وقال بعضهم: أن النكرة في سباق النفي تقدم على أدوات الشروط العامة كمن، وما.
قال مقيدة عفا الله عنه:
…
الظاهر أن النكرة في سياق النفي إذا كانت نصاً صريحاً في العموم كالمبنية مع لا نحو " لا إله إلا الله " أو المزيد قبلها (من) نحو ما من اله إلا الله. ما أرسلنا من قبلك من رسول. لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير، إنها أقوى مرتبة في العموم من صيغ الشرط، والله أعلم.
…
وباقي أدوات العموم تقدم عليه النكرة في سياق النفي إلا لفظة " كل " ونحوها. فلا شك أنها مقدمة على النكرة في سياق النفي، والجمع المعرف بالألف واللام أو بالاضافة، يقدم عومه على (من، وما) الاستفهاميتين، لأنها أقوى منها في العموم لامتناع تخصيص الجمع إلى الواحد دونهما على ما رجحه بعض أهل الأصول.
…
والثلاثة المذكورة التي هي: الجمع المعرف: ومن. وما ، المذكورتان، مقدمة على المفرد الذي هو اسم جنس المعرف بأل نحو والعصر أن الانسان لفي خسر: أي كل انسان. لأنه يحتمل فيه أن أل عهدية، بخلاف من وما، فلا يحتمل فيهما ذلك. والجمع المعرف يبعد فيه.
…
ومنها عدم التخصيص، فالعام الذي لم يدخله تخصيص، مقدم على العام الذي دخله تخصيص، وهذا رأي جمهور أهل الأصول، ولم أعلم أحداً خالف فيه إلا صفي الدين الهندي، والسبكي.
.. وحجة الجمهور أن العام المخصص اختلف في كونه حجة في الباقي بعد التخصيص، والذين قالو اهو حجة في الباقي قال جماعة منهم هو مجاز في الباقي، بخلاف الذي لم يدخله تخصيص، فهو سالم من ذلك، وما اتفق على أنه حجة وأنه حقيقة أولى مما اختلف في حجيته وهل هو حقيقة أو مجاز. وان كان الصحيح أنه حجة وحقيقة في الباقي بعد التخصيص، لأن مطلق الخلاف يكفي في ترجيح غيره عليه.
…
وحجة الصفي الهندي والسبكي أن الغالب في العام التخصيص، والحمل على الغالب أولى، وأن ما دخله التخصيص يبعد تخصيصه مرة أخرى بخلاف الباقي على عمومه.
…
ومثال هذه المسألة قوله تعالى: " وان تجمعوا بين الأختين " الآية. فانه عام في كل أختين سواء كان الجمع بينهما بنكاح أو بملك يمين، وهذا العام لم يدخله تخصيص فهو مقدم على عموم قوله تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم
…
" الآية.
فان قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانهم " شامل بعمومه للأختين إلا أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم. وأخواتكم من الرضاعة، فلا تحل الأخت من الرضاعة بملك اليمين اجماعاً، ويخصصه أيضاً عموم. ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء.. الآية. فلا تحل موطوءة الأب بملك اليمين اجماعاً. فان قيل:عموم وأن تجمعوا بين الأختين مخصص بعموم أو ما ملكت أيمانهم. فالجواب أن ذلك التخصيص هو محل النزاع، والاستدلال بصورة النزاع ممنوع بأطباق
النظار، كما هو معلوم في محله.
…
فان كان كل واحد من العامين دخله تخصيص فالأقل تخصيصاً مقدم على الأكثر تخصيصاً، ومثال هذا ما لو ذبح الكتابي ذبيحة، ولم يسم عليها الله، ولا غيره، فعموم قوله تعالى:" وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " يقتضي اباحتها. وعموم: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " يقتضي تحريمها، وكل من العمومين دخله تخصيص إلا أن الأول خصص مرة واحدة، والثاني خصص مرتين، فالأول أقوى لأنه أقل تخصيصاً لأن قوله تعالى:" وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " لم يخصص إلا تخصيصه واحدة وهي بما إذا لم يسم الكتابي على
ذبيحته غير الله كالصليب، أو عيسى، فان سمى على ذبيحته غير الله، دخلت في عموم وما أهل لغير الله به، على الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه. أما الآية " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " فقد خصصت تخصيصتين، خصصها الجمهور بغير الناسي، فتارك التسمية نسياناً تؤكل ذبيحته عند الجمهور، وحكى عليه ابن جرير الاجماع مع أنه خالف فيه اثنان. وخصصه الشافعي وأصحابه بما ذبح لغير الله.
…
ويقدم الدال بدلالة الاقتضاء على الدال بدلالة الإيماء والدال بدلالة الإشارة والظاهر تقديم الدال بالإيماء على الدال بالإشارة. ووجه تقديم الدال بالاقتضاء أنه مقصود للمتكلم يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته عقلاً أو شرعاً كما تقدم إيضاحه. ووجه تقديم الدال بالإيماء على الدال بالإشارة، لأن دلالة الإيماء مقصودة للمتكلم، وإن لم يتوقف عليها الصدق أو الصحة، والمدلول عليه بالإشارة ليس بمقصود ولكنه لازم للمقصود كما تقدم إيضاح ذلك كله بأمثلته.
وقال صاحب الضياء اللامع: ويقدم ما كان في دلالة الاقتضاء لضرورة صدق المتكلم على ما كان لضرورة صحة
الملفوظ به عقلاً أو شرعاً.
…
ويتقدم الدال بالإشارة والإيماء على المفهوم بنوعيه لما تقدم من أن دلالة الإيماء والإشارة كدلالة الاقتضاء في كون الجميع من المنطوق غير الصريح على ما صححه بعضهم، والمنطوق ولو غير صريح مقدم على المفهوم.
…
ويقدم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة على الصحيح لضعف مفهوم المخالفة بالخلاف في حجتيه كما تقدم. وشذ من قال بتقديم مفهوم المخالفة، ولا يخفى ضعف قوله وبعده عن الصواب.
…
الوجه الثالث: الترجيح بأمر خارجي ككون أحد الخبرين ناقلاً عن حكم الأصل، ومثاله حديث من مس ذكره فليتوضأ. مع حديث " وهل هو إلا بضعة منك بأن هذا الأخير نافياً لوجوب الوضوء موافق للبراءة الأصلية، والخبر الموجب له ناقل عن حكم الأصل، وعكس بعضهم فرجح المبقي على الأصل بالبراءة الأصلية، والمشهور عند الأصوليين الأول، وكذلك رواية الإثبات، فإنها مقدمة على رواية النفي ن ومثاله: حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة مع حديث أنه لم يصل فيها، وحديث أن المتمتعين مع النبي صلى الله عليه وسلم سعوا
لحجهم وسعوا لعمرتهم مع حديث أنهم لم يسعوا إلا سعي العمرة الأول، ولم يسعوا للحج.
…
والظاهر أن المثبت والنافي إذا كانت رواية كل منهما في شيء معين في وقت معين واحد أنهما يتعارضان. فلو قال أحدهما: دخلت الكعبة مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت كذا ولم أفارقه ولم يغب عن عيني حتى خرج منها ولم يصل فيها، وقال الآخر رأيته في ذلك الوقت بعينه صلى فيها فانهما يتعارضان فيطلب الترجيح من جهة أخرى والله أعلم. وهذا أصوب من قول من قدم المثبت مطلقاً ومن قدم النافي مطلقاً.
ووجه
تقديم رواية المثبت أن معه زيادة علم خفيت على صاحبه، وقد عرفت أن ذلك لا يلزم في جميع الصور مما ذكرناه آنفاً.
…
ويقدم عنده الحاظر على المبيح، وقبل: لا. والحظر المنع، ومثال تقديم الحاظر على المبيح تقديم عموم قوله: وأن تجمعوا بين الأختين، المقتضي بعمومه منع الأختين بملك اليمين على عموم.. أو ما ملكت أيمانهم الشامل بعمومه للأختين بملك اليمين، وهذا مبيح وذلك حاظر فقد الحاظر على المبيح.
…
ومن فروع تعارض الحاظر والمبيح عند بعضهم المتولد بين المأكول وغيره كولد الذئب من الضبع عند من يمنع أكل الذئب ويبيح أكل الضبع، فعلى تقديم الحاظر على المبيح لا يؤكل وعلى القول بالعكس يؤكل. وقيل: الحاظر والمبيح لا يرجح أحدهما على الآخر، فيطلب الترجيح بسواهما.
…
ووجه تقديم الحاظر على المبيح، أن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام، وزاد بعض الأصوليين تقديم الخبر الدال على الأمر على الدال على الإباحة.
…
ووجه ذلك هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، وأن الخبر الدال على النهي مقدم على الدال على الأمر، ووجهه عندهم أن درئ المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن أمثلته عند القائل به: ترك تحية المسجد في وقت النهي.
…
أما الخبر المسقط للحد فلا يرجح على الخبر الموجب له عند المؤلف. وكذلك عنده الخبر الموجب للحرية لا يرجح على الخبر المقتضي للرق. قال: لأن ذلك لا يوجب تفاوتاً في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ الإيجاب والإسقاط.
وذهب المالكية وغيرهم إلى أن الخبر النافي للحد مقدم على الخبر الموجب له، قالوا: لما في الخبر النافي للحد من اليسر الموافق
لقوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج
…
" الآية. وقوله: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ". قالو: ولأن الحد يدرأ بالشبهات، وتعارض الأدلة في وجوبه وسقوطه شبهة، وهو مستثني عندهم من تقديم المثبت على النافي. والتعزير عندهم كالحد فيما ذكره.
وقال المتكلمون بتقديم الموجب للحد أو التعزير على النافي لذلك لأنه ناقل عن الأصل، لأن النفي مستفاد من البراءة الأصلية وايجاب الحد ناقل عن الأصل، لأن النفي مستفاد من البراءة الأصلية وإيجاب الحد ناقل عنها فهو مقدم. وأجاب بعضهم بأن النفي الشرعي هنا مستفاد من الحكم الشرعي لا من البراءة الأصلية، وقال بعض أهل العلم: أن الخبر الموجب للحرية مقدم على الخبر المقتضي للرق لرجحانه بشدة تشوف الشارع للحرية، ومثال تعارض الخبر الموجب للحد والنافي له ما لو سرق سارق مجنا قيمته ثلاثة دراهم، فحديث ابن عمر
المتفق عليه يوجب قطعه والأحاديث التي تمسكت بها الحنفية ومن وافقهم في أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم، وأن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قيمته عشرة دراهم فسقط الحد عنه، فرجحوا الروايات بعشرة دراهم على الروايات الأخرى المتفق عليها بأن الحد يدرأ بالشبهات وأن النافي للحد مقدم على الموجب له وقصدنا مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال.
…
وعلى ما ذهب إليه المصنف فلا ترجيح باسقاط الحد، وحينئذ يترجح موجب الحد في المثال المذكور لأن أدلته أصح.
…
ومثال تعارض الخبر الموجب للحرية والموجب للرق حديث ابن عمر المتفق عليه (من أعتق شركاً له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاؤه خصصهم، وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق) . فظاهر هذا الحديث الصحيح أن الشريك المعتق