الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ناحية أخرى وهي هل ما أخبروا به مطابق للواقع في نفس الأمر فلو قتلنا رجلا قصاصاً بشهادة رجلين فقتلنا له هذا قطعي شرعاً لا شك فيه وصدق الشاهدين فيما أخبرا به مظنون في نفس الأمر لا مقطوع به لعدم العصمة. ويوضع هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة المتفق عليه: (انما أنا بش وأنكم تختصمون إلى فلعل بعضكم أن يكون الحن ، بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليأخذها أو ليتركها) .
فعمل النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه قطعي الصواب شرعاً مع أنه صرح بأنه لا يقطع بحقيقة الواقع في نفس الأمر كما ترى ، وأشار في المراقي إلى الأقوال في هذه المسألة بقوله في خبر الآحاد:
ويوضحه أيضاً قول علماء الحديث في تعريف الصحيح أن المراد صحته في ظاهر الأمر.
تنبيه:
-
اعلم أن التحقيق الذي لا يجوز العدول عنه أن أخبار الآحاد الصحيحة كما تقبل في الأصول.
فما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة من صفات الله يجب اثباته واعتقاده على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله على نحو ليس كمثله شئ وهو السميع البصير.
وبهذا تعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم ن أن أخبار الآحاد
لا تقبل في العقائد ولا يثبت بها شئ من صفات الله زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين وأن العقائد لا بد فيها من اليقين باطل لا يعول عليه. ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد تحكيم العقل.
والعقول تتضاءل أمام عظمة صفات الله ، وقد جرت عادة المتكلمين أنهم يزعمون أن ما يسمونه الدليل العقلي وهو القياس المنطقي الذي يركبونه من مقدمات اصطلحوا عليها أنه مقدم على الوحي. وهذا من أعظم الباطل لأن ما يسمونه الدليل العقلي ويزعمون أن إنتاجه للمطلوب قطعي هو جهل وتخبط في الظلمات.
ومن أوضح الأدلة وأصرحها في ذلك أن هذه الطائفة تقول مثلا: ان العقل يمنع كذا من الصفات ويوجب كذا منها وينفون نصوص الوحي بناء على ذلك فيأتي خصومهم من طائفة أخرى ويقولون هذا الذي زعمتم أن العقل يمنعه كذبهم فيه بل العقل يوجبه. وما ذكرتم بأنه يجيزه أو يوجبه كذبتم فيه بل هو يمنعه وهاذ معروف في الكلام في مسائل كثيرة معروفة ، كاختلافهم ي أفعال العبد وجواز رؤية الله بالأبصار وهل العرض يبقى زمانيين إلى غير ذلك.
فيجب على المسلم أن يتقبل كل شئ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح ويعلم أنه ان لم يحصل له الهدى والنجاة باتباع ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فانه لا يحصل ذلك بتحكيم عقله التائه في ظلمات الحيرة والجهل وعلى كل حال فاثبات صفات الله بأخبار الآحاد الصحيحة واعتقاد تلك الصفات كالعمل بما دلت عليه من أوامر الله ونواهيه كما أنها تثبت بها أوامره ونواهيه وكذلك تثبت بها صفاته ، وقد بينا أنها من احدى الجهتين قطعية.
قال المؤلف:
(فصل)
وأنكر قول جواز التعبد بخبر الواحد عقلا الخ
…
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن قوماً أنكروا جواز التعبد بخبر الآحاد عقلا قالوا لا يجوز عقلا أن يأمر الله خلقه أن يعبدوه بمقتضى ما يبلغهم عنه وعن رسله على ألسنة الآحاد وعللوا ذلك الامتناع العقلي بأن الآحاد غير معصومين فخبرهم غير مقطوع بصدقة وغير المقطوع بصدقة ليس من العلم والتكليف بما ليس بمعلوم علماً يقينياً يقبح والقبيح مستحيل في حقل الله تعالى.
ومن يروى عنه هذا القول ابن علية والأصم والجبائي وجماعة من المتكلمين وهذا القول لا شك في بطلانه كما أنه لا شك أن التحقيق هو مذهب الجمهور وهو جواز وقوع التعبد بأخبار الآحاد فالعمل بها قطعي والموافقة لما في نفس الأمر ظنية ولا مانع عقلا ولا شرعاً ولا عادة من بناء قطعي شرعاً على أمر ظني بالنسبة لما في نفس الأمر كما تقدم قريباً.
قال المؤلف:
(فصل)
وقال أبو الخطاب: العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد لأمور ثلاثة الخ
…
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل ان أبا الخطاب قال: ان العمل بخبر الآحاد يوجبه العقل لثلاثة أمور:
الأول: ان الأمور القطعية في الشرع قليلة والأغلب فيه الظنيات فلو علق العمل على القطع لتعطل أغلب الأحكام لندرة القواطع وقلة مدارك اليقين.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة ولا تمكن مشافهة جميعهم ولا إبلاغ جميعهم بالتواتر.
الثالث: ان العدل الراوي لخبر الواحد مظنون الصدق لعدالته والظن أرجح من مقابله والعمل بالراجح يوجبه العقل فمتى ترجح وجود أمر الله ورسوله بأخبار العدل فالعمل له اذن أرجح من مقابلة فالعقل يقتضيه ، وأجاب المخالفون عن الأمور الثلاثة بأنه لا يلزم من عدم التعبد به تعطل الأحكام لامكان البقاء على البراءة الأصلية واستصحاب العدم الأصلي وكذلك الظن الناشئ منه قالوا لا يرفع حكم اليقين الثابت بالبراءة الأصلية واستصحاب العدم الأصلي قالوا والنبي صلى الله عليه وسلم يكلف بتبليغ من
أمكنه تبليغه من أمته دون من لم يمكنه.
قال مقيده عفا الله عنه: -
التحقيق ان العقل بالنظر إليه وحده لا يمنع التعبد بخبر الواحد ولا يوجبه فكلا القولين المتقدمين باطل بلا شك أعني قول من قال يمنعه العقل كالأصم والجبائي وقول من قال يوجبه وهو أبو الخطاب فالعقل يجيز التعبد به ولا يمنعه ولا يوجبه وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى.
قال المؤلف:
(فصل)
فأما التعبد بخبر الواحد سمعا فهو قول الجمهور خلافاً لأكثر القدرية وبعض أهل الظاهر ولنا دليلان قاطعان الخ
…
خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا الفصل أن التعبد بخبر الواحد بالنظر إلى الحكم الشرعي فهو مراده بقوله سمعا هو مذهب الجمهور خلافاً لأكثر القدرية
وبعض أهل الظاهر وان للجمهور دليلين قاطعين على التعبد به شرعاً ، الأول: إجماع الصحابة رضي الله عنهم في وقائع لا تنحصر على قبوله كرجوع أبي بكر لقول المغيرة ابن شعبة ومحمد بن سلمة في ميراث الجدة لما أخبراه أنه صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس ومنها رجوع عمر
رضي الله عنه إلى قول المذكرين في دية الجنين أنه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بغيرة عبد أو وليدة ومنها رجوع عمر إلى قول الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وكرجوعه إلى قول عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم اخذ الجزية من مجوس هجر ومنها رجوع عثمان رضي الله عنه إلى قول فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالسكنى في دار زوجها لما قتل حتى تنقضي عدتها إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تنحصر (1)
والمقصود المثال لا حصر جميعها وقد جاء عنهم التصريح برجوعهم عما كانوا يرونه لنفس تلك الأخبار التي هي آحاد كما جاء في بعض روايات حديث الغرة في الجنين أن عمر قال لله أكبر لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره عند أبي داوود وغيره كما روي عنه أنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها حتى أخره الضحاك بن سفيان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) ومن اقواها واصرحها تحول بني سليم إلى الكعبة وهو في صلاة الظهر لما اخبرهم رجل واحد انه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح إلى الكعبة فاستداروا إليها حالا.
كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وكان قد قتل خطأ وأمثال هذا كثيرة فان قيل قد جاء ما يدل على ترك العمل بخبر الواحد في وقائع أخرى كعدم قبوله صلى الله عيه
وسلم لخبر ذي اليدين لما قال له أقصرت الصلاة أن نسيت وأخبره أنه سلم من أثنتين ولم يقبل أبو بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة حتى شهد معه محمد ابن مسلمة ولم يقبل عمر خبر أبي موسى في الاستئذان ثلاثاً حتى شهد معه أبو سعيد الخدري ولم تقبل عائشة خبر ابن عمر في حديثه أن الميت يعذب ببكاء أهله فالجواب من وجهين: الأول: ان هذا اعتراف من المخالف بقبول خبر الآحاد وإذا فهو إقرار منه بمحل النزاع لأن شهادة محمد ابن مسلمة مع المغيرة وأبي سعيد مع أبي موسى لا تنقل الخبر من كونه آحاداً لأن خبر
الاثنين آحاد كما ترى. الثاني: ان تلك الوقائع ليس فيها ما يدل على عدم قبول خبر الآحاد لأن عدم تصديق النبي صلى الله عليه وسلم لذي اليدين لأنه كان يظن خلاف ما اخبر به ولذا قال له كل ذلك لم يكن أي لم أنس ولم تقصر الصلاة أي في ظني ولا يكلف الإنسان بقبول خبر هو يظن عدم صدقة ولما أخبره الصحابة بصدق ذي اليدين أتم صلاته وسجد للسهو وهذا هو الصواب في الجواب عن هذا خلافاً لما ذكره المؤلف رحمه الله من أن الجواب عنه أن عدم تصديقه صلى الله عليه وسلم لذي اليدين ليعلمهم أن هذا الحكم لا يؤخذ فيه بقول الواحد
لأنهم كانوا خلفه صلى الله عليه وسلم كثيرين جداً وفيهم من هو أضبط للصلاة وأحرص على كمالها من ذي اليدين فكان انفراده بالتنبيه على ذلك دون جميعهم بعيداً ولذا لم يصدقه حتى أخبره غيره
…
وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يرد قول المغيرة وانما طلب الاستظهار بشهادة آخر معه ولو لم يجد غيره لقبله منفرداً كقول إبراهيم بلى ولكن ليطمئن قلبي.
وأما عمر رضي الله عنه فانه قال لأبي موسى سداً للذريعة ليلا يكون الناس كلما توجه إلى أحد منهم لوم وضع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع به عنه ذلك اللوم وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه غير مكذب ولا متهم لأبي موسى ولكنه خشي أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما عائشة فهي لم تكذب ابن عمر بل قالت انكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطئ كما ثبت عنها رضي الله عنها في الصحيح.
وفي رواية عنها في الصحيح أيضاً أنها قالت رحم الله أبا عبد الرحمن تعني ابن عمر سمع شيئاً فلم يحفظه الخ
…
ولكنها ظنت أنه غلط لاعتقادها أن ما أخبر به مخالف لقوله تعالى: ((ولا تز وازرة وزر أخرى)) لأن بكاء أهل الميت ليس من فعله فلو عذب به لكان من مؤاخذته بعمل غيره والقرآن ينفي هذا ومن هنا ظنت أنه غلط ظن شخص غلط شخص معين في حادثة معينة لسبب معين ليس فيه البتة ما يقتضي رد قول ذلك المخبر مطلقاً كما ترى مع أن الصواب في هذه المسألة مع ابن عمر رضي الله عنهما وليس الأمر كما ظنت عائشة رضي الله عنها
وتوجيهه عند العلماء من أربعة أوجه ، الأول: ان ذلك الميت أوصى أهل بالبكاء عليه كقول طرفة ابن العبد في معلقته:
وحينئذ فتعذيبه بفعله الذي هو أمره وايصاؤه بالمنكر.
الثاني: أن يعلم أن أهله يفعلون ذلك بعد موته ولم ينههم عنه لأن الله يأمره بنهيهم عن ذلك المنكر كما قال تعالى: ((قوا أنفسكم وأهليكم ناراً)) وتعذيبه اذا بتقصيره وإهماله ما أمره الله به من نهي أهله عن المنكر. الثالث: ان معنى تعذيبه ببكاء أهله توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به.
الرابع: أن معنى تعذيبه تألمه بما يقع من أهله من النياحة وغيرها قال ابن حجر في الفتح وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه ونصره ابن تيمية وجماعة ن المتأخرين واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة ومحل الشاهد في كلامه من حديثها قوله صلى الله عليه وسلم: (فو الذي نفس محمد بيده ان أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم) قال: وهذا حديث طويل حسن الإسناد أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم.
الدليل الثاني: ما تواتر ما إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءة ورسله وقضاته وسعاته إلى الأطراف لتبليغ الأحكام والقضاء وتبليغ الرسالة ومن المعلوم أنه كان يجب عليهم تلقي ذلك بالقبول ليكون مفيداً والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغهم الرسالة ولم يكن ليبلغها بمن لا يكتفي يه وهذا دليل قاطع على قبول أخبار الآحاد.
وقال البخاري في صحيحه باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الآذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام قول الله تعالى: ((فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون)) ويسمي الرجل طائفة لقوله تعالى: ((وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا))
فلو اقتتل رجلان دخل في معنى الآية.
وقوله تعالى: ((ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)) وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءة واحداً بعد واحد فان سها أحد منهم رد إلى السنة ثم ساق رحمه الله أحاديث في وقائع متعددة كلها دجالة على الزامه صلى الله عليه وسلم بقبول خبر الآحاد فانظر ها فيه ان شئت ومراد البخاري رحمه الله أن العمل بخبر الواحد دل عليه الكتاب والسنة فمن الآيات الدالة عليه قوله تعالى: ((فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة)) الآية.
لأن تلك الطائفة لم يقل أحد بشرط بلوغها عدد التواتر مع أن الله يلزم بقبول خبرها في قوله: ((ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم لعلهم يحذرون)) بل ذكر البخاري أن الطائفة تصدق بالرجل الواحد ، واستدل على ذلك بالآية التي ذكرنا آنفاً وقد سبقه للاستدلال بالآية على ذلك الشافعي ومجاهد رحمهم الله تعالى. ومن الآيات الدالة على قبول خبر الواحد قوله تعالى:((يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)) الآية.
فانه يفهم من دليل خطاب هذه الآية أعني مفهوم مخالفتها ان ذلك الجائي بنبأ لو كان غير فاسق بل كان معروفاً بالعدالة والصدق فانه لا يلزم التبين في خيره على قراءة فتبينوا ولا التثبيت على قراءة فتثبتوا بل يلزم العمل به حالا من غير تبين ولا تثبت والتحقيق اعتبار مفهوم المخالفة كما تقرر في الأصول خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: -
دليل ثالث وهو أن الإجماع انعقد على قبول قول المفتي فيما يخبر به عن ظنه فما يخبر به عن السماع الذي لا يشك فيه أولى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: -
(فصل)
وذهب الجبائي إلى أن خبر الواحد انما يقبل اذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنان ثم يرويه عن كل واحد منهما اثنان إلى يصير في زماننا إلى حد يتعذر معه إثبات حديث أصلا الخ
…
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن لجبائي قاس الرواية على الشهادة وهذا مذهب باطل بإجماع من يعتد به من العلماء. فرواية المرأة كرواية الرجل وليست شهادتها كشهادته.
ورواية النساء مقبولة في الدماء والحدود ونحو ذلك ولا تقبل شهادتهن في ذلك والشهادة في الزنا لا بد فيها من أربعة والرواية فيه لا تحتاج إلى ذلك إلى غير ذلك من الفوارق بينها التي لا نزاع فيه بين أهل العلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: -
ويعتبر في الراوي المقبول روايته أربعة شروط: الإسلام والتكليف والعدالة والضبط الخ
…
اعلم أن الكافر لا تقبل روايته على التحقيق ولو كان متأولا معظماً للدين لأن منصب القبول لا يستفاد بغير الإسلام وخلاف من خالف في هذا لا يعول عليه وأما غير المكلف كالصغير والمجنون فلا
تقبل روايته أيضاً على التحقيق أما المجنون فلا تقبل مطلقا لا في التحمل ولا في الأداء وأما الصبي فيقبل في التحمل دون الأداء على التحقيق والمعنى أنه ان سمع الحديث من النبي فتحمله عنه وهو صغير عاقل ثم أداه بعد بلوغه قبل كما هي حالة رواية ابن عباس والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير والنعمان بن بشير وأضرابهم أما لو أداه في حال
صغره فانه لا تقبل روايته لكونه لا يخاف الله ولا يعرفه ولو فرضنا أنه يعرفه فهو يعلم أن الصبي مرفوع عنه القلم فلا يخاف عاقبة الكذب ولأنه لا يقبل قوله فيما يخبر
به عن نفسه وهو الاقرار فما يخبر به عن غيره أولى بعدم القبول ولا ينتقض هذا بالعبد فان إقراره لا يقبل مع أن روايته مقبولة لأن المانع من قبول إقراره هو حق سيده الذي يملكه وليس لأحد إقرار بملك غيره مع أن قوماً أجازوا إقراره في العقوبات البدنية وهو مذهب مالك وقول من قال من العلماء بقبول شهادة الصبيان فيما يقع بينهم من الجنايات لا يرد على ما ذكرنا لأنه من قبيل الاستدلال بالقرائن اذا كثروا وأخبروا قبل التفرق مع مسيس الحاجة لذلك لكثرة وقوع الجنايات بينهم وانفرادهم غالبا عن غيرهم وأما الضبط فلا خلاف في
اشتراطه فلا تقبل رواية غير المميز ولا المجنون ولا المغفل الذي لا يحسن ضبط ماحفظه ليؤديه على وجه فلا ثقة بقوله وان كان غير فاسق والضبط في اللغة هو حفظ الشئ بالحزم وفي الاصطلاح هو كون الراوي غير كثير الغلط والخطأ بل خطؤه نادر ويعرف ذلك بمخالفته للجماعة المشهورين بالعدالة والضبط فمن كثرت مخالفته لهم فليس بضابط فلا تقبل روايته ومن ندرت مخالفته لهم فهو الضابط المستكمل لهذا الشرط قال في طلعة الأنوار معرفاً للضابط:
كذاك لا يقبل إلا من ضبط
…
من زايل الخطأ كثيراً والغلط
بالضابطين اتعبرن فإن غلب
…
وفق فضابط وإلا يجتنب
وأما العدالة فلا اختلاف في اشتراطها في الراوي والعدالة في اللغة التوسط وفي الاصطلاح سلامة الدين من الفسق والمروءة من القوادح وعرفها ابن عاصم في رجزه بقوله:
والعدل من يجتنب الكبائرا
…
ويتقى فى الأغلب الصغائرا
وما أبيح وهو في العيان
…
بقدح في مروءة الانسان.
وقال بعض علماء الأصول: العدالة هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروؤة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقة فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفاً وازعاً عن الكذب وخلاف أهل الأصول في اشتراط الملكة المانعة من فعل ما يخل بالدين والمروءة مشهور وممن جزم باشتراط الملكة فيها صاحب جمع
الجوامع والغزإلى والأبياري والفهري وغيرهم وأكثر أهل على أن العدل هو من يجتنب الكبائر مطلقاً وصغائر الخسة مطلقاً كسرقة لقمة وتطفيف جبة لدلالة ذلك على سقوط مروءته وساقط المروءة لا ثقة بقوله ويجتنب صغائر غير الخسة في أغلب الأحوال ويجتنب ما يخل بالمروءة عرفاً من المباحات كالبول في الطريق والأكل في السوق لغير سوقي ونحو ذلك وظاهر كلامهم سواء كان الاجتناب بسبب ملكه أي هيئة راسخة في النفس ومجاهدتها دون فعل ذلك وهذا هو الأظهر عندي وممن ما ل اليه ابن حلولو في الضياء اللامع والعبادي في الآيات البينات
والله تعالى أعلم ، واعلم أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة لاشعاره بعدم التقوى من فاعله ، قال في المراقي:
ولا صغيرة مع الإصرار
…
المبطل الثقة بالأخبار
وخلاف العلماء في حد الكبيرة معروف فلا نطيل به الكلام هذا وما ذكره المؤلف من اشتراط العدالة يعلم منه أنه لا تقبل رواق فاسق وهو كذلك كما نص الله على ذلك في قوله: ((ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هو الفاسقون)) الآية.
وقوله: ((ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)) أما ان كان فسقة بارتكاب كبيرة كقذف المحصنات ونحو ذلك فلا
خلاف في عدن قبول روايته وأما ان كان فسقة عن تأول كبعض أهل الأهواء الذين لم تبلغ بهم بدعهم الكفر البواح فاختلاف أهل الأصول والحديث في قبول رواياتهم معروف فأما من كان منهم برى أن الكذب لترويج بدعته جائز كالخطابية وغيرهم فلا تقبل روايته قولا واحدا وكذلك من يدعو منهم إلى بدعته أما الذي لا يدعو إلى بدعته ولا يرى جواز الكذب بل عرف الصدق والتحرز من الكذب
واحترام الدين فأكثر أهل العلم على قبول روايته لأن صدقه مما يغلب على الظن وقد روى الشيخان وغيرهما من جماعة من المبتدعة من خوارج ومرجئة وقدرية وممن اخرج له البخاري عمران بن حطان وهو القائل في ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يمدحه على ذلك.
يا ضربة من تقى ما أراد بها
…
إلا يبلغ من ذى العرش رضوانا
إنى لأذكره من غوى فأحسبه
…
أوفى البرية عند الله ميزانا
ولقد صدق من رد عليه بقوله:
بل ضربة من غوى أوردته لظى
…
وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
وفي هذه المسألة أعني الرواية عن أهل البدع كلام كثير للعلماء لم نطل به الكلام وأظهره هو ما ذكرنا والله تعالى أعلم وانما العدالة بواحد من ستة أمور:
الأول: الاختبار بالمعاملة والمخالطة التي تطلع على خبايا النفوس ودسائسها.
الثاني: التزكية ممن ثبتت عدالته وهي أخبار العدول المبرزين عنه بصفات العدالة.
الثالث: السماع المتوتر أو المستفيض عنه أنه عدل فمن اشتهرت عدالته
بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بالعدالة كفى ذلك في ثبوت عدالته كمالك والسفيانين والأوزاعي والشافعي وأحمد وأشباههم.
الرابع: قضاء قاض بشهادة شاهد ان كان معروفاً عنه أنه لا يحكم بعلمه أو لم يكن عالماً بالواقعة مع شهرته بالعدالة وعدم الحكم بقول غير العدل أو مجهول الحال فان احتمل أنه حكم بعلمه لا بشهادة الشاهد فليس ذلك تعديلا له. وحكى ابن الحاجب الإجماع على أن حكم القاضي بشهادة الشاهد نحو ما ذكرنا له والظاهر أنه لا يخلو من خلاف.
الخامس: أن يروي عنه من عرف من عادته أو من لفظه أنه لا يروى الا عن العدل كالبخاري في صحيحه ومالك فان تلك الرواية عنه تعديل له ، وذهب جماعة من علماء الحديث إلى أن ذلك ليس تعديلا له لاحتمال مخالفته عادة وكونه ذلك تعديلا له هو اختيار الأصوليين أما ان كان يروى عن غير العدل فليست روايته عن شخص تعديلا له قولا واحدا.
السادس: أن يعمل عالم بروايته بشرط أن يعرف من لفظ ذلك العالم أو عادته أنه لا يعمل الا بقول العدل وعلى هذا جماعة من الأصوليين وقالت جماعة من أهل الحديث ليس عمل العالم بروايته تعديلا له ولا تصحيحاً لمرويه لجواز أن يكون عمل به احتياطاً أو في فضائل الأعمال التي أجاز بعضهم العمل فيها بالضعيف بشرطه المعروف في علم الحديث.
قال مقيده عفا الله عنه: -
ان كان العمل المذكور في الترغيب أو كان أحوط فالظاهر أن العمل له لا يستلزم تعديل رواية أما ان كان ليس من مواضع الترغيب وكان الاحتياط في ترك العمل به كما لو دل المروي المذكور على جواز أخذ مال إنسان أو عقوبته وكان العالم الذي عمل به لا يعمل الا برواية العدل فالظاهر أن عمله بروايته حينئذ تعديل له وقطع بذلك العبادي في الآيات البينات