الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
هذا كتاب يخرج على الناس بعدما بقي حبيس الأدراج نصف قرن، وبعدما كدت أظن أنه لن يُنشر أبداً. وهذه هي القصة:
لما وفدت على المملكة من نحو ربع قرن للدراسة كنت أزور جدي رحمه الله في بيته في مكة يومين أو ثلاثة أيام من آخر كل أسبوع، وكنت أمضي معه كثيراً من الوقت بين الكتب والأوراق؛ أشتغل فيما يشغّلني به من فرز وتصنيف وأنفّذ ما يكلفني به من تجميع وفهرسة وترتيب. فكان أن عرفت يومئذ -فيما عرفت- أن تحت يدي جدي عدداً من الكتب لا تحتاج لإخراجها إلى غير جهد يسير؛ من ترتيب أو تجميع أو تحرير أو تكميل. ولطالما حملتني الحماسة أو شاقني الأمل فألححت عليه أن نشتغل فيها لإتمامها وإخراجها، ولكن جدي رحمه الله الذي كان فيه من الفضائل والمزايا الكثير كان كثير التسويف كثير التأجيل، فكان يؤجل العمل في كل أسبوع إلى الأسبوع الذي يليه، وفي كل شهر إلى الشهر الذي بعده.
ومرت على ذلك أربع وعشرون سنة، ولم أعد أظن أن الكتب ستُنشر
قط. وأنّى؟ وبقية الهمّة التي حملها جدي معه ثمانين عاماً قد خبتْ -في السنين العشر الأواخر من حياته- نارُها وخفتَ أُوارُها؛ فما عادت له في العمل رغبة ولا عليه طاقة. عندئذ نسيت الموضوع كله فما عدت أذكر هذه الكتب.
…
ثم غادر رحمه الله رحمة واسعة- هذه الدنيا إلى دارٍ هي له خيرٌ منها إن شاء الله. وما تركه من علم أحرى أن يُنشر بين الناس فينتفع به الناس ويكون له أجراً مدّخراً في آخرته وأنيساً له حيث ليس غير العمل الصالح من أنيس، فلم يجد الذين أحبوه حياً وأحبوه ميتاً ما يهدونه له خيراً من نشر ما لم يُنشر مما كتب؛ لعله يكون العلمَ الذي يُنتفَع به فلا ينقطع أجره أبداً بإذن الله.
وهكذا بدأ العمل لإخراج هذه الكتب. وإني لأسأل الله أن يوفق إلى إتمامه، وأن تصدق فيه نية من يعمل به ولا يُحرم المشاركة في الأجر فيه، وأن يكون في ميزان جدي يوم توزن الأعمال بين يدي الرحمن الرحيم.
…
فما الذي صنعته في هذا الكتاب، وما الذي سأصنعه في الكتب الباقية التي أرجو أن يوفق الله إلى إخراجها عما قريب؟
جمعت -أولاً- سائر ما استطعت جمعه من أصول مما لا يزال مخطوطاً ومما نُشر من قبل في الصحف، فاستبعدت ما نُشر منها في الكتب التي أصدرها جدي في حياته، ثم ذهبت أتتبع الخطة التي كانت في ذهنه لإخراج كتب بأعيانها، مستعيناً -في ذلك- بما وجدته بين أوراقه من
قصاصات أو إشارات. بعد ذلك اشتغلت بفرز المقالات والفصول التي تجمعت عندي وتبويبها بحيث تستغرق كل مجموعة منها كتاباً. وبدأت بهذه المقالات القصيرة التي شكلت الجزء الثاني من كتاب «مقالات في كلمات» .
أما الجزء الأول فموجود متداول بين أيدي الناس منذ أربعين سنة حين صدرت طبعته الأولى. ومبدأ هذه المقالات -كما جاء في مقدمة جدي للكتاب- أن صاحب جريدة «النصر» ، وديع الصيداوي، طلب إليه عام 1949 أن يكتب عنده زاوية يومية بعنوان «كل يوم كلمة صغيرة» ، فمشى بها زماناً. ثم انتقل إلى جريدة «الأيام» عند نصوح بابيل، واستمر بها سنين. قال في المقدمة التي كتبها للطبعة الجديدة من الكتاب عام 1990:"وجاءت (أي هذه المقالات) بأسلوب جديد، أقرؤه الآن فأرتضيه -ولست أرتضي كل ما كنت كتبت- ولكن موضوعاتها يومية يموت الاهتمام بها بموت يومها. وقد استمرت سنين فتجمّع لديّ منها مئات ومئات. فلما ألّف الدكتور مصطفى البارودي وإخوان له من الشباب (أعنى الذين كانوا شباباً في تلك الأيام) لجنةً للتأليف والنشر دفعتُها إليهم ليختاروا منها ما يجمعوه في الكتاب الذي طلبوه مني، واختاروا طائفة منها في كتاب صغير دعوه «كلمات». ثم نشرتُ مجموعة منها أكبر في كتاب «مقالات في كلمات» وبقي عندي منها الكثير الكثير". وفي مقدمة الطبعة الأولى التي كُتبت عام 1959: " كنت في سنة 1949 أكتب في جريدة «النصر» أولاً ثم في «الأيام» آخِراً كلمات بعنوان «كل يوم كلمة صغيرة». ولبثت على ذلك سنوات اجتمع لديّ فيها ركام منها، منه ما لا يُقرأ إلا في يومه، وقد أهملته واطّرحته، ومنه ما يُقرأ في كل الأوقات، وقد اخترت منه هذه الكلمات".
فمن هذه الكلمات القصيرة، مما لم ينشر في الكتاب السابق، اخترت معظم مقالات هذا الكتاب؛ وهي تقع في القسم الأول منه الذي يشكل
الجزء الأكبر فيه. ولكني لم أقتصر على كلمات تلك الزاوية اليومية، بل ضممت إليها بعض المقالات القديمة التي كتبها جدي في مطلع حياته وهو في أول العشرينيات من عمره؛ وهي تشكل القسم الثاني من الكتاب (ولم أجد من هذه المقالات الكثير، بل هي سبع لا غير). وكذلك وضعت -في القسم الثالث منه- مجموعة من المقالات التي نقلتها عن أصول مخطوطة، أُذيعت من إذاعة المملكة ورائيها من نحو ثلث قرن ولكنها لم تُنشر من قبل قط، لا في صحيفة ولا في كتاب ولا في أي مكان.
…
ولكن ما الذي صنعته سوى اختيار المقالات وتجميعها وتبويبها؟
علمتُ -بادئ ذي بدء- أن جدي ما كان ليقبل أن يعبث بكتابته أحد؛ فلم أتجرأ على شيء من ذلك، وحرصت على أن أنقل ما كتب بالشكل الذي كتب. ولكني اضطررت إلى الاجتهاد في بعض المواقع وأنا أقف أمام خطأ مطبعي واضح مما نُشر في صحيفة ولم يمر عليه قلم جدي بالتصحيح (وقليلة هي المقالات التي عاد إليها بالتصحيح، على كثرة أخطاء الطباعة) أو وأنا أحاول فك رموز جملة مخطوطة (وخط جدي كان -إذا استعجل فيه- من الرموز التي لا يفهمها غير الخاصة)، على أنه لم يكن اجتهاداً مطلقاً بل هو مقيد بما أعرفه من مفردات جدي التي تدور على قلمه أو تعبيراته التي تتكرر في كتاباته. وأرجو ألا أكون قد أغربت.
ثم كان عليّ أن أضع للمقالات عناوين؛ إذ أن أقل القليل منها قد حمل عنواناً بخطه، لأنها كانت- في الأصل- مقالات قصيرة بلا عنوان تحت عمود يومي ذي عنوان، وآمل أن أكون موفقاً فيما اجتهدت فيه من ذلك.
وأخيراً تجرأت فوضعت بعض الهوامش في مواطن معدودة حيث أحسست بحاجة لهامش، ولكني لم أخلط ما أدرجته من ذلك بالهوامش الأصلية التي كتبها جدي لمقالاته وميزتها عنها باسمي بين قوسين.
…
ذلك كل ما صنعته لا أكاد أزيد عليه. وما هو بالعمل الجليل ولا بالجهد الكبير، ولكن طمعي في المشاركة بالأجر يحملني على أن أسأل من قرأ هذا الكتاب فوجد فيه نفعاً (وهو لا بد فاعل) أن يدعو لكاتبه ولا ينسى جامعه من الدعاء.
ولن أنسى -ختاماً- أن أشكر بنات الشيخ رحمه الله؛ أمي وخالاتي، اللائي آثرنني بهذا العمل فأتحن لي أن أكون شريكاً في الأجر فيه، وكذلك زوج خالتي، نادر حتاحت، الذي كان لجدي -ما علمتُه- خير ما يكون ابنٌ بار لأبٍ محب، والذي ينشر -اليومَ- هذا الكتاب.
مجاهد مأمون ديرانية
جدة: منصرم عام 1420